عشر دقائق وسبع وأربعون ثانية في السجن

 

- اتّصلت شذى؟

- آه، حكتنا يوم الإثنين الماضي.

- قدّيش وقت؟

- 10 دقائق و47 ثانية.

- وكيف هي؟ شو خبّرت؟

- منيحة، وصوتها منيح، إن شالله يكون هيك فعلًا، ومش بسّ ما بدها تقلقنا.

- اِتطمّني، أنا لمّا زرتها آخر مرّة كان انطباعي إنها بصحّة ونفسيّة جيّدة ومتماسكة، ووجودها بالزنزانة مع باقي الصبايا هذا بسهّل عليهم جميعًا، وأنا بكلّ حال بكرة بزيارتها وبطمنّك أكثر عليها.

 

هذا مقطع من محادثتي مع خولة الطويل، والدة الأسيرة شذى الطويل، ابنة الواحد والعشرين عامًا من البيرة، وهي طالبة في «جامعة بير زيت»، اعتُقِلَت منذ الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ومنذ يوم اعتقالها لم يحظَ أهلها - والداها وأخوها - بزيارتها، فقد أُغْلِقَت البوّابات أمام الزائرين جرّاء إعلان حالة طوارئ الكورونا في السجون. لكن، وحين فتحت السجون أبوابها، لم تفتحها أمام الأهالي، وأُبْقِيَ أسيرات الضفّة الغربيّة وأسراها خارج المعادلة، إمعانًا في القمع.

 

زيارة الأسرى في زمن الكورونا

في مرحلة ما، أعيدت زيارات الأهل من القدس بينما بقي أهل الضفّة خارج هذا الترتيب، بحجّة عدم التطعيم؛ إذ تلقّى أهالي أسرى القدس التطعيم، وبقي أهالي أسرى الضفّة التابعين لإدارة السلطة الفلسطينيّة خارج ترتيب التطعيمات. وقع الأهالي بين شروط وإجراءات إسرائيل والسلطة، واشتراط ربط إصدار التصاريح بإتمام مطاعيم أهالي الأسرى، والسلطة لم تُنْهِ عمليّة التطعيم؛ عائلات كثيرة تلقّت فقط الطعم الأوّل حتّى وقت كتابة هذه الكلمات[1]، وعلى أمل ألّا تكون معوّقات إضافيّة. ستمرّ ثمانية أشهر قبل أن تحظى شذى بزيارة من أهلها.

أكّدت لي شذى (...) أنّه لن تكون زيارات قريبًا قبل بداية شهر حزيران – تمّوز (يونيو – يوليو) 2021؛ إذ تشترط سلطة السجون على الأهالي إبراز البطاقة الخضراء، الّتي لا يملكها حتّى الآن الفلسطينيّون في الجانب الشرقيّ من «الخطّ الأخضر».

 

أكّدت لي شذى - حين زرتها آخر مرّة - الأمر ذاته؛ أنّه لن تكون زيارات قريبًا قبل بداية شهر حزيران – تمّوز (يونيو – يوليو) 2021؛ إذ تشترط سلطة السجون على الأهالي إبراز البطاقة الخضراء، الّتي لا يملكها حتّى الآن الفلسطينيّون في الجانب الشرقيّ من «الخطّ الأخضر».

خولة وزياد، والدا شذى، وأخوها أسعد، لم يَرَوْا شذى منذ اعتقالها من بيتهم في البيرة أمام أعينهم. سبعة أشهر مرّت لم يقدروا فيها على أن يزوروها. زارها محامون، ويترافع في قضيّتها «مؤسّسة الضمير»، وزُرْتُها بصفتي محامية عن «لجنة مناهضة التعذيب» منذ أوّل أيّام اعتقالها؛ إذ علمت قصّتها من خلال نشر قامت به والدتها خولة على فيسبوك. كانت حين زرتها في «معبر الشارون»؛ لأطمئنّ عليها وأسمع منها عن الاعتقال والتحقيق. وما إن خرجتُ يومها من السجن حتّى اتّصل بي والدها للاطمئنان عليها، كما اتّصل بي لاحقًا ليسألني إذا كانت لي زيارة إلى شذى أو إلى السجن؛ ليطمئنّ عليها، فقد شاهدها لدقيقة أو اثنتين عبر الفيديو، في أثناء جلسة تمديد اعتقالها الّتي تجري في المحكمة العسكريّة في «معتقل عوفر»، دون أن تحضر إلى الجلسة، وأيضًا بسبب إجراءات الكورونا، "بدّي أتطمّن عليها"، قال.

 

بتهمة «النشاط الطلّابيّ»

منذ الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، تغيّرت حياة العائلة حين اعتُقلت الابنة البكر بــ «تهمة النشاط الطلّابيّ» في الجامعة، والانتماء إلى الحراك الطلّابيّ الّذي قرّرت دولة الاحتلال أنّه تنظيم غير قانونيّ، وبدأت باعتقال الطلّاب على خلفيّته. لغاية اليوم، عشرات الطالبات والطلبة اعتُقلوا بـ «تُهَم» مشابهة، وتُدار محاكمهم في محكمة الاحتلال العسكريّة. ورغم أنّ بير زيت ليست ضمن مناطق سيطرة إسرائيل رسميًّا، ومن المفروض أنّها تتبع للدولة المستقلّة (دولة فلسطين)! إلّا أنّ الاحتلال يقرّر أيضًا أن يتحكّم بالنشاط الطلّابيّ والحراك السياسيّ هناك، ويقرّر أيّ فصيل قانونيّ وأيّهم خارج عن قانونه. وكي يسيطر على الحالة السياسيّة يشلّ العمل الطلّابيّ من خلال زجّ ناشطاته ونشيطوه في السجون، يضاف هذا إلى تحكّمه بالحواجز وبحياة البشر وبالانتخابات ومجرياتها، ويمنع أهل القدس من التصويت، ويتحكّم بالتطعيمات وتوزيعها، وما إلى ذلك من آليّات سيطرة وقمع.

حاليًّا ثمّة 37 أسيرة ومعتقلة فلسطينيّة في «سجن الدامون»، عدد كبير منهنّ من الطالبات الجامعيّات لم تتجاوز أعمارهنّ مطلع سنوات العشرين، بعضهنّ من «جامعة الخليل» والأغلب من «جامعة بير زيت»، و«التهم» هي ذاتها تقريبًا. الأحكام تتراوح ما بين نصف سنة سجن فعليّ لغاية سنة ونصف. المحاكم عسكريّة، محاكم صوريّة يستمرّ الاحتلال بتنفيذها. حتّى بداية أيّار (مايو) 2021 تأجّلت محكمة شذى سبع مرّات.

سبعة أشهر مضت لم يُطْلَق سراحها ولم يصدر حكم، مثلها مثل باقي رفيقاتها في «سجن الدامون»، عدد كبير منهنّ ما زال رهن الاعتقال. ثمّ صدر القرار في يوم 20 أيّار (مايو) 2021 بالسجن الفعليّ لها 14 شهرًا. بعض رفيقات شذى الطالبات المعتقلات في «الدامون»، صدرت أحكام ضدهنّ تراوحت بين 6 أشهر و18 شهرًا.

 

زمن السجن

في هذا الوضع مع انقطاع الزيارات، فإنّ كلّ دقيقة يحظى بها الأهل بمكالمة مع ابنتهم من السجن، وكلّ دقيقة تُتاح لشذى لسماع صوت أهلها وإن لم ترهم، لا تُقَدَّر بثمن ولا بزمن. المكالمة تحلّ مكان اللقاء وتصبح هي اللقاء بذاته، ولها وقع نفسيّ وعاطفيّ يشبه أثر الزيارة.

في السجن لا تُقاس الدقائق بمدّتها الزمنيّة، بل بالمعاني الّتي تحملها، وفي حياة الأسر لمَنْ عاشها أو عايش تفاصيلها ويعرفها عن قرب؛ فإنّ كلّ إنجاز مهما كان صغيرًا، هو إنجاز كبير القيمة للأسيرة والعائلة.

ليس صدفة أن يأتي جواب الأمّ تلقائيًّا وصادقًا يرصد الثواني المتاحة للمحادثة مع حبيبتها شذى. ليس صدفة أن تقول لي خولة، حين سألتها إن كانت شذى قد اتّصلت وكم من الوقت استمرّت المكالمة: "10 دقائق و47 ثانية"؛ فالـ 47 ثانية لها قيمتها المعنويّة لشذى في «سجن الدامون»، وللأهل في البيرة.

في السجن لا تُقاس الدقائق بمدّتها الزمنيّة، بل بالمعاني الّتي تحملها، وفي حياة الأسر لمَنْ عاشها أو عايش تفاصيلها ويعرفها عن قرب؛ فإنّ كلّ إنجاز مهما كان صغيرًا، هو إنجاز كبير القيمة للأسيرة والعائلة. كلّ زيادة ولو لدقائق للزيارة إنجاز، على غرار «إنّ القليل منك كثير». وفي المقابل، فإنّ كلّ خلل في الزيارات، يترك أثره الصعب.

تعطّل زيارة واحدة يعني انقطاع شهر عن اللقاء والتواصل؛ فهي الإمكانيّة الوحيدة المتاحة عمليًّا في ظلّ منع الهواتف والاتّصال بين الأسير والعائلة، وفي ظلّ الإشكاليّات الكثيرة القائمة بالتواصل من خلال الرسائل البريديّة الّتي لا تصل في الكثير من الأحيان، أو تصل بعد أشهر دون أيّ تفسير منطقيّ، أو تصل مفتوحة وقد انتزعت بعض صفحاتها، وحين تصل يكون ما كُتِبَ فيها قديمًا. فكم بالحريّ حين تكون الزيارة ممنوعة أو غير متاحة لسبعة أشهر!

 

اتّصالات بدلًا من الزيارات

جاءت الكورونا وإجراءاتها، وأوّل مَنْ عانى منها الأسرى وعائلاتهم حين أُغْلِقَت أبواب السجن أمام الزائرين، وانقطعت أوصال الأسرى عن عائلاتهم، وانقطعت أخبارهم، وسادت حالة من التوتّر لدى الأهالي القلقين على أولادهم وبناتهم، وقلق الأسرى على أهاليهم.

حين انقطعت زيارات الأهالي، ومُنِعَ المحامون من زيارة السجون، توجّهت بعض الجمعيّات الحقوقيّة برسالة عاجلة إلى سلطة السجون لمعرفة ماهيّة الإجراءات، والتحذير من أن تتحوّل إجراءات الطوارئ إلى إجراءات عقابيّة للأسرى، وطالبت بإيجاد بدائل لهم. وحين طال الأمر دون إيجاد بدائل، توجّه عدد من الجمعيّات الحقوقيّة بالتماس إلى «المحكمة العليا»، وطلب إتاحة إجراء مكالمات دوريّة للأشبال (القاصرين من الأسرى) بديلًا للزيارات إلى حين انتظام الزيارات، كما طالبت بإجراءات شبيه للأسرى البالغين.

في الصيف الماضي وافقت سلطة السجون على إتاحة الاتّصالات الدوريّة للأشبال. وفي الأسبوع الأوّل من نيسان (أبريل) 2021، وبقرار من «العليا»، وافقت سلطة السجون على إتاحة مكالمة هاتفيّة لكلّ أسيرة وأسير حُرِم من زيارة الأهل بسبب الكورونا، لكنّها أبقت أهل غزّة المحرومين مسبقًا من الزيارات خارج هذا الترتيب، وهو عقاب جماعيّ انتقاميّ يضاف إلى حصار غزّة.

تبيّن سلطة السجون، بموافقتها على هذا القرار، أنّ لديها البنية والإمكانيّة لإتاحة المكالمات للأسرى السياسيّين المحرومين من ذلك في الأوقات العاديّة، وتثبت أنّ فكرة منع المحادثات بحجّة الأمن، وخشيتها من توصيل معلومات أمنيّة بين الأسير وعائلته، هي حجّة واهية...

بالتأكيد لا تعوّض المكالمة عن اللقاء ولا تحلّ محلّه؛ فلقاء الأهل في الزيارات من الناحية الحقوقيّة حقّ أساس، ومن الناحية المعنويّة للأسرى فيه شحن للطاقات والحبّ والأمل باللقاء مهما طال وبدا بعيدًا. لكن تحصيل هذه المكالمة مع واقع غياب الزيارات المؤقّت، الّذي طال بسبب الكورونا أمر لا بأس فيه، وهو ممكن أن يمهّد الأرضيّة للمطالبة القانونيّة مستقبلًا بتحويل المكالمات الهاتفيّة من داخل السجن إلى واقع؛ فقد أثبتت سلطة السجون أنّه أمر ممكن حين تريد، وأنّه أمر ممكن حين نناضل، حقوقيّين وأسرى وأهلًا وناشطين سياسيّين؛ من أجل تحصيله، وهو تجسيد لمقولة أنّ الحقوق تؤخذ ولا تُعطى. والتنازل المسبق أو التسليم بالواقع الصعب والانتهاكات المستمرّة أمر يخدم سلطة السجون، ومقارعتها في المحاكم واجبنا حين يتطلّب الأمر ذلك.

تبيّن سلطة السجون، بموافقتها على هذا القرار، أنّ لديها البنية والإمكانيّة لإتاحة المكالمات للأسرى السياسيّين المحرومين من ذلك في الأوقات العاديّة، وتثبت أنّ فكرة منع المحادثات بحجّة الأمن، وخشيتها من توصيل معلومات أمنيّة بين الأسير وعائلته، هي حجّة واهية، وأداة للقمع والسيطرة والتنغيص، لا أكثر.

 

على أمل اللقاء

فرحت خولة بالمحادثة الّتي استمرّت 10 دقائق و47 ثانية، ورأيت فرحة شذى بها حين زرتها، لم تقدر على أن تشرح لي بالكلمات مشاعرها، لكن تعابير وجهها وابتسامتها كانت كافية للتعبير عن فرحها بالمكالمة مع الأهل، وضحكت حين قلتُ لها إنّ والدتها عدّت الثواني بالمحادثة قبل الدقائق، وقالت: "آه، بتوقّع أمّي تعدهنّ".

فرحت خولة بالمحادثة، ولم تقدر على أن تتأكّد إن كانت ابنتها شذى كما قالت لي "منيحة، وصوتها منيح إن شالله يكون هيك فعلًا، ومش بسّ ما بدها تقلقنا"؛ لأنّها سمعتها ولم تقدر على أن ترى تعابير وجهها الّتي رأيتها بنفسي اليوم. لكنّي طمأنتها مجدّدًا كما وعدتها بعد الزيارة على صحّة شذى ومعنويّاتها العالية.

لن تقدر شذى وأمّها على أن تلتقيا قبل مرور ثمانية أشهر على الاعتقال؛ لا لشيء إلّا بسبب واقع الاحتلال وإجراءات الكورونا التعسّفيّة بين الاحتلال والسلطة الفلسطينيّة والصليب الأحمر، ووقوع الأسرى والأهل في وسط هذه الدوّامة. اطمأنّت خولة لكلامي ووعودي أنّ ابنتها بخير، لكن قلبها، قلب الأمّ، لن يطمئنّ كلّيًّا إلّا إن رأتها بنفسها، وأنا أعرف كيف يعمل قلب الأمّ، وما يعنيه الانقطاع في السجن.

سيأتي عيد ميلاد شذى أيضًا في السجن، ستدخل عامها الـ 22 وهي في السجن. هي قسوة الاحتلال وقسوة السجن ... لكن شذى صامدة، معنويّاتها عالية وابتسامتها لا تفارقها.

على أمل اللقاء؛ لقاء الحرّيّة خارج جدران السجن.

..........

إحالات

[1] كتبت هذه الشهادة قبيل عيد الفطر، وحضر العيد وحضرت أحداث الهبّة، وانشغلنا بالاعتقالات والمحاكم، ثمّ جاء العدوان على غزّة، وفي هذه الأثناء، وسط كلّ هذه الأحداث، صدر الحكم الجائر بحقّ شذى: 14 شهرًا سجن فعليّ.

 

 


جنان عبده

 

 

محامية وفنانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب "الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48" عن "مدى الكرمل". تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.