ما حدث في «سجن الجلبوّع»... تفكيك منظومة المراقبة والعقاب

سجن الجلبوّع | أ ف ب

 

استطاع الأسرى الفلسطينيّون الستّة؛ عبر تحريرهم لأنفسهم من «سجن الجلبوّع»، أن يخلقوا متتالية أخرى من متتاليات الثورة والحرّيّة، وذلك بفعل الإصرار على الحركة نقيضًا فعليًّا للسجن، الّذي ما انفكّ يُعْمِل أدواته ليشلّ حركة أجسادهم وعقولهم وأرواحهم. من حركة العقل المُدَبِّر أوّلًا، وحركة الجسد المُنَفِّذ تاليًا، ثمّ الحفر والزحف إلى الحرّيّة أخيرًا؛ تفجّرت طاقة الأسرى الثوريّة الكامنة الّتي فشلت منظومة السجون الإسرائيليّة، على ما يبدو، في إخضاعها وإبقائها تحت المراقبة، أملًا في صهرها وإعادة صياغتها بمنأًى عن الفكر المقاوم.

 

التواري

نتج عن عمليّة الحفر تلك هوّة عميقة تدفعنا إلى تفكيك عناصر منظومة السجن، الّتي يتفاخر الاحتلال الإسرائيليّ بحداثتها وحصانتها؛ منظومة المراقبة والعقاب الّتي لا تختلف في آليّة عملها كثيرًا عن بقيّة مؤسّسات دولة الاحتلال العسكريّة والمدنيّة، جاعلةً من السجن أنموذجًا مصغّرًا للعالم الممتدّ خارج أسواره، من عمليّات التفتيش المفاجِئة، وسياسات الترحيل من سجن إلى سجن، أو من قسم إلى آخر، إلى تكديس الأسرى في زنزانة واحدة، أو عزلهم بشكل فرديّ، وغيرها من الأساليب الّتي تُحْيي مشاهد مكرّرة من تاريخ نكبة الفلسطينيّين، وواقعهم المدجّج بحواجز التفتيش[1].

تهدف منظومة السجون الإسرائيليّة إلى جعل الأسرى والأسيرات موضوعًا للمراقبة الدائمة، في سجن جسديّ نفسيّ دائم ومحكم الإغلاق، وهكذا يتشكّل مفهوم السلطة العليا...

وبدءًا من مخطّطات الهندسة البنائيّة للسجن، مرورًا بالعناصر الأخرى كالسجّانين والكاميرات والأبراج المركزيّة الشديدة الحراسة؛ تهدف منظومة السجون الإسرائيليّة إلى جعل الأسرى والأسيرات موضوعًا للمراقبة الدائمة، في سجن جسديّ نفسيّ دائم ومحكم الإغلاق، وهكذا يتشكّل مفهوم السلطة العليا، الّتي ترى كلّ شيء دون أن تُرى، على حدّ تعبير فوكو.

من هنا، يمكن القول إنّ ما حدث مؤخّرًا في «سجن الجلبوّع» قلَب موازين المنظومة، وجرّد مصلحة السجون- ولو لفترة وجيزة - من احتكارها للعناصر الزمانيّة والمكانيّة؛ إذ بعيدًا عن حيّز الزنزانة المراقَبة ليل نهار، خلق الأسرى أسفل السجن حيّزًا سرّيًّا لامرئيًّا تبعًا للزمن الخاصّ بهم؛ ليتحوّلوا بذلك، بين ليلة وضحاها، من أسرى مراقَبين إلى أحرار متوارين عن أنظار أجهزة الاحتلال الإسرائيليّ الأمنيّة.

 

صهر الوعي

من جهة أخرى، يحيلنا خرق أسرى «الجلبوّع» لأجهزة المراقبة الأمنيّة إلى تفكيك منظومة العقاب الإسرائيليّة وآليّاتها؛ إذ يأتي الدور الّذي تؤدّيه منظومة المراقبة في قهر النفس، والسيطرة على تحرّكات الجسد، ضابطًا ومتحكّمًا في منهجيّات تعذيب الأسرى والأسيرات جسديًّا ونفسيًّا. يكشف المناضل والأسير الفلسطينيّ وليد دقّة في دراسة مهمّة أنجزها داخل «سجن الجلبوعّ» بعنوان «صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب» (2010)، عن المنظومة الشاملة والمدروسة بدقّة، الّتي تبنّتها مصلحة السجون الإسرائيليّة منذ عام 2004؛ استنادًا إلى قواعد الهندسة البشريّة وعلم النفس والاجتماع، الّتي يجري تطبيقها في مرحلة ما بعد العنف الجسديّ والنفسيّ عند الاعتقال والتحقيق، وتحديدًا المرحلة الّتي يقبع خلالها الأسير أو الأسيرة في السجن لأعوام طويلة. لا ترتكز هذه المنهجيّات البديلة على الضرب والتنكيل والتعنيف بشكل مباشر، بل تمهّد شيئًا فشيئًا إلى محو فكر المقاومة، بما يخدم العقليّة الاستعماريّة خارج السجون.

من خلال عمليّات تدجين بطيئة وممنهجة، تعمد منظومة السجون الإسرائيليّة إلى صهر الوعي المقاوِم، على حدّ تعبير الأسير دقّة، وبدلًا من أساليب التعذيب والحرمان من الأكل والنوم، طوّرت منهجيّات تعذيب مبطّنة ومركّبة، تهدف إلى تغريب الأسرى والأسيرات عن عقليّة النضال الّتي أُسِروا لأجلها؛ فمثلًا، تغيّر زيّ السجّان وصورته لتصير أقرب إلى صورة الموظّف العاديّ، كما يذكر الأسير دقّة. أمّا المخصّصات الماليّة للأسرى والأسيرات فأضحت وفيرة، وخيارات شراء الأكل من «كانتينا» السجن، ومشاهدة الفضائيّات العربيّة كلّها باتت ممكنة. أدخلت هذه التحوّلات الأسير دقّة في حالة عجز تامّ عن وصف الوضع الّذي "عطّل حتّى القدرة أو الإمكانيّة لاستخدام الأدب والشعر، بمفرداته ولغته وصوره القديمة؛ لتصوير المعاناة والعذاب، دون أن يكون مجافيًا للحقيقة، ودون أن يكون مضخّمًا للصورة"؛ ولذلك أضحى ضروريًّا في رأيه البحث عن "أدوات أكثر قدرة على تفسير التعذيب الحديث والمركّب وشرحه[2].

يعتقد الأسير دقّة أنّ هدف تلك المنهجيّات الحديثة هو إغراق الأسرى –ولا سيّما جيل الانتفاضة الشابّ - في الهموم الفرديّة، والاستفراد بهم لإقناعهم بأنّ "زمن النضال قد ولّى"[3]، وأنّ القضيّة الّتي أُسِروا من أجلها لم تَعُد قضيّة وطن، بل مجرّد صفقة مؤجّلة. أمّا جيل الحركة الأسيرة الّذي كان شاهدًا على كلّ هذه التحوّلات، مثل الأسير دقّة، وغيره من مناضلي الحركات الوطنيّة ممّن انضمّوا إلى منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وقبعوا في سجون الاحتلال عقودًا طويلة، فتحوّلوا من "رأس مال نضاليّ قبل أوسلو؛ ليجدوا أنفسهم بعدها، صرف عملة (فكّة) تفاوضيّة ليس إلا"[4].

 

تحويل الزمن

ما أقدم الأسرى الستّة على فعله مؤخّرًا، هو دليل كافٍ على فشل منهجيّات التعذيب الإسرائيليّة الحديثة في سعيها إلى صهر وعيهم، وتهميش قضيّتهم؛ لأنّها ببساطة لم تردعهم عن التفكير والتخطيط لتحرير أنفسهم. وحتّى بعد أن تمكّنت أجهزة الاحتلال الإسرائيليّ من القبض على أربعة من هؤلاء الأسرى، فلن يُنْقِص ذلك شيئًا من عظيم شأن ما فعلوه.

لا ترتكز (...) المنهجيّات البديلة على الضرب والتنكيل والتعنيف بشكل مباشر، بل تمهّد شيئًا فشيئًا إلى محو فكر المقاومة، بما يخدم العقليّة الاستعماريّة خارج السجون.

إنّ ما حدث في «سجن الجلبوّع» ليس هروبًا بمعنى الانبثاق المفاجئ من حالة أسر، وإنّما نتاج خطّة محكمة وعمليّة ممنهجة، استطاع الأسرى الستّة من خلالها أن يحوّلوا «الزمن الموازي»[5] داخل السجن إلى «زمن موقوت»[6] بالأمل والثورة خارج السجن. ها هم يستفزّون مصلحة السجون الإسرائيليّة لممارسة إجراءاتها القمعيّة علنيًّا، وإنزال العقوبات الجماعيّة على الأسرى الفلسطينيّين في السجون الأخرى، وكأنّها تجهل أنّ إجراءات كتلك ليست إلّا وقود الأسرى الأحرار، الّذين لمّا تذوِ شعلة الثورة فيهم بعد.

.........

إحالات

[1]   راتب حريبات، "ترانسفير الأسرى من سجن إلى سجن"، مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 22/07/2020، شوهد في 15/09/2021، في: https://bit.ly/3AdlCit

[2] وليد دقّة، صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب (مركز الجزيرة للدراسات، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2010)، ص73.

[3] المرجع نفسه.

[4] عبد الرحيم الشيخ، "الزمن الموقوت: نكبة فلسطين ومسارات التحرير"، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، 118، ربيع 2019، ص 16-26.

[5] في رسالة بعثها إلى عزمي بشارة عام 2005، تحدّث الأسير وليد دقّة عن «الزمن الموازي»، كأحد المفاهيم الفلسفيّة الّتي طوّرها لوصف زمن الأسرى داخل السجن، بحيث يحوّل هذا الزمن الأسرى إلى وحدات زمنيّة تتصارع مع ثبوتيّة المكان؛ وحدات زمنيّة غير مستخدمة بالطريقة ذاتها الّتي يُسْتَخْدَم بها الزمن الحقيقيّ؛ لأنّ الزمن الحقيقيّ هو زمن يلزمهم للحديث عن المستقبل والتحرير فحسب. تحوّلت رسالة دقّة لاحقًا إلى مسرحيّة بعنوان «الزمن الموازي» عام 2011، وعُرِضت عام 2014 في «مسرح الميدان» في حيفا.

للمزيد، انظر/ ي: وليد دقَّة: "دِقْ قَوِّي الدَّقّ وَعِّيْ كلّ البشر" | عبد الرحيم الشيخ للاطّلاع على الرسالة، انظر/ ي: رسالة الأسير وليد دقّة في اليوم الأوّل من عامه العشرين في الأسر!

[6] عبد الرحيم الشيخ، "الزمن الموقوت...".

 

 


وفيقة المصري

 

 

 

كاتبة وباحثة أكاديميّة، حاصلة على درجة الماجستير في الأدب والدراسات الثقافيّة باللغة الإنجليزيّة. عملت عدّة سنوات في تعليم اللغة العربيّة للناطقين بغيرها في عمّان.