الحزب الشيوعيّ في فلسطين... قراءة بولس فرح لاختراق الماركسيّة استعماريًّا

بولس فرح (الصفّ الأوّل من اليمين)، في المؤتمر العمّاليّ العالميّ - باريس، 1945

 

"أقول إنّنا لا نغفر لهؤلاء المؤرّخين العرب ولغيرهم اعتمادهم على رسميّات الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ؛ حزب ميكونيس، وماير فيلْنِرْ وموشيه سْنيه وإميل حبيبي وتوفيق طوبي وإميل توما، هؤلاء الّذين ربطوا مصير الثورة والتحرّر الوطنيّ بمصير الدولة العبريّة، وأرّخوا لها وبرّروا وجودها في مؤلّفاتهم ومقالاتهم ولا يزالون"[1].

- بولس فرح -

 

تمهيد

قدّم النقابيّ والمفكّر الماركسيّ، بولس فرح، نقدًا إزاء الأطروحات الماركسيّة في فلسطين، الّتي ارتبطت بالمشروع الصهيونيّ قبل عام 1948 تحديدًا. تشكّل تفكيره النقديّ إثر تجربته الطويلة في العمل النقابيّ الفلسطينيّ، قبل أعوام الحرب والطرد والتطهير العرقيّ، من أواخر عام 1947 حتّى بدايات عام 1949، وتخلّلت تجربته تأسيس الحركة العمّاليّة، وتنظيم العمّال، والاحتكاك المادّيّ مع العوائق أمام تطوّر المجتمع الفلسطينيّ.

وُضِعَت التجربة الشيوعيّة والماركسيّة في فلسطين أمام إشكالات متمايزة عن المحيط العربيّ أو تجارب عالميّة أخرى، بسبب طموحات المشروع الصهيونيّ في استيطان البلاد لبناء دولة اليهود القوميّة، وبالتالي فإنّ الخيارات النضاليّة والتحالفات الثوريّة وإنتاج نظريّة لفهم الواقع، أصبحت ضروريّة، بمعنى «أن نكون أو لا نكون»، ولا تحتمل الخطأ، كما يرى فرح، على سبيل المثال؛ فكيف نفهم التغيّر الديموغرافيّ الحاصل في فلسطين، منذ الاستعمار البريطانيّ؟ ما النظريّة الصهيونيّة وموقفنا من أجسامها ومؤسّساتها المتجسّدة في الواقع؟ هل من الممكن التحالف مع البروليتاريا اليهوديّة؟ ماذا نقصد بمصطلح «البرجوازيّة العربيّة»؟ وأسئلة أخرى كثيرة أمام الشيوعيّين والماركسيّين الفلسطينيّين، في تلك الفترة الشائكة.

حاول فرح أن ينجز عملًا ثوريًّا ماركسيًّا فلسطينيًّا، والقصد أن يرتبط هذا العمل بواقعه العربيّ الفلسطينيّ، منطلقًا من المحدّدات الأساسيّة للفعل الاجتماعيّ في القرى والمدن الفلسطينيّة، وناقدًا للوجود الغربيّ الأوروبّيّ اليهوديّ في فلسطين...

حاول فرح أن ينجز عملًا ثوريًّا ماركسيًّا فلسطينيًّا، والقصد أن يرتبط هذا العمل بواقعه العربيّ الفلسطينيّ، منطلقًا من المحدّدات الأساسيّة للفعل الاجتماعيّ في القرى والمدن الفلسطينيّة، وناقدًا للوجود الغربيّ الأوروبّيّ اليهوديّ في فلسطين، حيث يؤطّره في سياق المشاريع الاستعماريّة الاستيطانيّة المنتشرة في العالم غير الأوروبّيّ؛ إلّا أنّ ثمّة عوائق واجهته تجاه بناء نظريّة كهذه، بسبب هيمنة أساسات معرفيّة وفرضيّات استشراقيّة وأورومركزيّة على الماركسيّة في تلك الفترة؛ إذ وجد استخدامات كولونياليّة للماركسيّة عند بعض المنظّمات اليهوديّة، واختراقها للماركسيّين العرب.

على إثر ذلك، ستكون هذه المقالة، محاوَلة لقراءة أطروحات فرح، الّتي هدفت إلى نزع الكولونياليّة عن الماركسيّة، وإنتاجها في شكلها الفلسطينيّ، المنطلقة من النضال النقابيّ والثوريّ العربيّ، في مراحل عدّة، بين عام 1925 وعام 1948، عبر الاشتباك النظريّ مع ثيمات متعدّدة: الطبقات، والاستيطان والصهيونيّة، والاستعمار البريطانيّ، مشدّدًا على أنّه يُنْتِج معرفة بديلة وأكثر سعة وتفصيلًا ممّا أنتجه مَنْ يقابله من الماركسيّين العرب، وتحديدًا المؤرّخين؛ إذ إنّ مقولتهم الأساسيّة هي التبرير التاريخيّ لوجود «ظروف معيّنة وخاصّة» يجب البناء عليها.

 

الواقع الاجتماعيّ الفلسطينيّ

يكتب فرح: "أمّا البرجوازيّة العربيّة فلم تكن تعرف ما تريد، ولم تكن برجوازيّة في المعنى المصطلح عليه في الغرب؛ فقد كانت من أوساط الإقطاع، وتدين بمفاهيمه وتقاليده، تتحسّس طريقها إلى علاقات الإنتاج الرأسماليّة المعاصرة، واستعملت الصهيونيّة للوقوف ضدّ تطوّر الحركة العمّاليّة العربيّة"[2].

بدايةً، يحاول فرح تحديد الفاعلين الاجتماعيّين في فلسطين، ووصف التحوّلات الجارية بشكل مغاير عن منظور «الحزب الشيوعيّ» في تلك الفترة، وتنظيراته المتعلّقة بـ «تخلّف» الواقع الاجتماعيّ في فلسطين، واعتبار الكولونياليّة رافدة التقدّم الاجتماعيّ والصراع الطبقيّ، أي بروز طبقة عاملة وأخرى برجوازيّة[3].

اختار فرح نقطةَ بداية هذه التحوّلات أوائل القرن العشرين، ملاحظًا أنّ عودة العرب الفلسطينيّين أعقاب الحرب العالميّة الأولى، وتدمير الحكم العثمانيّ، كانت الرافعة الأساسيّة للإنتاج والعمل والزراعة؛ فنشط إثر ذلك العمل الحرفيّ والإنشائيّ والتجارة، ولا سيّما في سياق فرض الانتداب البريطانيّ، الّذي دفع إلى التجارة الرأسماليّة والصناعة، وفتح الطرق  وسهّل المواصلات؛ فقد أدخل السيّارات الآليّة، ويسّر التبادل التجاريّ، وخلق شبكة واسعة من خطوط السكك الحديديّة، وبالموازاة حفّز الهجرات الاستيطانيّة اليهوديّة الأوروبّيّة إلى فلسطين.

يرى فرح أنّ الهجرات اليهوديّة كانت أداةً مهمّةً بيد البريطانيّين لتحطيم النمط الاجتماعيّ الفلاحيّ الفلسطينيّ؛ فقد اشترت الحركة الصهيونيّة أجود الأراضي في مرج بن عامر والجليل والسهل، وعلى إثر ذلك طردت الفلّاحين، ومع شدّة العوز والفقر قصدوا المدن للعمل، ولم يستكن لهم ذلك أيضًا، بسبب التصنيفات العرقيّة والعنصريّة المهيمنة على العديد من مجالات العمل، عند الحركة الصهيونيّة والبريطانيّين.

 

خبر منشور في صحيفة «فلسطين» عام 1945

 

إنّ الطبقة العاملة في فلسطين، في معناها السياسيّ والاجتماعيّ، هم العرب سكّان هذه البلاد، الّذين أجبرتهم الحركة الصهيونيّة (بالتعاون مع الإدارة الاستعماريّة البريطانيّة) على ترك أراضيهم، وهدمت نمط حياتهم الفلّاحيّ[4]. من هنا نستنتج أنّ التحوّل الجاري في المجتمع الفلسطينيّ، من منظور التحليل المادّيّ التاريخيّ لدى فرح، لا يعبّر عن معياريّة وفرضيّات أورومركزيّة إزاء الفلّاحين. بالتالي، يشدّد فرح على أنّ الوجود العمّاليّ (البروليتاريّ) اليهوديّ، لا يختلف عن الوجود البرجوازيّ اليهوديّ، فهي جميعها تقوم على استيطان فلسطين ومحو المجموعة الأصلانيّة العربيّة.

يهدف نزع المعياريّة عن الطبقة العاملة، وتحديدًا اليهوديّة الأوروبّيّة، إلى التشديد على التحوّلات المادّيّة الجارية، من سلب الأرض والاستيطان اليهوديّ المدفوع من الاستعمار البريطانيّ. بالتالي، لم تعد الطبقة العاملة تعبّر عن قيمة اجتماعيّة متقدّمة عن الطبقات والتشكيلات الاجتماعيّة الأخرى في فلسطين، بل هي تجسّد التغيّرات القائمة بفعل الاستعمار وحركة رأس المال، واجتماعيًّا هي جزء من الصراع الجاري، ضدّ سياسات المحو للمجموعة الأصلانيّة العربيّة في فلسطين. بمعنًى آخر، نزع المعياريّة يتيح نظريًّا ضرورة التحالف الوطنيّ، على عكس «الأمميّة الاستيطانيّة - التحالف العمّاليّ العربيّ اليهوديّ»، الّتي تعني وفقًا للشروط والتحوّلات الجارية في فلسطين، الوقوف إلى جانب المشروع الاستعماريّ.

ويسرد فرح أنّ الدعوة إلى التنظيم النقابيّ العمّاليّ العربيّ، متمثّلًا بـ «المؤتمر الأوّل» عام 1930، كانت نتيجة وعي العمّال الفلسطينيّين في هذه التحوّلات على المستوى المادّيّ، وخصوصًا عمّال السكك الحديديّة، وأيضًا على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ، حيث ظهرت رغبتهم في تحسين شروط العمل وطرح مطالب اقتصاديّة مباشرة، وخصوصًا في ظلّ التمييز الجاري على أساس قوميّ وعرقيّ، وكذلك الردّ المنظّم على محاولات العمل المنظّم اليهوديّ، وعلى رأسها منظّمة «هستدروت» (الاتّحاد العامّ للعمّال اليهود)، لاحتواء العمّال العرب، وإقامة حركة لهم تابعة تخدم الحركة الصهيونيّة. كما برز وعي في المشاركة السياسيّة المنظّمة ضدّ المشروع الصهيونيّ والاستعمار البريطانيّ، والتشديد على مصالح الفلّاحين الفلسطينيّين، وتثبيت ملكيّتهم للأرض.

إذن، يعيد فرح أهمّيّة ربط الفلّاح بالعامل، جزءًا من النضال ضدّ المشروع العنصريّ الاستعماريّ، وفي الوقت ذاته، يبيّن أنّ البرجوازيّة المحلّيّة لا تعبّر عن «الطبقة» بالمعنى الأوروبّيّ للبرجوازيّة، بل هي وصف أقرب لتحديد مَنْ هم ليسوا عمّالًا وفلّاحين فلسطينيّين. بمعنًى آخر، يتيح فرح إمكانيّة وحرّيّة التنظير حول فعل وتعريف وفهم مصالح وطموحات وممارسات  «البرجوازيّة المحلّيّة»؛ فهي تشمل قيادات طائفيّة/ قبليّة/ إقطاعيّة، وأيضًا تجّارًا وأصحاب ورش صغيرة وما إلى ذلك، بالتالي من الممكن نظريًّا، التعاون والتنظيم والنضال على أساس التحرّر الوطنيّ[5].

ويصف فرح علاقة «البرجوازيّة المحلّيّة» بنضال العمّال على أنّها "مرّة مع العمّال العرب وتنظيمهم المستقلّ، ومرّة أخرى مع نفسها، مع مصالحها ضدّهم"[6]؛ لذلك، الحركة الوطنيّة العربيّة في فلسطين، تحت قيادة الطبقة الّتي يصفها بالبرجوازيّة، وتتشكّل من مصالح متعدّدة للعشائر والإقطاعيّين والطائفة، لم تعِ أهمّيّة صياغة المصالح الوطنيّة، واتّحادها مع العمّال، ومن ثَمّ ضيّعت مصالحها ومصالح جميع الطبقات. ويكمل أنّ فخري النشاشيبي حاول البناء والدفع بتنظيم العمّال تحت إطار الحركة الوطنيّة، من خلال جمعيّات عمّاليّة في القدس ويافا ونابلس، لكنّ الجمعيّات لم تكن على وعي كافٍ بالتطوّر التاريخيّ والاجتماعيّ في فلسطين؛ وهو ما منعها من تنظيم نضال وطنيّ حقيقيّ أساسه العمّال والفلّاحون و«البرجوازيّة المحلّيّة»، ولا سيّما مع اشتداد سلب الأرض من الفلّاح، وسلب العمل من العامل، وسلب التجارة من التاجر، وسلب الصناعة من البرجوازيّة[7].

يقترح فرح المقولة النظريّة التالية: الصراع الفلسطينيّ ضدّ اليهود المستوطنين لا يتعيّن من زاوية علاقتهم بوسائل الإنتاج (وفقًا للمقولة الماركسيّة الكلاسيكيّة، حيث إنّ الصراع يتعيّن وفقًا بين مَنْ يحوز على وسائل الإنتاج، ومَنْ هم دونها)، بل يتعيّن من زاوية علاقتهم بالمشروع الصهيونيّ

أمّا في إشارته إلى التركيبات الاجتماعيّة للمجموعة اليهوديّة، فيجد أنّها أيضًا تتشكّل من خلال طبقة برجوازيّة وأخرى عمّاليّة، إلّا أنّ المشروع الصهيونيّ يشدّهم جميعًا إليه في نحو أو آخر، وأنّ الطبيعة الكولونياليّة لليهود القادمين إلى فلسطين، لا تنفي الصراع بين طبقة عمّاليّة يهوديّة، مقابل طبقة برجوازيّة، إلّا أنّها في نظره هي المحدّد الأساسيّ للتعاطي مع اليهود المستوطنين في فلسطين[8].

بموجب ذلك، يقترح فرح المقولة النظريّة التالية: الصراع الفلسطينيّ ضدّ اليهود المستوطنين لا يتعيّن من زاوية علاقتهم بوسائل الإنتاج (وفقًا للمقولة الماركسيّة الكلاسيكيّة، حيث إنّ الصراع يتعيّن وفقًا بين مَنْ يحوز على وسائل الإنتاج، ومَنْ هم دونها)، بل يتعيّن من زاوية علاقتهم بالمشروع الصهيونيّ، في بناء دولة أو مجتمع أو محميّات أو كيبوتسات يهوديّة صهيونيّة، معزولة عن الواقع العربيّ الفلسطينيّ، والمنطقة عمومًا، مناقضة لمصالحه في الاستقلال والسيادة الكاملة.

 

«الحزب الشيوعيّ» و«مسألة التعريب»

"كانت الاجتماعات الحزبيّة في الحلقات الصغيرة الّتي كانت تُعْقَد، على فترات متواصلة، يقودها رفاق من اليهود المهاجرين، أعاجم لا يعرفون أرض المنطقة، لا يأكلون أغلب ما تنتجه الأرض، ويُقاسون من جوّها، يتقوقعون في مراكز كولونياليّة منعزلة، لا قوميّة تجمعهم بأهل البلاد، ولا لغة ولا ثقافة ولا مصير، ويجهلون تاريخها ودينها ونفسيّة أهلها. جاؤوا إمّا مغامرين، وإمّا كولونياليّين، وإمّا سرايا دفاع"[9].

يجد فرح أنّ قدوم اليهود الشيوعيّين، إلى فلسطين، كان محاولة منهم لرأب الصدع والتناقض بين الشيوعيّة والصهيونيّة. قدومهم كان جزءًا من الثورة البروليتاريّة العالميّة، وقد حمل تناقضات كثيرة، أهمّها بين وجودهم الكولونياليّ وطموحهم الثوريّ. على سبيل المثال، النظريّة الماركسيّة هي مزج وتداخل بين النظريّة والواقع، أي ممارستك ووجودك بين المجتمع. كيف يستطيعون ذلك، وهم لا علاقة لهم بالواقع الفلسطينيّ، وما تعوزه وما تطلبه وما تطمح إليه الجماهير العربيّة الفلسطينيّة؟

إذن، يحاول فرح نقد «مسألة التعريب» من خلال فهم الوجود الاجتماعيّ اليهوديّ في فلسطين، حيث إنّه لن يستطيع إلّا أن يكون مستوطنًا. بالتالي، «التعريب» وفقًا لممارسة «الحزب الشيوعيّ» وفهمه، لم تُؤْخَذ سياسيًّا ومادّيًّا بمحمل الجدّيّة، ولم تستطع القيادة الشيوعيّة اليهوديّة استيعابها؛ بسبب علاقتها بالمجتمع الصهيونيّ الناشئ.

نظر فرح إلى «مسألة التعريب» بوصفها سيرورة اجتماعيّة وسياسيّة؛ فهي بالضرورة ليست متعلّقة بقرار حزبيّ أو «الكومنترن» (ممثّليّة الأحزاب الشيوعيّة في العالم). بمعنًى آخر؛ المحدّد الأساسيّ هو التركيبات الاجتماعيّة للمجموعات اليهوديّة الّتي قدمت إلى فلسطين، سواء شيوعيّة كانت أو يمينيّة قوميّة أو يساريّة ليبراليّة، أي أنّه ربط سؤال التعريب بسؤال تكوّن المجتمع اليهوديّ المستوطن؛ لذلك أأرادت المجموعات اليهوديّة القادمة إلى فلسطين، أن تصبح جزءًا من التشكيل الاجتماعيّ للفلسطينيّين العرب، بالتالي دورها يصبح جزءًا من طموح تحرّر المجتمع القائم، أم أنّها تريد بدايةً إنشاء مجتمع آخر، لتستبدله بالمجتمع القائم، وهذا السؤال مطروح نظريًّا، ولأسباب جيوسياسيّة وتأسيس علاقات بالإمبراطوريّات لم يعد أهمّيّة لهذا السؤال، لأنّ الإجابة أصبحت محسومة عمليًّا، لصالح الاتّجاه الأوّل: دور المستوطنين الأوائل ارتبط بإنشاء مجتمع مستوطنين؛ ليكون أساسًا لدولة يهوديّة، من خلاله يُمْحى المجتمع المحلّيّ ويُسْتَبْدَل.

 

من ملحق كتاب «الحركة العمّاليّة العربيّة في فلسطين» لبولس فرح

 

وهذا ما يعيه فرح في تجربته العمّاليّة والنقابيّة حتّى عام 1948، أنّ «مسألة التعريب» لم تعد متعلّقة بالواقع، لكن المطروح في الواقع هو ما دور الشيوعيّين اليهود، في ظلّ مشروع سياديّ بالمعنى السوسيولوجيّ؛ أي بناء دولة قوميّة حديثة على أساس العنف، يهوديّ صهيونيّ قامت أعمدته الأساسيّة منذ إعلان الانتداب البريطانيّ؟

ويذكر فرح بشكل واضح أنّ الطبيعة الكولونياليّة للمجموعة اليهوديّة الشيوعيّة، تجسّدت من خلال عدم استيعاب «التعريب» في الحزب إلّا بوصفها زيادةً لعضويّة الرفاق العرب، وتوسيع نفوذ الحزب بين الجماهير العربيّة، عبر بيانات ومنشورات يصدرها باللغة العربيّة. وفرح يشدّد على أنّ التعريب "نهج سياسيّ جديد، يستمدّه الحزب من الطبيعة الثوريّة للحركة الوطنيّة، وأنّه من غير المرغوب فيه صهينة الحركة الشيوعيّة، أي الفصل بين الصهيونيّة وقاعدتها العمّاليّة. ولم نفهم ولم يفهموا أنّ الثقل الثوريّ الاجتماعيّ والوطنيّ، ومستقبل قضيّة الاشتراكيّة في فلسطين والعالم العربيّ، هي مهمّة الجماهير العربيّة، وأنّ الجماهير اليهوديّة وقيادتها وأحزابها من اليمين إلى اليسار تؤدّي دور الوكيل للمصالح الإمبرياليّة، وأنّها منه وله، وأنّها إن لم تغيّر من طبيعتها ومهمّتها الكولونياليّة، وعمالتها المكشوفة، فلا مستقبل لها في المنطقة"[10]. ويضيف أنّ هذه السياسة تعثّرت بسبب رفض رفاق يهود عدّة لذلك، ولعدم توفّر الكادر العربيّ المؤهّل لمثل هذا الدور في حينه. والأهمّ هو عدم إتاحة المجال للبدء بتدريب كوادر عربيّة لهذه المهامّ، بل اعتقدوا أنّ تنفيذ سياسة التعريب، يستطيع القيام بها الرفاق اليهود، وسيكون ذلك وفقًا لرؤيتهم، علمًا أنّ العرب الفلسطينيّين في تلك الفترة يعلمون بشكل واضح أنّ المجموعة اليهوديّة جزء من الوجود الإمبرياليّ البريطانيّ؛ لتنفيذ المشروع الصهيونيّ في فترة العشرينات وأوائل الثلاثينات.

وخلال القرارات الّتي صدرت في المؤتمر السابع «للحزب الشيوعيّ» في فلسطين، الّتي عُنِيَت بسياسة التعريب، لم يتطرّق المؤتمر إلى «التجمّع اليهوديّ»، وهنا يطرح فرح السؤال: لماذا لم يقرّر مؤتمر الحزب حيال العلاقة باليهود المستوطنين، ومستقبلهم في فلسطين، ضمن سياسة التعريب، بمعنًى آخر؛ ما فائدة «تعريب الحزب» في حين أنّها لم تسائل تجمّع المستوطنين اليهود، في ماهيّته، أسبابه، مستقبله، وقدومه إلى هذه المنطقة تحديدًا؟

 

الفصل بين «يهود قوميّين» و«يهود ثوّار»

"في منشور وزّعته (اللجنة التنفيذيّة للحزب الإباحيّ في فلسطين)، والحزب الإباحيّ هنا، يعني ‘الحزب الشيوعيّ‘، جاء فيه: ‘يعيش معكم العمّال اليهود الّذين لم يأتوا لاضطهادكم بل كي يعيشوا معكم وهم مستعدّون للجهاد بجانبكم. وأنّ هذا العامل اليهوديّ، جنديّ الثورة، جاء ليمدّ يده كزميل لكم لمقاومة الماليّين (ويُقْصَد بذلك الطبقة البرجوازيّة) الإنجليز واليهود والعرب‘، لا حاجة لي بالتعليق على ما سمّوا أنفسهم جنود الثورة؛ فقد وجدناهم كما تصوّرناهم جنودًا للصهيونيّة، ولا يزالون لغاية اليوم"[11].

ينتقد فرح المحاولات النظريّة الّتي ترى أنّه بالإمكان التصالح مع الغزو الاستعماريّ في فلسطين لمجموعات المستوطنين اليهود، وتفصلها عن الإدارة البريطانيّة بمؤسّساتها وجنودها، مشيرًا إلى أنّ هذه المحاولات بدأت بالانتشار في الصحف والكتابات؛ في مقالة لأحد «جنود الثورة» نُشِرَت في مجلّة «النفير»، لصاحبها ورئيس تحريرها إيليا زكي، تؤكّد الفصل بين القوميّين اليهود المتعاونين مع البريطانيّين، ومن جهة أخرى البروليتاريّ اليهوديّ المستوطن. وينقد أيضًا كتابات الكاتب الفلسطينيّ إميل حبيبي ومواقفه، وزميله إميل توما، حول عدم استيعاب المشروع الصهيونيّ برمّته، ضمن نسق الاستعمار الاستيطانيّ، واعتبار أنّ ما حصل هو «تغيير سكّانيّ»، وفقًا لما جاء عند حبيبي في مقدّمة كتاب «العمل الشيوعيّ في فلسطين»، للمؤلّف سميح سمارة[12]. ويلفت فرح كثيرًا إلى دور «هستدروت» في صياغة سياسات وتجسيدها وممارستها للفصل العنصريّ تجاه العامل العربيّ، وكسب العامل اليهوديّ إثر هذه السياسات.

ويصفهم فرح على أنّهم "نفر من العرب انحازوا إلى مشروع الدولتين"، ويشدّد على رفضه أنّ «عصبة التحرّر الوطنيّ» وقفت مع «قرار التقسيم»، قائلًا: "رفضت أكثريّة اللجنة المركزيّة لعصبة التحرّر الوطنيّ، التقسيم، ولم تجد فيه تقريرًا للمصير بل تقريرًا لسوء المصير"...

ما يحاول فرح طرحه أنّ الأمر ليس متعلّقًا بنوايا العمّال اليهود، بل علينا النظر إلى النسق العنصريّ المرتبط بالعمّال اليهود بأكمله وتطوّره، وعلاقته بدفع أعمدة المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ وتقويتها، علمًا أنّها هي شرعت أيضًا في تشكيل «الحاميات اليهوديّة»، أواخر عام 1930؛ على إثر ذلك تظاهرت ونشطت بكثافة وبشكل عنيف يتخلّله الضرب والتهديد، لاستبدال عمّال ومزارعين ومقاولين فلسطينيّين، وهذه الامتيازات للمجموعة اليهوديّة هي الّتي تحوّلهم إلى أفراد مستعمرين؛ إذ إنّ هذه العلاقة بين وجوده في فلسطين بصفة يهوديّ، تحديدًا في هذه الفترة التاريخيّة، جعلتهم مرتبطين بالنسق الكولونياليّ المزمع إنشاؤه.

الفصل النظريّ بين «يهود قوميّين» من جهة، و«يهود عمّال ثوريّين» من جهة أخرى، لم يكن متطابقًا مع الواقع الّذي تشكّل عند الجماعة اليهوديّة الاستيطانيّة في فلسطين، الّتي صهرت الجميع في مؤسّسات ومنظّمات عمّاليّة بالتعاون مع الإدارة الاستعماريّة البريطانيّة، جعلت من كونك يهوديًّا امتيازًا. في هذا الواقع يصف فرح أنّ معركة منظّمات عمّاليّة عربيّة، هي على العمّال العرب الفلسطينيّين، الّتي حاولت منظّمة «هستدروت» تكرارًا وجاهدةً تنظيمهم تحت إطارها بأشكال متعدّدة، أمّا مسألة العمّال اليهود، فهي محسومة عمليًّا لصالح الـ «هستدروت»، ومن هنا تتبيّن مغالطة الفصل الحاصل، وفهمهم النظريّ للواقع، والّتي تبعها عطب في الممارسة الثوريّة؛ حيث إنّ مهامّ التنظيم العمّاليّ العربيّ رفع الوعي الوطنيّ والطبقيّ بين صفوف الطبقة العاملة وفقراء الفلّاحين، الّذين هاجروا إلى المدن بعد أن استولى المستوطنون الاستعماريّون على أراضيهم[13].

يرى فرح أنّ «عصبة التحرّر الوطنيّ»، الّتي تشكّلت لتكون العنوان السياسيّ للتنظيم العمّاليّ في المرحلة الّتي تلت الثورة الفلسطينيّة (1936 – 1939)، قد حافظت على نظريّة تعادي الوجود الصهيونيّ الاستعماريّ الاستيطانيّ؛ إذ إنّ عداءها للصهيونيّة مستمرّ من قبل «قرار التقسيم» الصادر أواخر عام 1947 وبعده. وهو في مجادلته لإيضاح هذا المسار، وهي في رأيي تختم أطروحته الّتي تنزع الكولونياليّة عن القراءة الماركسيّة للمسألة الفلسطينيّة، في تلك الفترة المحتدمة بمجملها؛ الصهيونيّة وحقّ تقرير مصير للمجموعة اليهوديّة، يعبّر أوّلًا: عن مبدأ «ضدّ التعايش» مع الفلسطينيّين، ويقصي بالتالي أيّ إمكانيّة مستقبليّة لتسوية الوجود اليهوديّ الاستيطانيّ في فلسطين، جزءًا من صياغة مشروع وطنيّ وقوميّ في المنطقة عمومًا[14]. وعلى سبيل المثال، كان من الممكن تدريجيًّا إدماج ما يقارب 600 ألف من اليهود، بالموازاة مع تفكيك المؤسّسات الصهيونيّة العنصريّة، كما يجب تفكيك الإدارة البريطانيّة، وكلاهما استعماريّ، فهو لم يقل ذلك بشكل مباشر إلّا أنّني رأيته يشير إلى ذلك.

وفي المقابل، يبيّن فرح بوضوح أنّ الصهيونيّة ربطت المجموعة اليهوديّة، ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، بالمشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ والمصالح الإمبرياليّة في المنطقة، بالتالي الفصل النظريّ غير الواقعيّ بين الاثنين، أثناء صدور «قرار التقسيم»، على أنّ "المجموعة اليهوديّة تناضل ضدّ الوجود البريطانيّ، وتطمح إلى تحقيق مصيرها، دون علاقة بالصهيونيّة"، فهذه المقولة لا تنتمي إلى ما جرى في فلسطين، وغير متماسكة نظريًّا وتاريخيًّا لاستيعاب المشروع الصهيونيّ، ويصفهم فرح على أنّهم "نفر من العرب انحازوا إلى مشروع الدولتين"، ويشدّد على رفضه أنّ «عصبة التحرّر الوطنيّ» وقفت مع «قرار التقسيم»، قائلًا: "رفضت أكثريّة اللجنة المركزيّة لعصبة التحرّر الوطنيّ، التقسيم، ولم تجد فيه تقريرًا للمصير بل تقريرًا لسوء المصير". ودعت صحيفة «الاتّحاد» إلى ستّة شعارات ومبادئ (قبل أن يكون قد تسلّمها مَنْ وافقوا على قرار التقسيم): 1) ضدّ المذابح الطائفيّة. 2) وحدة فلسطين. 3) في سبيل الديمقراطيّة. 4) التخفيف من التوتّر بين العرب واليهود. 5) طرد الاستعمار من البلاد. 6) التعاون بين الجماهير العربيّة واليهوديّة. وهذا يعود إلى ميزان القوى غير المتكافئ بين المجموعتين العربيّة واليهوديّة، بالتالي أيّ محاولة لإعطاء قسم من الأرض، ستكون نهاية الوجود الفلسطينيّ السياسيّ على أرضهم. وثانيًا: المعارك والحرب في القرى والبلدات والمدن ستكون أيضًا لصالح المجموعة اليهوديّة، والمؤسّسات الصهيونيّة العسكريّة كانت معنيّة في ذلك لدفع الفلسطينيّين إلى النزوح، وفي المقابل فإنّ القيادة العربيّة والتنظيمات العسكريّة، لم تعزّز صمود الأهالي وثباتهم في أرضهم[15].

 

خبر رحيل بولس فرح في صحيفة «الاتّحاد»

 

التعقيد الّذي يطرحه بولس فرح إزاء العلاقة بالمستوطنين اليهود، في هذه الفترة، يبيّن الصعوبات والتغيّرات الّتي جرت بسرعة كبيرة في فلسطين، لكن من المهمّ التأكيد على أنّ العلاقة المركّبة الّتي نتجت إثر المشروع الكولونياليّ، هي ليست «ظروفًا خاصّة» تتيح التنازل عن أكثر من نصف أرض فلسطين، للمؤسّسات الصهيونيّة الاستعماريّة العنصريّة.

.........

إحالات

[1] بولس فرح، الحركة العمّاليّة العربيّة الفلسطينيّة - جدليّة بعثها وسقوطها (مطبعة دار المشرق، 1987)، ص 38.

[2] المصدر نفسه، ص 63.

[3] محمّد قعدان، "حفر معرفيّ في مفاهيم الطبقة والشيوعيّة والإمبرياليّة"، فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، 17/11/2019، شوهد في: 15/02/2021، في: https://short.arab48.com/short/Wzec

[4] بولس فرح، المرجع نفسه، ص 39-41.

[5] المرجع نفسه، ص 38-55.

المرجع نفسه، ص 63.  [6]

المرجع نفسه، ص 64. [7]

[8] بولس فرح، من العثمانيّة إلى الدولة العبريّة (الصوت - جمعيّة لنشر الثقافة وتعميق الوعي الفلسطينيّ، 1985)، ص 72.

[9] المرجع نفسه، ص 67.

[10] المرجع نفسه، ص 72.

[11] بولس فرح، الحركة العمّاليّة العربيّة الفلسطينيّة...، ص 44.

[12] المرجع نفسه، ص 44.

[13] المرجع نفسه، ص 70 و83.

[14] بولس فرح، من العثمانيّة إلى الدولة العبريّة، ص 190.

[15] المرجع نفسه، ص 191- 201.

 

 


محمّد قعدان

 

 

طالب في جامعة تل أبيب ضمن برنامج مُتعدّد التخصّصات؛ سوسيولوجيا، أنثروبولوجيا، تاريخ الشرق الأوسط، دراسات بيئيّة. عضو مؤسّس لـ "منتدى إدوارد سعيد في جامعة تل أبيب."