هل يتوجّب على الشباب «التطوّع»؟ لست متأكّدًا من ذلك

عمل تطوّعيّ في «حيّ المحطّة» في اللدّ

 

شاركت هذا الشهر في المؤتمر الّذي نظّمته «جمعيّة الجليل للبحوث والخدمات الصحّيّة»، وفيه استعرضَت مع «مركز ركاز»، المسح الاستقصائيّ الواسع عن جيل الشباب العرب في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، وأصدرت كتابًا يشكّل مرجعًا قيّمًا في هذا الصدد.

في مؤتمر كهذا قدّمت الجمعيّة وطواقمها وباحثوها وباحثاتها عرضًا جديرًا، يشير إلى جدّيّة البحث على المستوى المهنيّ، وكذلك إلى درجة المسؤوليّة المجتمعيّة الّتي تميّز هذه المؤسّسة الرائدة. كما أنّ أبحاثًا من هذا النوع تكسب أهمّيّة خاصّة؛ لأنّها تقدّم للجنة المتابعة وللقوى السياسيّة والمؤسّسات الأهليّة والتربويّة والتشغيليّة، أساسًا لبلورة السياسات على أساس رؤية مظاهر ومؤشّرات تعتبرها نقاط قوّة يُبنى عليها، وأخرى نقاط ضعف وتحدّيات ينبغي مواجهتها.

لفت نظري خلال المداخلات والنقاش إثارة موضوع «التطوّع» قيمةً اجتماعيّة أو بحثيّة أو تحدّيًا ينبغي التعاطي معه ومعالجته؛ باعتبار عدم التطوّع مشكلة.

 

«التطوّع» أداةً للضبط

دون التقليل من أيّ بحث ولا من جدارة أيٍّ من الباحثات والباحثين، إلّا أنّه في اعتقادي عكست بعض الأبحاث أو بعضٌ من جوانبها، هيمنة قيم العلوم الاجتماعيّة الإسرائيليّة ومفاهيمها، وتحييدًا للبُعد النقديّ للمفاهيم المستخدمة وللسياقات، وهذا ما يمكن تسميته سطوة توجّه المؤسّسة البحثيّة الإسرائيليّة، حين يكون موضوع البحث هو المجتمع الفلسطينيّ في أراضي 48، أو البحث التاريخيّ حين يتطرّق إلى الرواية الفلسطينيّة المصطدمة بالرواية الإسرائيليّة؛ ليجري التعامل معه على أنّه تسييس العلوم أو البحث، في حين أنّ منعه يخدم تعزيز الهيمنة الإسرائيليّة، ومفاهيم الضبط والسيطرة، وفرض أدوات تخدم رواية الاستعمار، وهذا لا يُعتبر تسييسًا، بل مهنيّة وعزوفًا للبحث العلميّ عن أيّ «اعتبارات غريبة». لو قارنّا هذا التوجّه بالأبحاث المعنيّة باليهود العرب أو اليهود الشرقيّين أو الروس مثلًا، لوجدنا أنّ المؤسّسة الأكاديميّة البحثيّة تستخدم مفاهيم نقديّة لا تعتمد استخدامها في البحث حول الفلسطينيّين.

عكست بعض الأبحاث أو بعضٌ من جوانبها، هيمنة قيم العلوم الاجتماعيّة الإسرائيليّة ومفاهيمها، وتحييدًا للبُعد النقديّ للمفاهيم المستخدمة وللسياقات...

يجري التعامل عالميًّا مع التطوّع بصفته قيمة اجتماعيّة، ومعيارًا لمدى تفاعل الشباب، في هذا السياق، في حياة المجتمعات والدول، وفي المسؤوليّة المجتمعيّة، وهو معيار لقياس الرضا أو عدم الرضا عن الحالة المعيشة، إلّا أنّ المفهوم ذاته مسألة خلافيّة؛ لأنّ لها أبعادًا ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، ولها تسميات منبثقة عن ثقافة المجتمعات وتاريخها. على سبيل المثال، اعتمدت الثقافة العربيّة والإسلاميّة تاريخيًّا قيمًا مثل التكافل والإسناد والفزعة والزكاة، والمجتمع العصاميّ، سلوكًا فرديًّا منبثقًا من قيم اجتماعيّة وروابط اجتماعيّة وحالة ثقافيّة. ولم تكن هذه السلوكيّات مبنيّة على المؤسّسات، بل هي قيم مجتمعيّة. في حين أنّ التطوّع في الدولة الحديثة، وتحديدًا في الدول الغنيّة، شأنٌ فيه من قيم مجتمعات هذه البلدان، وفيه أيضًا تأثير من سياسات الدولة الغنيّة خاصّة، وما وفّرته مؤسّساتها الحكوميّة والرسميّة وغير الرسميّة وغير الحكوميّة، من امتيازات للمتطوّع أو المتطوّعة، مثل المنح الدراسيّة أو احتساب نقاط في التحضير للأكاديميا، أو فرص للقبول في عمل.

تتعامل إسرائيل مع «التطوّع» لدى المجتمع الفلسطينيّ بصفته أداة ضبط، وتجدر الإشارة إلى أنّ الضبط ليس مسألة استخدام قوّة أو إلزام قسريّ، بل هي سياسات دولة اجتماعيّة واقتصاديّة وتعليميّة، تجعلك تسير في منحًى معيّن كي تصل إلى وضعيّة تشعر بأنّك حقّقت فيها إنجازًا فرديًّا، لكن منسوب الإخضاع الجماعيّ لمصالح الدولة يكون أكبر.

 

التطوّع النضاليّ

منذ ما لا يقلّ عن أربعين عامًا، بأقلّ تقدير، كانت الأكاديميا الإسرائيليّة مشغولة في مسألة التطوّع، بل الدولة أيضًا. وذات الفترة تتحدّث السياسات العليا عن مفهوم «الخدمة» التطوّعيّة، لدى الشباب العربيّ الفلسطينيّ، والحديث عن الخدمة القوميّة والخدمة المدنيّة، ضمن مسعًى لتضمين قيم جديدة لقيم مجتمعنا. وقد أدخلت هذه «القيم» ضمن المعايير للأحقّيّة بالحصول على منحة دراسيّة، واستخدمتها في الماضي للقبول لمساقات في الجامعات، وهي أقلّ قيمة باعتباراتهم من الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، لكنّها أكثر «قيمة» بالمقارنة بمَنْ لا يقومون بها تحت مسمّى التطوّع.

لم تتعامل إسرائيل مع هذه المسألة بين الشباب الفلسطينيّ إلّا من باب الأمن القوميّ، لا القيم الاجتماعيّة بمفهومها التقليديّ، بل بمفهومها الصهيونيّ. كما في الكثير من أجزاء الرواية، فإنّها تتأثّر بميزان القوى مع المسيطر أو المحتلّ أو المستعمِر، وأساسًا بمدى اعتماده سياسة الضبط والهيمنة. بل إنّه في الثقافة الوطنيّة الكفاحيّة، وفي صراعها مع توجّهات الدولة الاستعماريّة، عمّقت الوعي بأنّ الحقوق لا تأتي بـ «التطوّع» إنّما بالنضال، وعلى ذاك؛ فإنّ الاندماج الطوعيّ في النضالات الشعبيّة هو مسؤوليّة اجتماعيّة ووطنيّة.

كان ثمّة في ما مضى مساعٍ لمعاينة مفهوم التطوّع القائم في مجتمعنا بصفته قيمة في حدّ ذاتها، تختلف تمامًا عن القيمة الّتي تمنحه إيّاها المفاهيم الإسرائيليّة، وأعود في هذا ربّما قبل ثلاثة عقود أو أكثر، وأذكر أبحاثًا ودراسات في هذا الصدد قام بها كلٌّ من الباحثَين الأكاديميَّين إلياس زيدان وأسعد غنم (ولا بدّ أن يكون آخرون، وأعتذر مسبقًا إن لم أذكر أحدًا؛ إذ إنّني واكبت الدراستين المذكورتين)، وقد اعتمدا مفهومًا آخر هو: «ثقافة العطاء» في المجتمع الفلسطينيّ.

حين نقارن بين شابّ عربيّ فلسطينيّ وشابّ يهوديّ إسرائيليّ، فإنّ الأوّل يقوم بمهامّ فيها تحمُّل للمسؤوليّة الاجتماعيّة لا يقوم بها اليهوديّ، لكنّها مهامّ غير معترف بها إسرائيليًّا.

حين نقارن بين شابّ عربيّ فلسطينيّ وشابّ يهوديّ إسرائيليّ، فإنّ الأوّل يقوم بمهامّ فيها تحمُّل للمسؤوليّة الاجتماعيّة لا يقوم بها اليهوديّ، لكنّها مهامّ غير معترف بها إسرائيليًّا. وإذا قسنا الأمور على الحالة المعيشة اليوم، فقد تجد الأبحاث المسحيّة أنّ الشباب العربيّ لا يتطوّع، بل لو سألتهم عن المسؤوليّة الاجتماعيّة؛ أي تجاه المجتمع، لاختلف الجواب، ولكشف عن جوانب أساسيّة ينتقص منها مفهوم التطوّع؛ فلا مكان في المفهوم الإسرائيليّ الأكاديميّ للمشاركة الطوعيّة في المظاهرات لمحاربة الجريمة ولحماية مجتمعه، ولا للنشاط اليوميّ في اللجان الشعبيّة والحراكات الشبابيّة الّتي تسعى إلى تغيير الوضع القائم، الّذي تفرضه الدولة بسياساتها العنصريّة والتمييزيّة، بينما ذات الدولة توفّر كلّ هذه الأمور للمجتمع اليهوديّ، ولا حاجة إلى أن يبذل طاقاته فيها. في ما يصبح ما يقوم به الشابّ اليهوديّ تطوّعًا بينما الشابّ العربيّ احتجاجًا، بل «أعمال شغب»، كما أنّها لا ترى بتصرّف اليهوديّ مسألة أمن قوميّ، بينما تنظر إلى تطوّع العربيّ ضمن هذا المنظار وأداة للضبط.

لا يساعد الشابّ اليهوديّ جاره عند الحاجة في بناء بيته؛ لأنّ الدولة توفّر بسياسة الإسكان بيوتًا جاهزة لليهود، وجماعيًّا، بينما هذه حاجة الفلسطينيّين وحدهم، ولا معنى للفزعة وهي المساعدة الجماعيّة عند الحاجة في البناء، أو الفرح أو الترح أو في الذود عن المنزل والبلدة في مواجهة الهدم، كما هو حال الفلسطينيّين في النقب مثلًا.

كلّ هذا بينما علم الاجتماع والأبحاث الإسرائيليّة تعمل على تسطيح مفهوم التطوّع الإسرائيليّ؛ بمعنى جعله معيارًا لكلّ المجتمعات، وإحلاله على سلوك الشباب الفلسطينيّ، بصفته قيمة عالميّة مطلقة، وتحت مظلّة المهنيّة ومنهاجيّة البحث الأكاديميّ وحياديّته غير المحايدة.

 

البديل القائم

المسؤوليّة الاجتماعيّة الّتي يتضمّنها مفهوم التطوّع تأخذ مناحي عديدة بل نقيضة أيضًا. الدولة تطرح مفهوم التطوّع ضمن مشروع ما يُسمّى «الخدمة المدنيّة» قيمةً ورافعةً للتطوّر باعتباراتها. بل تأتي ببُعد كما لو كان متفهِّمًا أو أخلاقيًّا بالمقولة "نحن لا نريدكم أن تتجنّدوا للجيش"، بينما قامت وتقوم «جمعيّة الشباب العرب- بلدنا» مثلًا بمشروع مناهضة الخدمة المدنيّة والقوميّة والعسكريّة بالطبع.

إنّ حملة «ارفض شعبك بحميك» تنقض مفهوم التطوّع الّذي تأتي به الدولة، وحتّى الّذي تأتي به العلوم الاجتماعيّة والأكاديميا الإسرائيليّة، وتناهضه وتتحدّاه من خلال التطوّع ضمن انتماءات أخرى، وتؤسّس مشاريع في هذا الاتّجاه. أمّا مشروع «جمعيّة الثقافة العربيّة» للمنح الطلّابيّة على اسم روضة بشارة- عطالله، فيتبنّى ذات المفاهيم لدى «جمعيّة بلدنا»، في التطوّع في سياق بلورة انتماء، والعمل ضمن منتديات طلّابيّة وشبابيّة وثقافيّة. وثمّة نماذج شعبيّة مثل الحملات لتنظيف مقبرة مهدّدة في إحدى المدن الساحليّة، أو مسجد وكنيسة في بلدة مهجّرة كما حال البصّة، أو ترميم مسجد طبريّا الّذي جرى تدنيسه، أو مخيّم عمل في النقب، أو مخيّم عمل في إقرث أو كفر برعم، وغير ذلك.

إنّ حملة «ارفض شعبك بحميك» تنقض مفهوم التطوّع الّذي تأتي به الدولة، وحتّى الّذي تأتي به العلوم الاجتماعيّة والأكاديميا الإسرائيليّة، وتناهضه وتتحدّاه من خلال التطوّع ضمن انتماءات أخرى...

كما لا تغيب تجربة مؤسِّسَة محلّيًّا في مفهوم التطوّع، وهي مخيّمات العمل التطوّعيّ في الناصرة في السبعينات والثمانينات، وتحت شعار «كرامة وخدمات».

لا تميّز غالبيّة الأبحاث الاجتماعيّة، وغالبيّة المسح الإحصائيّ الكمّيّ بطبيعته، بين أنواع التطوّع، الّتي تتطلّب تعريفات سياقيّة وأكثر دقّة. حسب المسح الكمّيّ غير المحدّد؛ فإنّ مَنْ يقوم بـ «الخدمة المدنيّة» يجيب عن سؤال التطوّع بالإيجاب، ولو اعتمدنا ذلك لأعطينا «الخدمة المدنيّة» سياقًا إيجابيًّا.

تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة مظاهر تطوّعيّة رائعة في مجتمعنا، وليس بالضرورة بين الشباب المنهمك في التفتيش عن مسارات حياته وتأمين المقوّمات لها. ونجد الكثير من هذه المظاهر في المستشفيات والمجالات الصحّيّة، ومنها أحاديّة القوميّة، ومنها في أطر إسرائيليّة، ولا يمكن أن تكون غير ذلك، مثل التبرّع بالأعضاء لمرضى في حالة الخطر. كما ثمّة تطوّع يتّسع نطاقه في مسابقات رياضيّة وجولات إرشاديّة ومحاضرات توعويّة وغيرها.

 

التفاعل الطوعيّ

في اعتقادي غير البحثيّ، ما تقوم به الحراكات الشبابيّة واللجان الشعبيّة في مكافحة الجريمة، والسعي إلى توفير خدمة جوهريّة لحماية المجتمع وتوفير الأمان له، أو التصدّي لهدم بيت، أو لنصرة الشيخ جرّاح والقدس والأقصى وغزّة، كلّها يندرج ضمن المسؤوليّة المجتمعيّة والوطنيّة الطوعيّة، وهي كلّها تفوق في مردودها مفهوم التطوّع بالمعنى الضيّق للكلمة. إنّ المطلوب هنا هو التفاعل الطوعيّ؛ من منطلق المسؤوليّة المجتمعيّة، لا التطوّع من أجل التطوّع.

لفت نظري في المؤتمر المحاضرة الّتي قدّمها الطبيب أسامة طنوس، المتخصّص في «الصحّة العامّة» أو «صحّة المجتمع»، وهي دراسة لحالة الأفرو - أمريكان، أو السود، في الولايات المتّحدة، وانعكاس سياسات التمييز والعنصريّة على صحّتهم، والتناسب الطرديّ بين حالتهم الصحّيّة وبنية العنصريّة في هذا البلد، وهي دراسة من شأنها أن تفيدنا في المفاهيم البحثيّة، وفي معاينة الحالة الصحّيّة العامّة للمجتمع الفلسطينيّ.

حبّذا أن تخصّص «جمعيّة الجليل» في أبحاثها الرائدة مستقبلًا، الجهود لبحث المفاهيم، واستحداث توجّهات تنبثق من حالة المجتمع الفلسطينيّ، فمصداقيّتها تسمح لها بذلك.

 

 


أمير مخّول

 

 

أسير سياسيّ فلسطينيّ محرّر. عمل قبل اعتقاله مديرًا لـ "اتّجاه - اتّحاد الجمعيّات الأهليّة"، كما شغل منصب رئيس لجنة الحرّيّات المنبثقة عن لجنة المتابعة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948. يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.