النكبة: طفولة مبتورة، سكوت قهريّ، إفصاح مستمرّ (5/4)

كفرع قرع عام 1946

 

طوى الصبيّ وإخوته الثلاثة الأصغر منه - تفصل الواحد منهم عن أخيه الّذي يليه سنتان (12، 10، 8، 6) – وكذلك مَنْ كانوا برفقتهم من أهالي بلدته، طوَوْا الطريق المفتوح من الجهة الشرقيّة للبلد إلى تلال عارة، وعبروا القرية إلى المِسْقاة، ومنها قطعوا طريق الوادي الرئيسيّ إلى مدخل عرعرة، حيث بداية الطريق الّذي يشقّ وسطها، من أسفل الوادي شمالًا إلى أعلى جبل الخطّاف جنوبًا. وقد شهد هناك كما أسلفنا موكب سيّارات جنود جيش الإنقاذ، وسمع خبر «سقوط كفر قرع» المُحَتَّن[1] في أوراقهم، وما ترتّب عليه من تغيير مسارهم إلى الوجهة المعاكسة، بينما بادر ضابط منهم بنداء لبّاه رفاق له من أجل الدفاع عن كفر قرع. أكمل الصبيّ ومَنْ معه طريقهم نحو حياة اللجوء.

مرّ لجوء الصبيّ وأسرته بمرحلتين رئيسيّتين، تخلّلتهما مراحل فرعيّة وظروف قاسية اضطرّوا معها إلى تدبّر عيشهم، وألحقت بأدواره تجاه عائلته تغييرات بعضها لافت...

مرّ لجوء الصبيّ وأسرته بمرحلتين رئيسيّتين، تخلّلتهما مراحل فرعيّة وظروف قاسية اضطرّوا معها إلى تدبّر عيشهم، وألحقت بأدواره تجاه عائلته تغييرات بعضها لافت، وألقت عليه مسؤوليّات تجاهها وتجاه نفسه لم يعهدها من قبل.

عن كلّ ذلك، ومن ثَمّ عن العودة إلى كفر قرع في الجزء بين أيدينا[2]، وهو الجزء الرابع من سلسلة المقالات هذه المنشورة في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، بعنوان «النكبة: طفولة مبتورة، سكوت قهريّ، إفصاح مستمرّ».

 

عَيْش اللّجوء - المرحلة الأولى

بدأت المرحلة الأولى لحياة الصبيّ وأسرته في اللجوء، منذ لحظة الوصول إلى المحطّة الأبعد، الّتي وصلوا إليها في النهار الأوّل للتهجير، وهي قرية عين السهلة، وانتهت "في توالي" صيف العام نفسه 1948، وقد امتدّت قرابة ثلاثة أشهر ونصف الشهر، بين بداية الأسبوع الثاني من أيّار (مايو) وبداية الأسبوع الأخير من آب (أغسطس). اتّصفت المرحلة الأولى بأنّها الأشدّ زعزعة، تقلّبًا وديناميّة بين المرحلتين، ليس فقط لأنّها عقبت صدمة التهجير مباشرة، بل لما تخلّلها أيضًا. وقد امتازت بديناميّة كبيرة قياسًا بالمرحلة الثانية، ومن نافل القول قياسًا بما سبقها.

رغم تدبّر أمرهم بسهولة نسبيّة مقارنة بأهل بلدتهم، وقطعًا مقارنة بمأساة لجوء الفلسطينيّين الآخرين، إلّا أنّ التنقّل بين غير بلد، هي كفر قرع، وعرعرة، وعارة، وجتّ، في الظروف المادّيّة لذلك الزمن، بمعنى المواصلات وغيرها، واستثنائيّة تلك الأيّام بما هي حالة طوارئ، والتنقّل إلى أكثر من مكان واحد للمبيت، وتوزيع الأسرة أحيانًا، جعل الصعوبة وعدم الاستقرار ميّزات بارزة لهذه المرحلة. كوّنت التنقّلات المكانيّة من أجل السكن والمبيت مراحل بينيّة تخلّلت هذه المرحلة من عيش اللجوء. في ما يلي أُوْرِدُها كما سردها أبي، موفّرًا تفاصيل تستحضر الأماكن والمحطّات والمشاهد والوقائع والشخوص والمواقف والمشاعر، بواقعيّة حيّة تتمثّل للمستمعة والقرّاء، وتمثّل في مخيالهم بعد سبعة عقود فأكثر من وقوعها، وبالتحديد بعد ثلاثة وسبعين عامًا من النكبة.

"هَالناس سَنَّدوا بْطَريق عرعرة لَفوقْ، وشَرَّقوا على عين السَّهْلِة، وِارْتَموا [كناية عن التعب]. عين السَّهْلِة بْعيدِة. مْنِ الصُّبِح رْجِعْنا على عرعرة. قَعَدْنا تِحْتِ الزَّتونْ. عَجَنْبِ الطَّريقْ وِنْتِ طالْعَة على عرعرة، هاظْ كلّه بَقى [كان] زَتونْ. كلّ عيلِة تِقْعُدْ تِحْت شجرة... بَعْدين الْتَمَّتِ الْعيلِة، الأب والإمّ ولِوْلاد. إمّي الْتَقينا بيها بْآخِرِ النّهار [الأوّل]، وأبويْ ثاني يوم"[3].

في ما وراء الحيثيّات، الرجوع من عين السَّهْلِة إلى عرعرة، وبقاء أهل القرية في محيطها الأقرب الممكن في كلّ مرحلة، حتّى لو في قرًى عربيّة غرب ما عُرِفَ بـ «الخطّ الأخضر» بعد نحو سنة، يعكسان تمسّك أهل البلد ببلدهم، وسوف يكون لهما الأثر الفارق في تحقيق العودة تحت الظروف السياسيّة الدوليّة الاستثنائيّة، الّتي أمكنت ذلك، كما سنرى لاحقًا. 

 

الجدّة المسنّة: من محطّة التركيز إلى عارة

رغم لمّ شمل الأسرة إلّا أنّها ابتعدت عن شخصيّة مهمّة في حياتها هي الجدّة أمّ حسين، جدّة الصبيّ لأمّه، وكانت وقتئذٍ في منتصف الثمانينات من عمرها. ومع أنّها لم تسكن معهم في نفس البيت في كفر قرع حتّى ذلك الحين، بل سكنت بيتها في جذر القرية، إلّا أنّها حظيت بمكانة خاصّة عندهم، وبالذات عند الصبيّ، حفيدها البكر، وأمّه، وحيدتها في هذه المرحلة من العمر. وقد خصّها في استحضار تهجيرهم ولجوئهم بحصّة، وعادة ما كان يذكرها لي في سياقات أخرى[4]. عنها قال:

الرجوع من عين السَّهْلِة إلى عرعرة، وبقاء أهل القرية في محيطها الأقرب الممكن في كلّ مرحلة، حتّى لو في قرًى عربيّة غرب ما عُرِفَ بـ «الخطّ الأخضر» بعد نحو سنة، يعكسان تمسّك أهل البلد ببلدهم...

"مَلْتَقيناش بْسِتّي إِمِّ حْسينْ وَقْتَها. الْيَهودْ جمعوا لِخْتْياريِّة وِالْعَجَزِة اللّي بِقْدَروشْ يِمْشوا وْحَطّوهُم بْدارْ حسن الْعَلْيَا، دار حسن خليل بيدوسي، مْنِ الْبَيادسِة. حتّى بقوا طابْخين يوميتْها طْراف[5]، وَاطْعَموا الناس". يبتسم في ما قارب ضحكة خفيفة وهو يراعي وقاره، تعبيرًا عن رضاه لكرم الناس وتقاسمهم اللقمة، وقد تكون طرافة الطبخة نفسها سببًا إضافيًّا. ويضيف: "سِتّي إِمِّ حْسينْ قَعْدَتِ بْعارة، عِنْدار الْحَجّ يوسِف. وْظَلَّتْ هناك [فترة اللجوء]. إِحْنا دَوَّرْنا عليها، سألنا، سألنا وينْ هي. أَجانا خَبَرْ إِنْها عِنْدارْ الْحَجّ يوسِف. [...] والله ما بَعْرِف كيف وِصْلَتْ! رحنا هناك نِسْأَل عنها وِنْشوفْها. اِنْبَسَطْنا بْقَعْدِتْها. مِعْطْيِينها غرفِة [...] زْغيرِة وْمِحْتِرْمينْها ودايْرينْ بالهم عليها. اِنْبَسَطْنا إِنْها قاعْدِة بْمُطْرَحْ مْليحْ. مِثِلْ ما تْقولي شافوها خْتيارة، وقورَة... وبعدين شافوها إِنْها أديبِة بالسَّكَن ومالْهاش إلّا تِذْكُر الله وتقول لا إله إلّا الله. بَقَتْ [كانت] خْتيارة. سِتّي عاشت فوق الـ 95 سَنِة. وألله رَيَّحْها بَرْظو [أيضًا]، إِنُّه بْتِغْدَرِشْ تِتْنَقَّل... أنا جيتْ مَرّْتين. أنا آجي أزورْها. بفترة 5، 6 أشهر مرّْتين أنا بَقيتْ عندها". غصّ صوته مرّة أخرى واغرورقت عيناه.

كما أوضحت آنفًا، يعتمد هذا المقال على مقابلتي وأحاديثي العديدة مع أبي، ومسوّدة خطوط عريضة وضعها لسيرته. بيد أنّه خلال معالجتي للبيانات الّتي وفّرها لي عن جدّته والتهجير، فطنت أنّ إحدى المشاركات اللواتي أجريتُ معهنّ مقابلات معمّقة في بحث آخر عن موضوع آخر كلّيًّا، ذكرتها تمامًا في هذه الجزئيّات. أسعفتني منهجيّة بحثي ذلك، بما فيها من تسجيل وتفريغ دقيق للمقابلة، فقد عدت إليها لأجدها مصدرًا غنيًّا ومشوّقًا يضيء على الموضوع والشخصيّة اللذين نحن بصددهما هنا. تلك كانت الحاجّة منيفة التوفيق الحاجّ يوسف يونس، أم مصلح يونس[6]، ودون سابق معرفة لي بعلاقتها بالموضوع، وفي معرض تأكيدها أنّها تعرف أهلي؛ والديّ وأجدادي وجدّاتي وجدّة والدي لأمّه، أوضحت لي ظروف معرفتها الأولى بها وعلاقتها بها في ما بعد. كان ذلك سنة التهجير والطفلة منيفة في السادسة من عمرها. قالت بمحبّة:

"سِتِّكْ[7]، إِمّْ إِمّْ أبوك، بَقينا صُحْبِة إِحْنا وِيّاها (مع ضحكة حنين إلى أناس وزمن مضى). [...] آا، عِنْدار الحجّ يوسف اِتْظَيّفوا. وْقَعْدَتْ عنّا سِتِّك، إِمّها لَسِتِّكْ مِرْيَم، بَقَتْ تيجي زيارة. خالتي إِمّ حْسينْ، الله يرحمها!" يتغيّر صوتها تأثّرًا وحنينًا لأيّام خلت، وتكمل: "بَقَتْ قاعْدِة عِنّا [...] عِنْدارْ عمّي، الله يِرْحَمْها، يِرْحَمْ روحْها. دائمًا تِقرا قرآن[8]... مَحَلّ عِنْدارْ عَمّْنا عَلي ناجي بَقَتْ، بْدارْ أَبويْ، عِنْدارْ سيدي الحجّ يوسِف [يونس]. إِحْنا كُلَّياتْنا رَبِعْ دار الحجّ يوسِف بَقينا ساكْنين بْدارْ وَحْدِة، حوشْ واحَدْ. آا... وهي عِنّا. بَقينا بْتِعِرْفي بْيوتْ، وْهونْ خُشِّة وْهونْ بيتْ... وْأَجوا أَهِلْ كُفُرْ قَرِع على عارة، وْمِنِ الْجُمْلِة أَجَتْ هيي. خْتيارة، كبيرِة. دايمًا مِتْوَظْيِة وْقاعْدِة بْتِقْرا قرآن. [...] هي بَقَتْ عِنّا وْهي مَرَة مُحْتَرَمِة! أنا بَعْرِفْها شَخْصِيًّا يَعْني. بَقينا زْغار، وِنْروحْ نْقُلّها سِتّي إِمّ حْسينْ، مثلًا لَمّا نْوَدّيلْها حاجِة، أو مثلًا لمّا تنادي علينا إِنْمِلّيلْها لِبْريقْ. آا والله... حَدْنا قاعْدِة مَهي، بينّا. والله هاظْ اللّي صارْ يا خالتي. الله يِرْحَمْها بَقَتْ مَعْزوزِة مَكْرومِة [معزّزة مكرّمة]"[9].

هكذا تضيف سرديّتها تفاصيل من قلب «الحوش» المضيف، ومن مجاورة البيت «الخُشّة»، ومن البرنامج اليوميّ الرتيب للمهجّرة المسنّة، وعن خصالها الّتي رأتها رأي العين وسمعتها سماع الأذن، ونبذة عن المعاملة الّتي ربطت الطفلة وعائلتها بها. وتضيف: "أَجا ناسِ كْثير، من كفر قرِع، من السِّنْديانِة... أَجوا ناسِ كْثير وِاخْتَلَطوا الناس بْبَعَظْهُم. أَهِلْ كفر قرِع قِسِم رِجِعْ على بَلَدُه وقِسِمْ طِلِعْ بَرّا. وَبَقِيِّةِ الْقُرى كلّها تهجّرت وْطِلْعَتْ بَرّا. عَشان هيك بَقوا الناس يْعَرّفوا أَجا مْنِ الْمُطْرَح الِفْلاني، بِعَرّْفُهوشْ [الشخص] شخصيًّا".

 

سكن الأسرة: بين عرعرة، وجتّ، وكفر قرع

في مقابل سكن جدّته، يسرد أبي مباشرة عن سكن الأسرة: "إِحْنا بَقينا [كنّا] قاعْدينِ بْدار يونِس السَّلامِة، يونِس بَقى بابْهم يِفْتَح لَلْغَرْب، وفيها بيتين. قَعَدْنا بْبيت أبو شهر، آا شهر زمان... شهر زمان. المرَة [المرأة] كثير مْليحَة، إِلْها وَلَدينِ وْبِنِتْ. على ما بَتْذَكَّرْ، إِسِمْها عبلة. فجأة أَجا عبد اللطيف جوزْ عمتي زينب يوخِذْنا ظْيوف عِنْدُه. جابْ جْمالُه وأَجا أوّل ما قَعَدْنا تِحْتِ الزَّتونْ، فَلَبّينا الطلب ورحنا لَجَتّ وْسَكَنّا في بيت هناك. كان السيّد[10] عبد اللطيف يْهِمُّه أَمِرْنا جدًّا. سكنّا أوّل وهي الدِّنْيا حامْيِة، سكنّا بْبيتْ، بيت ممتاز. عندهم دار الحجّ سعيد [والد عبد اللطيف] دارين. دار لَفوقْ ودار لَتِحِتْ[11]. هاظْ في المرحلة الأولى. لَمَّنْ أَجا نَقَلْنا. بَسّ بعدين فكّرنا وِعْمِلْنا حْساب: إِحْنا بِدْنا نْجيبْ مونِتْنا. رْجِعْنا. لمّا صارِ الصيفِ وْحصادِ الشّْعير وِالْقَمِحِ رْجِعْنا من جَتّ لَبَلَدْنا كفر قَرِعْ، وْنِمْنا خارِج الِبْيوتْ تِحْتِ الزَّتونْ. مرّات قَعَدْنا ببيتْنا. ببيتْنا، بيتْنا العادي! أمّا نتخبّى، لإِنُّه بَقوا [اليهود] يَقَوّْسوا من الْمَقايِل[12]، مْنِ الْمَقايِلْ كاشفين كلّ المنطقة".

 

الحصاد في ظروف الحرب والتهجير

 "في 8 أيّار هَجَموا عَ البلد. بَقى بَعْدُه الْحَصيد مُشْ جايْ وَقْتُه. الشّْعيرْ بِدُّه لَآخِر أيّار. في أوّل أيّار بَقى بَعْدُه الشّْعيرْ وِالْقَمِح وْالْهَظاكْ [ذلك]... بَعْدُه. الناس بَقوا يْفوتوا بِاللّيلْ، مِثِلْ كَإِنُّه يِسِرْقوا! يِقْطَعوا بِالْكالوشِة راسِ السَّبَل، مُشْ كلّه من تِحِتْ. يِقْطَعوا وين ما لاح الواحَد. ويوخْذوه الناس في اللّيلْ. عَ البيادِرْ في عُصي، وَقْتِ الظُّهُر يِشْمُطوه وْيوخذوا الْحَبّات وِيْحُطّوهِنْ عَ جَنِبْ. كانوا الناس خُصوصي يِرْجَعوا مُشانْ يِجْمَعوا رِزِقْهُم، يْفوتوا في اللّيل خوفِ مْنِ الْيَهود [...] بَقَتْ طريق عامْرِة بين عارة عرعرة وكفر قرع، رايْحَة جايِة. مَصَرِشْ يعني أشياء مهمِّة... بَقَت الناس، مثل ما تقولي، الله حافِظْهم".

"... أَجوا ناسِ كْثير وِاخْتَلَطوا الناس بْبَعَظْهُم. أَهِلْ كفر قرِع قِسِم رِجِعْ على بَلَدُه وقِسِمْ طِلِعْ بَرّا. وَبَقِيِّةِ الْقُرى كلّها تهجّرت وْطِلْعَتْ بَرّا. عَشان هيك بَقوا الناس يْعَرّفوا أَجا مْنِ الْمُطْرَح الِفْلاني، بِعَرّْفُهوشْ [الشخص] شخصيًّا".

 

اشتغل الصبيّ مع أبيه وأمّه في موسم الحصاد الخطِر، ولمّا يُنْهِ الصفّ الخامس الابتدائيّ بعد، وقد اجتهد معهما على جمع فَلْحَة العائلة، وحين اضطرّت الأسرة إلى الانقسام كما سيوضّح، رافق والدته؛ فهو ابنها البكر، ولقيا معًا ما لقيا من إرهاق وتعب، وتشاركا في توخّي الحذر. مساعدته لوالديه وأسرته تذهب إلى أبعد من المألوف في الثقافة الفلسطينيّة، من حيث دور الأبناء أيديَ عاملة في العائلة، وفي اقتصادها تحديدًا. بينما دوره في المساعدة يأتي من محلّ ظروف أسرته وموقعه فيها، وعيشهم كأسرة نوويّة مستقلّة، وليس وسط عائلة موسّعة بين «سَلَفاتْ وِسْلاف» وأولادهم... علاوة على أنّه بِكْر أمّه وأبيه؛ فإنّ الرأفة بهما والطاعة لهما، والجدّ والاجتهاد كانا من أولى سجاياه. خاصّة أنّه كان له من الإخوة الأطفال حتّى هذه النقطة الزمنيّة خمسة، كلّهم ذكور، أكبرهم هو، في الصفّ الخامس، وأصغرهم «عَلى إيديها»، تعبير فلسطينيّ يعني مولودًا أو طفلًا رضيعًا. في ظلّ هذه الظروف العائليّة والأسريّة، وفي ضوء مزايا أبيه وأمّه الشخصيّة من كرامة وعزّة نفس وتُقًى وتعفّف واجتهاد، وحرصهما على حصيدة العائلة وتأمين مونتها، وعلى عدم الاعتماد على المضيفين الأكرمين في التهجير، فقد أثقل التهجير عليهما، كما على آخرين، بموسم حصاد قاسٍ وخطر، شهد ابنهما فيه جهادهما لجمع شيء من المحصول. إنّ حجم التعب والإرهاق لا يتأتّى من العمل ذاته، وفقط من العمل ذاته، بل من الطريق الطويل نسبيًّا، نحو 7 كم بين عرعرة وكفر قرع، مرورًا بعارة في الاتّجاه الواحد. تضاعف حجم التعب جرّاء حالة الاستنفار الّتي أقحمتهم فيها الحرب، وجرّاء رعاية خمسة أطفال في ظروف الاستنفار، وعدم توفّر مساعدة كما كان مألوفًا في العائلة الممتدّة، في الثقافة الفلسطينيّة والعربيّة عامّة وعادة.

 

مرّة أخرى، مبيت تحت الشجر

في الأيّام الّتي سمعوا فيها إطلاقًا للنار أكثر كثافةً على البلد، ارتفع منسوب عدم طمأنينتهم من المبيت في بيتهم. تملّك الخوف الأمّ أكثر على أسرتها ونفسها، بينما تمالك الأب وأصرّ على المبيت في بيتهم. وكان الترتيب الّذي اتّخذته الأسرة أن يبيت الأب كما أراد في البيت، رغم إطلاق النار نحوه، وتبتعد الأمّ مع أبنائها إلى مكان آمن، إلى عرعرة.

ذاتَ إيابٍ، بلغ التعب من الأمّ الصلبة مبلغه. توقّفت، لم تقدر على الاستمرار في الطريق، وقرّرت أن تتّخذ لها ولابنها مكانًا قصيًّا شرقيًّا، ليقضوا ليلتهم تحت شجرة. يشير أبي بيده إلى الموقع مقابل بيتنا الّذي فيه نشأت، والّذي بناه هناك، وكان أحد بضعة بيوت في حارة بالكاد مأهولة في منتصف الستّينات.

تحاشيًا لخطر المبيت في بيتهم في بعض ليالي هذا الموسم، وهروبًا من وحشة البلد الّتي حوّلها التهجير إلى قرية أشباح، إلّا من بعض أهليها في موسم الحصاد، وتفاديًا لتعب الطريق وخشونة المبيت الّذي خبروه تحت شجرة في مكان قصيّ، تزوّدوا بمتاع بسيط، «طُرّاحَة» بالمحكيّة الفلسطينيّة، وقليل من أغراض حيويّة أخرى؛ ليتمكّنوا من المبيت في منطقة وسطى بين البلدين، ووضعوها تحت شجرة. في اليوم التالي عندما رجعوا إلى المكان بعد تعب النهار المنقضي، ومع خوف ممّا يخبّئه الليل الزاحف من خطر الحرب، لم يجدوا «الطُّرّاحَة» مكانها! مدهش كيف أنّ بمقدور الأشياء الصغيرة، غير ذات القيمة، أن تعِد أصحابها بتخفيف الصعوبات، وأن تسعفهم بشعور بالراحة أو الطمأنينة، وأن تشكّل همزة وصل تربطهم بالبيت، العينيّ والمجرّد، ومدهش كيف أنّها تتحوّل إلى أغراض حيويّة مطلوبة لعابر أو عابرة صدفة أو غير صدفة، في ذات الظروف.

ذاتَ إيابٍ، بلغ التعب من الأمّ الصلبة مبلغه. توقّفت، لم تقدر على الاستمرار في الطريق، وقرّرت أن تتّخذ لها ولابنها مكانًا قصيًّا شرقيًّا، ليقضوا ليلتهم تحت شجرة. يشير أبي بيده إلى الموقع مقابل بيتنا الّذي فيه نشأت، والّذي بناه هناك...

 

تخزين الغلّة

شكّلت تضاريس حارة العين الّتي سكنوها وسط عرعرة، مع بداية اللجوء، مستودعًا لمونة الحبوب الّتي جنتها الأسرة المهجّرة من فَلْحَتِها في كفر قرع، ونقلتها على حمارة إلى هناك على مراحل.

"حَطّينا غَلِّتْنا عِنْدارْ رشيد يونِسْ. الله هَدانا هناك عَدارْ رشيد. هَالْمَرَة [المرأة] هناك مْليحَة. عندهم مغارة بحدّ الفوتِة اللّي عَدارْهُم. وفي هناك محلّ، لا هي مْظايقَة حَدا ولا. طلبوا إِمّي وْأَبويْ منهم يْحُطّوا الْمونِة هناك... وْحَطّينا هناك البراميل: هاظْ برميل شْعير هاظ برميل قمح هاظ برميل ذْرَة". تركت العائلة هذه البراميل في ذات المكان عند خروجها إلى المرحلة الثانية من اللجوء، ليعود الصبيّ إليها مرارًا من أجل إحضار حاجة الأسرة من القمح، كما سيخبرنا لاحقًا.

يتبع...

.........

إحالات

[1] يستخدم البعض «الْمُحَتْلَن» المشتقّة من «حَتْلَنَة»، بينما اعتمدت الصيغة: «الْمُحَتَّن» المشتقّة من «التَّحْتين».

[2] يعتمد المقال على ما أملاه أبي على بنات أختي فادية، عندما حَثَثْتُه على أن يكتب سيرته في صيف 2019، وما سجّلته منه مباشرة في حديثي معه في أيّار (مايو) 2021، وفي أحاديث تلت أو سبقت ذلك، بعضها خلال كتابتي لأجزاء المقال المختلفة، حيث رجعت إليه للاستفسار أو لمعرفة تفاصيل أخرى.

[3] بين صياغة الكاتب/ ة لسرد ينقل الفكرة بإيجاز وبين نقل تفريغ مقابلة كمادّة أوّليّة، اخترت أسلوبًا ثالثًا هو الدمج بين كلتا الطريقتين كما تمكن الملاحظة. وحرصًا منّي على إسماع الصوت من مصدره، قد تكون الاقتباسات في هذا الجزء بالذات طويلة بعض الشيء، ولا ضير، بينما أقوم أنا بوضع الرواية في سياقها.

[4] لفرادة شخصيّتها في جوانب عدّة جديرة هذه السيّدة، جدّة أبي لأمّه، بإفراد مؤلَّف عنها ولها.

[5] "طْراف" هي الكلمة العامّيّة المقابلة لكلمة أطراف بمعنى أقدام الذبيحة، لكن اصطلاحًا يقصد بها الأطراف مع رأس الذبيحة وكامل الأحشاء. من هنا يطلق عليه في بلدات مجاورة وأجزاء أخرى من فلسطين "فوارغ"، وبتشغيل نفس منطق علاقة الدلالة بين الجزء والكلّ، وهي طبخة تقليديّة موسميّة اعتاد الناس تجهيزها قديمًا، من أضحية العيد أو من ذبيحة في غير موسم العيد، أو إذا ما أوصوا عليه عند الجزّار.

[6] بعد أن فرغت من كتابة هذا القسم، اتّصلت بالحاجّة منيفة أمّ مصلح، وقرأت عليها ما ضمّنته مقالتي عنها لأستأذنها بالنشر، فأصغت بكلّ اهتمام وعناية، بل شرعت تسبقني بالاقتباس منها وكأنّها تقرأ ما قالته حينها من مقالتي اليوم، وقد أبدت موافقتها الخالصة للاقتباس والنشر.

[7] صوت الحرف المنطوق لضمير ملكيّة المؤنّث المفردة هو «تْشافْ» في حديثها كلّه.

[8] مذهل هذا المعطى عن معرفتها القراءة، ولا أكفّ عن الاندهاش من المعلومة رغم أنّني عرفتها من والدي في مرحلة مبكّرة من صباي. لكن الموضوع خارج اهتمام هذا المقال، وقد أتناول ظروف تعلّمها القراءة في مناسبة أخرى.

[9] عن اعتبارات طول الاقتباس، يمكن النظر في الملاحظة 3.

[10] أرفق اسمه بكلمة «السيّد» نظرًا إلى أنّ والدي كتب هذا كجزء بأسلوب كتابة «سيرة ذاتيّة»، لطالما طلبت إليه أن يكتبها بعد تقاعده، وألححت عليه في أحاديثنا التلفونيّة الّتي أجريتها معه بخاصّة، خلال مكوثي باحثة زائرة في كامبريدج في صيف 2019. لكنّه استصعب الكتابة الطويلة يدويًّا، فأبدت حفيداته ليلى وسلمى وهند موسى يونس، بنات أختي فادية، اللواتي كنّ في إجازة صيف من تعليمهنّ في كلّيّة طبّ الأسنان في إيطاليا، أن يكتبن ما يريد بواسطة اللاب توب، فدأبن على زيارته مرارًا وكتابة ما يملي عليهنّ. وقد طلب منهنّ في كلّ جملة وفقرة أن يقرأن على مسمعه ما دوّن ليتأكد من دقّة ما أراد كتابته. وهو بهذا يعبّر عن احترامه للرجل صهرهم وعن ذكراه الطيّبة لديه، والواقع أنّه كثيرًا ما حدّثنا عن مواقفه معه وهو طفل، ومعاملته الطيّبة له.

[11] ليس المقصود طابقين، بل موقعيهما من حيث تضاريس القرية.

[12] «الْمَقايِل» هي تلّة في الجهة الغربيّة من كفر قرع، ويدعونها «جبل الْمَقايِل» بتخفيف حرف القاف إلى كاف كما في بعض اللهجات الفلسطينيّة. في اجتهاد ذاتيّ لفهم التسمية قد تكون «الْمَقايِل» مشتقّة من الفعل «قَيَّلَ»، والاسم قيلولة، وهو المكان الّذي تكون فيه القيلولات – مَقايِل. وقد أكون مخطئة. أمّا الاحتمال الثاني فهو أن تكون من «كالَ يَكيل»، واسم الآلة «مِكْيال» وجمعها «مَكاييل»، فيبدو أنّه مكان تمّ فيه «كَيْل» بضائع ما أو صنع «مَكاييل»، فحُوّرت في العامّيّة إلى «مكايِل» لتسهيل اللفظ.

 

 


تغريد يحيى – يونس

 

 

أكاديميّة وأستاذة جامعيّة فلسطينيّة. حازت على الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة تل أبيب، واستكملت دراستها لما بعد الدكتوراه في جامعة SOAS - لندن. اهتماماتها الأكاديميّة الرئيسيّة علم اجتماع الغربة، والإثنيّة والعلاقات الإثنيّة، والنظريّات النسويّة، والسياسة والجندر، ومناهج البحث النوعيّ، واللغة والهويّة.