نروي الحكاية، نستعيد الجبل

من فعاليّات الإرباك الليليّ في جبل صبيح

 

مزنّرًا بالبلدات العربيّة، ومطلًّا عليها وعلى حياة ناسها، يجثو جبل صَبيح على مرتفع من الأرض يبلغ زهاء 650 مترًا فوق سطح البحر، وهو يتوسّط ثلاث قرًى في مشاريق نابلس، هي بيتا شمالًا، وقبلان ويتما جنوبًا.

كان الجبل على مدار عقود مسكونًا بالهدوء، نائمًا ليله تحت ضوء القمر، ناهضًا في صباحاته على وقع أقدام فلّاحي القرى الثلاث الّتي تتقاسم ملكيّة أرضه؛ إذ يُبْكِرون إليه وهم يحثّون دوابّهم وينهرونها للإسراع، ليبدؤوا عملهم قبل أن تنهض عين الشمس الحمراء فتلهب ظهورهم وجباههم، وذلك قبل أن نعرف الاحتلال ومستوطنيه.

 

جغرافيّة الجبل

يقع جبل صَبيح في سلسلة جبال نابلس (الجبال الوسطى)، وهو وعِر في تضاريسه إلّا في قمّته المنبسطة كأنّها سهل صغير، يطلّ على المنحدر الشماليّ الّذي يأخذ شكل القوس، والمعروف لدى الأهالي بـ «المحوّطة»، وهي منطقة متدرّجة في مساطبها نحو الواد وبلدة بيتا.

غير أنّ ثمّة رأيًا يقول إنّ كلمة «صَبيح» تحوُّر من كلمة «صُبوح»، وهي سيّدة يرتبط اسمها بالجبل، ويقصدون بها: صبوح عثمان علايا - رحمها الله - وهي زوجة شيخ ناحية بيتا، عمر مصطفى عديلي...

ومحيط الجبل وما حوله من خِلال ووديان وهضاب مغروس بأشجار الزيتون، الّتي تطوّق رسومها ومساطبها السلاسل الحجريّة القديمة المبنيّة بتناغم وانسجام يشبه طبيعة المكان وشخصيّة ناسه. وفي الطرف الشرقيّ من الجبل بقايا موقع أثريّ قديم يُعْرَف باسم «وعرة الدرجات»، وهي منطقة وعرة بصخرها وانحدارها، وفيها حويطة من الحجارة المتهدّمة، وقطع فخّار متناثرة من فترات متفاوتة.

كما توجد خِرَب في محيط الجبل الجنوبيّ والجنوب الشرقيّ، وبحسب المسح الأثريّ فإنّها كانت مسكونة من العصر البرونزيّ حتّى الفترات الإسلاميّة، ومن هذه الخرب: راس الدير، وراس المنطار، والقراوة، وسمارة، والعفريت[1]. وقد شكّل بعض هذه التلال الأثريّة محارس لطريق القوافل، الّتي كانت تنحدر من زعترة شرقًا إلى بير الجناب[2]؛ لتروي عطشها وتملأ جرارها من ماء النبع، قبل أن تستأنف طريقها عبر واد الجناب لتعود على سكّة طريق نابلس - القدس القديم[3]


السيّدة صبوح

«صَبيح» اسم علم مذكّر يسمّى به الفتى المشرق المحيّا الوضيء الوجه، أو نقوله لعريض الجبهة (الصباح)، كأنّه صباح الشمس لحظة طلوعها، وتسمّى الأنثى: صُبْح وصبيحة وصُبوح، والعرب تمتدح صباحة الوجه وتحمده.

وخلال بحثنا عن اسم «صَبيح» المنسوب إليه الجبل، لم نجد في بلدة بيتا أو البلدات الّتي تتشارك معها ملكيّته مَنْ يعرف إلى مَنْ نُسِبَ الجبل قديمًا، وذهبنا نبحث في السجلّات القديمة فلم نعثر على ضالّتنا. يقول البعض: لعلّ التسمية جاءت من موقعه، حيث تطلع شمس الصباح على الجهة الغربيّة الجنوبيّة من بيتا، من طرف الجبل الشرقيّ، فكأنّه أوّل مبشّريها بالصباح؛ ولذا سمّي «صَبيحًا»[4]

غير أنّ ثمّة رأيًا يقول إنّ كلمة «صَبيح» تحوُّر من كلمة «صُبوح»، وهي سيّدة يرتبط اسمها بالجبل، ويقصدون بها: صبوح عثمان علايا - رحمها الله - وهي زوجة شيخ ناحية بيتا، عمر مصطفى عديلي، الّذي كانت له المشيخة على بيتا و16 قرية أخرى في محيطها، وذلك حتّى عام 1871م[5]

يعزّز هذا القول وثيقة في سجلّات المحكمة الشرعيّة بنابلس، تشير إلى أنّ جبل صَبيح كان من إقطاع مشيخة آل عديلي، قبل أن يُمَلَّك للفلّاحين الّذين يعملون فيه.  

 

فِلاحة وغِراس

ما إن يهلّ موسم القيظ في الصيف، حتّى يسارع الفلّاحون للانتقال خارج بيوتهم في الأرياف للعيش في الكروم والحقول، فيعيشون في جبالهم المزروعة بالعنب والتين واللوز، ويبيتون هناك في قصور ونواطير وعرائش تُبْنى لأجل هذا الموسم، ويصطحبون معهم دوابّهم ودواجنهم، ويمكثون هناك حتّى تهلّ شتوة المساطيح[6]، ثمّ يعودون لهذه الأرض لقطف ثمار الزيتون في التشرينَيْن.

يقول ملّاك الجبل إنّهم منذ تكوّرت الأرض وهم يعزّبون في الصيف في جبل صَبيح وما حوله، وإلى وقت قريب كانت قصور الحجر (النواطير)، ومساطيح التين والعنب، قائمة في الحواكير والعمائر تشهد على فلاحتهم وزراعتهم. بل إنّ بعض أهالي بيتا طابت له تلك العيشة، فهجر قريته وعاش ردحًا من الزمن في تلك القصور (النواطير)، ويستشهدون على ذلك بقبر الحاجّة مطيعة الأعرج (أمّ جمعة) رحمها الله، الّتي دُفِنَت شمال جبل صَبيح[7]

 

أفراح وأعراس 

لبلادنا عاداتها الغريبة باستقبال فاردة العروس؛ إذ يهرعون لملاقاتها بزفّة تليق بها قبل أن تطأ قدماها حدود قرية زوجها، ولا سيّما فترة صراعات القيس واليمن في مشاريق نابلس! حيث كانت الفاردة تضطرّ إلى المرور من قرًى لا تنتمي إلى حزب قرية العريس، ومع الوقت صار هناك نقاط متّفق عليها لملاقاة الفاردة حسب الجهة القادمة منها، ومن ذلك جسر قبلان على شارع نابلس - القدس، وزيتونة «إمّ العرايس» على طريق باب الذيّقة - نابلس. 

وإلى وقت قريب، كان الناس يشيرون إلى ما يعتقدون أنّه أشخاص متحجّرون على جدران المغارة، كما يوجد مجسّم حجريّ يُقال إنّه كان للجمل وعلى ظهره العروس، غير أنّه تآكل مع الوقت. 

 

الحاصلته، وعلى ذمّة الراوي، أقبلت فاردة إلى قرية بيتا في الزمانات الغابرة، ومشت الفاردة والعروس على ظهر جملها، والحادي يطربهم بأقواله، حتّى إذا وصلوا إلى شرق جبل صَبيح في موقع يُعْرَف اليوم بـ «مغارة البالعة»[8]، وقفت الفاردة وصارت الهيصة على أصولها، و"حُطّ الديّة ع الديّة وبدنا نفرحلك يا خيّة".

يقول الناس إنّ غناء الحادي علا في الزفّة وهو يقول: "جبناها بعزمنا وعزم إرجالنا"؛ يقصد أنّهم أحضروا العروس دون أن يخضعوا لقرى الخصم أو يدفعوا لشبابها «شاة الشباب»[9]، فسخطهم الله من ساعتهم تلك. وقيل إنّ سيّدة من جملة المحتفلين استخدمت «شقفة خبز» كمَحْرَمة لتنظّف طفلها، وعلى إثر ذلك سخطهم الله، فابتلعتهم «المغارة البالعة».

وإلى وقت قريب، كان الناس يشيرون إلى ما يعتقدون أنّه أشخاص متحجّرون على جدران المغارة، كما يوجد مجسّم حجريّ يُقال إنّه كان للجمل وعلى ظهره العروس، غير أنّه تآكل مع الوقت. 


إلى الحرّيّة

إنّ علاقتنا بـجبل صَبيح أبعد من كونه مجرّد جبل مرتفع يشكّل حدًّا لأراضي بيتا، الّتي تأبى الاستيطان، إنّها علاقة متداخلة بحبيبات التراب المجبولة بحكايا الناس وذكرياتهم، وجذور غراسهم الّتي سُقِيَت من عرق الأجداد، قبل أن تنهض شجرًا وارف الظلال بين الوعر والصخر، إنّها علاقة مجدولة بجبل يشبهنا ونشبهه. ولأجل ذلك؛ يتقدّم الشباب إلى المواجهة بصدورهم العارية، حتّى ينال الجبل حرّيّته المؤذنة بفتح الطريق إلى حرّيّة بلادنا من الاحتلال.

.........

إحالات

[1] انظر: سلمان أبو ستّة، أطلس فلسطين 1917-1966، ط1 (لندن: هيئة أرض فلسطين، 2011).

[2] بئر الجناب: عين ماء شرق شمال بلدة قبلان، في واد الجناب الّذي يربطها ببلدة عقربا شرقًا، والجناب لأنّه متجنّب عن الطريق بعيد عنها.   

[3] طريق نابلس - القدس: أحد الطرق التاريخيّة في فلسطين، يربط بين جبل نابلس ومدينة القدس، وكان في الأصل طريقًا للقوافل، وبجانبه خانات قديمة مثل خان اللبن - خان الساوية. ولا يزال الطريق قائمًا لليوم، مع بعض التعديلات في مساره. 

[4] مقابلات شفويّة: فوّاز أحمد حمايل، مواليد 1975، بيتا، 23/6/2021. صالح معالي أبو مصعب، مواليد 1968، بيتا، 2/6/2021.

[5] غسّان محمّد دويكات، الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في مشاريق نابلس 1214-1336 هـ/ 1799-1918 (جامعة النجاح، 2014) [رسالة ماجستير].  

[6] شتوة المساطيح: شتوة صغيرة تكون في شهر أيلول (سبتمبر)، وهي من مبشّرات دخول فصل الخريف، وسُمِّيَت بذلك نسبة إلى المسطاح الّذي يُجَفَّف التين عليه في موسم المقايضة، وتهلّ هذه الشتوة قبل جمع القطّين.

[7] مطيعة عبد الجبّار صالح الأعرج (أمّ جمعة)، لا يزال قبرها قائمًا في المنطقة المعروفة لدى الأهالي بـ «الحردوب»، وهي بالقرب من المنطقة الّتي تُشْعَل الإطارات فيها لمواجهة البؤرة الاستيطانيّة. 

[8] من المغر الكبيرة في جنوب بلدة بيتا، وتُزار لمشاهدة ظاهرة الهوابط والصواعد الّتي تشكّلت بفعل استمرار تساقط قطرات الماء عبر ملايين السنين. 

[9] في حال تزوّج أيّ فتاة خارج قريتها، فإنّ من حقّ شباب البلدة أخذ مبلغ من المال يُعْرَف باسم «هِدم الشباب» أو «شاة الشباب»، مقابل السماح بخروج الفتاة من بلدتهم.

 


حمزة العقرباوي

 

 

حكواتيّ فلسطينيّ، يهتمّ بجمع الموروث الشعبيّ وما يرتبط بالحياة اليوميّة في فلسطين، من أمثال وأهازيج ومعتقدات وقصص شعبيّة. ينظّم جولات معرفيّة لربط الإنسان بالجغرافيا الفلسطينيّة عبر القصص. يكتب المقالة الثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

مواد الملف

جغرافيا من مسنّنات

جغرافيا من مسنّنات

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

في مديح الْجَدْعَنَة

في مديح الْجَدْعَنَة

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

للحارات شباب يحميها | شهادة

للحارات شباب يحميها | شهادة

 قواعد الاشتباك الأربعون

 قواعد الاشتباك الأربعون

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

الصور الّتي لن تفارقنا

الصور الّتي لن تفارقنا

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها