المتبوّلون وقوفًا

أ ف ب

 

"عدم المقدرة على التجوال في المدينة - لا يعني الكثير. لكن لكي تضيع في المدينة، تمامًا كما يضيع الشخص في غابة كثيفة - هذا الأمر يتطلّب التمرين".

(والتر بنجامين).

 

شقّ الطريق نحو المرحاض العموميّ

بدأت تجوالي بالمدينة العبريّة ضمن مساق حول المدينة الحضريّة والعمران، وكانت المهمّة الّتي أوكلت إليّ الوصول إلى شارع «بازل»، ومن هناك الشروع في التجوال.

«بازل»؛ لطالما أثار هذا الاسم داخلي عاصفة من المشاعر المرتبكة. شارع «بازل»، نسبة إلى المدينة السويسريّة، كان بالنسبة إليّ عبارة صورة هرتسل يقف على شرفة ويتنبّأ بولادة الدولة اليهوديّة - الصهيونيّة.  رافقني شعور بالضيق والاختناق، فعلى بُعْد دقائق قليلة بالسيّارة من هذا الشارع، يطلّ هرتسل من شرفته على قرية «سيدنا علي» المهجّرة. أنا من الجيل الثالث لمهجّري «سيدنا علي»، يختلجني شعور مقيت ومزعج، ودائمًا ما تثير هذه المشاعر راحتي وتقلق سلامتي.

نظرت إليه في دهشة متسائلة بداخلي: "ما الّذي يفعله هذا الرجل هنا بحقّ السماء؟" نظر إليّ هو أيضًا بدهشة، بلا شكّ بنظرة محرجة. كمَنْ يريد الاعتذار قائلًا: "هل تعلمين، إنّها... مراحيض مشتركة".

شققت طريقي باتّجاه الشارع بخطوات مثقلة بالأفكار، قرّرت على ضوئها فحص سلوك الناس في المراحيض العموميّة، بصفته مكانًا يعمل على الدمج بين الاستخدام والشعور بالخصوصيّة والحرّيّة في بعض الأحيان، والتهديد والخوف أحيانًا أخرى. وخاصّة، إذا وُجِدَت المراحيض في المناطق المهجورة وغير الآمنة، أو ما أسماه موراليس بـ «التضاريس الغامضة».

إنّ اختيار شقّ طريقنا إلى المراحيض العموميّة ينطوي على تجربة شخصيّة غريبة، بشكل خاصّ عندما يتعلّق الأمر بدورات المياه. دخلت أحد المقاهي باحثة عن المراحيض؛ لاحظ النادل في المكان نظراتي الباحثة، وقال، كمَنْ رأى العديد من هذه النظرات من قبل: "لا بدّ من أنّك تبحثين عن المراحيض". عليّ الاعتراف بأنّ الرجال يمرّون بطفرة عاطفيّة بالسنوات الأخيرة، تجعلهم أكثر لطفًا لبيئتهم. على أيّ حال، ولدهشتي؛ كانت المراحيض «يوني سيكس»، أي مراحيض مشتركة للجنسين، رجالًا ونساء على حدٍّ سواء، نوع من أنواع التعايش بين الجنسين في الخدمات العامّة.

لاحظت أنّ المرحاض مشغول، وبينما كنت أقف بانتظار إخلاء الحمّام، سمعت أغنية مألوفة. بدأت بتحريك جسدي مع الموسيقى، بينما أرتّب نفسي أمام المرآة وأتفحّص حوض المياه. فجأة سمعت صوت الماء المتدفّق من المرحاض، الّذي يعمل على تحفيز خلايا الدماغ بأنّ المرحاض على وشك الإخلاء. ومعه يخرج رجل مسنّ من دورة المياه. نظرت إليه في دهشة متسائلة بداخلي: "ما الّذي يفعله هذا الرجل هنا بحقّ السماء؟" نظر إليّ هو أيضًا بدهشة، بلا شكّ بنظرة محرجة. كمَنْ يريد الاعتذار قائلًا: "هل تعلمين، إنّها... مراحيض مشتركة".

دخلت بدوري الحمّام، وألقيت نظرة فاحصة على ما يحيط بي... تناثرت قطرات البول بسخاء على المقعد وعلى الأرض في كلّ مكان. "نعم"، أنا أتنهّد، "يا لهؤلاء الرجال!"، أينما ذهبوا فعليهم ترسيم حدودهم.

 أركع بين السماء والأرض، ممتنعة عن أيّ اتّصال بين جسدي والمقعد الصحّيّ، في أكثر وضعيّة غير طبيعيّة، في الواقع، عدم الراحة في أفضل حالاتها – وفجأة جاء صوت لويس أرمسترونج من مكبّرات الصوت الموزّعة بالمرحاض. نعم أيضًا في المرحاض:

"الجنّة، أنا في الجنّة، وقلبي ينبض ولا أستطيع الكلام

يبدو أنّني وجدت السعادة الّتي أسعى إليها…".

أتذكّر نفسي أقول لابني عندما بدأ يستقلّ باستخدام المرحاض: "صوِّب جيّدًا نحو المقعد الصحّيّ..."، ثمّ تمرّ فكرة في ذهني: هذا الوضع رياضة حقيقيّة للعضلة الرباعيّة الرؤوس. لكن، هل حقًّا ما يزعجني هو فكرة لماذا - بحقّ الجحيم - يفشل الرجال في هذا العالم كلّه في التبوّل بشكل صحيح؟ لماذا لا يزال الرجل، حتّى بعد خضوعه للتنشئة الاجتماعيّة الحضريّة على مدى القرون الماضية، يشعر بالحاجة إلى تحديد منطقته ببوله؟ يبدو أنّه على الرغم من التطوّر الملحوظ الّذي مرّ به الجنس البشريّ منذ أن بدأ يمشي مستقيمًا، فإنّه لا يزال يفشل في التغلّب على الطبيعة؛ فالطبيعة هي الّتي تملي عليه حاجة أساسيّة، ألا وهي تحديد الحدود الإقليميّة وترسيمها. بعض الحيوانات تستخدم بولها لتحديد ملكيّتها على المنطقة وعلى الإناث الّتي تعيش داخل حدودها.

ويأتي الفلسطينيّ فتؤرّقني صورة الفلسطينيّ – عامل النظافة التقليديّ بالمراحيض العموميّة، وتذكّرني بمحمود في قصيدة حانوخ ليفين؛ محمود الّذي يجسّد نوعًا من أنواع علاقات العربيّ بالمراحيض...

محمود ومراحيض المدينة العظيمة

 لكن، هل هذا ما يزعجني حقًّا الآن، وأنا معلّقة بين السماء والأرض، مَيْل الرجال إلى تحديد ملكيّتهم؟ أو ربّما ما يشغلني التفرقة بين الفضاء العامّ والفضاء الخاصّ؟ أو صراع الملكيّة للفلسطينيّ مقابل اليهوديّ؟ ويأتي الفلسطينيّ فتؤرّقني صورة الفلسطينيّ – عامل النظافة التقليديّ بالمراحيض العموميّة، وتذكّرني بمحمود في قصيدة حانوخ ليفين؛ محمود الّذي يجسّد نوعًا من أنواع علاقات العربيّ بالمراحيض. علاقة مُرْبِكَة ومُرَكَّبَة.

تساءلت: "ما رأي محمود في كلّ هذا، وماذا كان سيكتب في رسالته إلى حبيبته فاطمة هذه الأيّام؟ فاليوم أصبحت فاطمة أخرى تزامل محمود، ومعهم أحيانًا تزيتا الأثيوبيّة وأحيانًا أولغا الأوكرانيّة... نعم، نوع آخر من أنواع التعايش بمراحيض المدينة العبريّة العظيمة".

هل كنت ستكتب اليوم يا محمود:

حبيبتي فاطمة،

ها هو حبيبك محمود يجلس 

على مقعدٍ في الحديقة العامّة ليكتب لك،

حبيبك محمود الّذي ترك القرية

إلى المدينة العبريّة العظيمة.

 

بماذا أخبرك يا فاطمة،

هنا في المدينة لا شيء جديد

تمرّ الأيّام يومًا بعد يوم

وأنا أنظّف المراحيض.

مؤخّرًا انضمّت إلينا فتاةٌ تحمل اسمك

ترافقها أحيانًا تزيتا أو أولغا،

عند الفجر - ننظّف المراحيض،

وبعد الظهر - ننظّف مراحيض،

ستّة أيّام من تنظيف المراحيض،

وفي اليوم السابع – يأتي الصمت

فتصمت دورات المياه  

لا فكرة لديك حبيبتي فاطمة 

عن عدد المراحيض الموجودة في المدينة العبريّة العظيمة،

ما زلت أستخرج خبزي من المرحاض،

وما زلت أتنفّس هواء المرحاض، لكنّي الآن أتقاسمه مع تزيتا أو أولغا

وأنام الليل في قبوٍ مهجور

الّذي بدوره كان أيضًا مرحاضًا في يوم من الأيّام.

نعم، لليهود قلبٌ رحيم.

ولم يضربني أيٌّ منهم:

قسموا العالم بيننا:

إنّهم يقرفون، وأنا أنظّف...

(بإيحاء من نصّ حانوخ لفين).

 

نعم، بالمدينة العبريّة العظيمة، قسّم الفضاء بيننا وبينهم، هم يقرفون ونحن ننظّف. هم يتنفّسون هواء البحر ونحن نتنفّس ما تبقّى منه. لا مكان لك، يا محمود، في هذه المدينة العظيمة سوى بالفضاءات الغامضة.

 

شارون والعرب

مع قهوة الصباح في اليوم التالي، تذكّرت مقالة كتبها ألوف بِن في ملحق «هآرتس» قبل أعوام عدّة؛ إذ يبدأ بوصف فكر أريئيل شارون العنصريّ، ومشاعر الكُرْه الّتي كان يكنّها للعرب.

قدّم شارون هذا التفسير مستعرضًا العربيّ يطوي مِئزره من على ركبتيه ويتبوّل واقفًا. وفي رواية أخرى لنفس القصّة، قال شارون إنّه من الضروريّ البدء بالخوف من العرب؛ لأنّهم تعلّموا التبوّل واقفين.

 

كانت من أكثر عادات أريئيل شارون المُحَبَّبَة إطلاق النكات والتعليقات المهينة إزاء العرب وثقافتهم، وعادة ما كان يحتفظ بهذه التعليقات للمحادثات الحميمة. سأل صحافيًّا شابًّا يومًا: "هل تعرف، يا هذا، لماذا لن يحلّ السلام بيننا وبين العرب؟". استمع الصحافيّ متوقّعًا تحليلًا متعمّقًا من الإستراتيجيّ العظيم. "حسنًا..."، أجاب شارون بابتسامة عريضة على وجهه، "لأنّ أفضل ما حدث للعرب في المئة عام الماضية أنّهم تعلّموا التبوّل واقفين". وقد قدّم شارون هذا التفسير مستعرضًا العربيّ يطوي مِئزره من على ركبتيه ويتبوّل واقفًا. وفي رواية أخرى لنفس القصّة، قال شارون إنّه من الضروريّ البدء بالخوف من العرب؛ لأنّهم تعلّموا التبوّل واقفين.

عليّ الاعتراف بأنّ هذا التعبير يستعرض، بشكل جليّ، الأفكار ومشاعر الكراهية والعنصريّة الدفينة لدى شارون وشاكلته، تجاه العربيّ الفلسطينيّ. والحقيقة، لا يمكنني التفكير في قصّة أفضل من هذه لوصف هذا الكمّ من المشاعر. في الواقع، لماذا على شارون معرفة أنّ وراء كلّ عادة - بما في ذلك التبوّل - فلسفة كاملة، ظروف بيئيّة وأسلوب حياة.

 

رياح أفغانستان

تكتب الصحافيّة التشيكيّة بيثرا بروخازكوفا Pithra Prokhazkova في كتابها «Prishta» عن الصدمة الحقيقيّة، الّتي تعرّضت لها عندما رأت زوجها الأفغانيّ لأوّل مرّة وهو يتبوّل مقرفصًا على ركبتيه. تكتب بيثرا حول الصدع الفكريّ الّذي انتابها عندما سعى زوجها إلى تهدئتها، وأوضح أنّ الرياح المتواصلة في أفغانستان هي سبب قرفصة الرجال أثناء التبوّل. انتابني الفضول حول فكرة الرياح الأفغانيّة والتبوّل: أكان مارسيل دوشامب سيعتبر قرفصة الأفغان الرجال عَرَضًا أنثروبولوجيًّا أم عملًا فنّيًّا؟ فوفقًا لدوشمب، الفكرة هي الفنّ؛ ولعلّ عمله الأكثر شهرة هو «نافورة»، الّذي كان عبارة عن مِبْوَلَة مقلوبة قدّمها عام 1917 لجماعة الفنّانين المستقلّين بنيويورك. كانت الْمِبْوَلَة/ النافورة عملًا مضحكًا وصريحًا وجافًّا وصداميًّا. لكنّ السبب الأساسيّ الّذي دفع دوشامب إلى تقديم قطعة مصنوعة بالجملة (Ready Made) على أنّها عمل فنّيّ، هو التحدّي والتغيير للمفهوم المتعارف عليه للعمل الفنّيّ. فبعد «مِبْوَلَة» دوشامب أصبح للفنّ مفهوم مركّب إلى حدّ العبثيّة.

وَلْنَعُد إلى شارون الّذي لا بدّ من أنّه قال في سرّه، إنّ لغة التغيير في التبوّل أصبحت تشكّل خطرًا أمنيًّا حقيقيًّا، وتهدّد التفوّق الثقافيّ الّذي يُعَبَّر عنه بلغة التبوّل.

إنّ التشابه في ممارسات التغيير يدلّ على وجود منافسة وتحدٍّ عنيد على المنطقة. إذا استمرّت الممارسات بالتغيير فلربّما سنفيق يومًا لنجد أنّ المتعارف عليه لم يَعُد قائمًا، أليس كذلك؟

 

 


د. مرام مصاروة

 

 

 

محاضرة وباحثة في جامعة تل أبيب وأكاديميّة القاسمي. حصلت على الدكتوراه في "العمل الاجتماعيّ" من الجامعة العبريّة. صدر لها كتاب "تسييس وتديين الفقدان في المجتمع الفلسطينيّ".