«نفق الحرّيّة»... التخيّل جماعيًّا

جداريّة لفنّان في غزّة | مجدي فتحي، أ ف ب

 

أحبّ التصريحات الفرديّة والآراء الشخصيّة للناس، في ظلّ كلّ حدث ضخم يلقى ضجّة إعلاميّة، وعلى الرغم من أنّها لدى البعض لا تتعدّى كونها «خَراريف»، إلّا أنّني أتعامل معها تصريحاتٍ تُؤْخَذ على محمل الجدّ، كما أرى أنّ النقاش المجتمعيّ، الّذي يطرأ بعد كلّ قضيّة يعرض الإعلام في تغطياته الخاصّة تفاصيلها، هو عبارة عن تشكّل للوعي الجمعيّ لدى جماعة معيّنة من الناس، وفي حالتنا الشعب الفلسطينيّ.

بعد «نفق الحرّيّة»، أفكّر كثيرًا في مصطلح «الخيال الجماعيّ»؛ لقد تخيّلنا. هل تعلمون متى كانت آخر مرّة تخيّلنا فيها بهذه الكثافة؟ آخر مرّة دخلنا فيها جماعيًّا إلى حفلة من الخيال؟

 

توحيد الخيال

بعد النفق والهروب الكبير، الّذي خلّف أسئلة كثيرة، كانت الرغبة في إيجاد الإجابات تجتاح الحدود، خاصّةً في ظلّ أيّام الهروب الخمسة الأولى، ولحسن الحظّ شارك كثيرون جدًّا في الإجابة، في ظلّ عدم وجود ما هو قطعيّ؛ فلا أحد كان يعلم أين أخفوا التراب، لكنّ سَوادَ شعبٍ كان يتخيّل، معتمدين بدايةً رواية الملاعق؛ لأنّها اسْتُخْدِمَت في حفر أنفاق سابقة للحرّيّة من سجون الاحتلال، وبدأ «خيالنا الجماعيّ» يتساءل: كيف يمكن ملعقة أن تحفر نفقًا؟ هل عبروا الحدود إلى الأردنّ؟ لو أنّهم يصلون إلى غزّة، تخيّلوا لو يصلون إلى لبنان!

توحيد الخيال، خاصّةً في ظلّ نشوة الانتصار المبنيّة على فعل حقيقيّ واقعيّ، وهو الخروج من أعتى سجون إسرائيل، ساهم بإيقاظ أفكار ومشاعر كالعدالة والحقّ في الحرّيّة والتحدّي والكرامة

لربّما لساعات أو حتّى للحظات، لا بدّ من أنّ كثيرين استخدموا خيالهم خلال تفكيرهم في الأسرى، أين ينامون؟ ماذا يأكلون؟ هل يعرفون أنّ ملايين شعب يضحك أفراده من نشوة الانتصار على عدوّهم، أثبت «نفق الحرّيّة» أنّ تفوّقه فقط في صور الدم والتنكيل؟ كم شخصًا تخيّل لو أنّ الأسرى يطرقون بابه؟ ماذا يحتاجون؟ وفيمَ يفكّرون؟ كان خيالنا الحرّ سعيدًا؛ لمجرّد التفكير في أنّ يعقوب ينظر الآن إلى السماء الصافية النظيفة، من الشبك المعلّق فوق ساحة الفورة، وفي أنّ محمود عارضة يمشي باتّجاه أفقٍ ما، لا تحدّه الأسوار والكاميرات، وفي أنّ مرج ابن عامر الّذي نحبّ يحتضن زكريّا، وعند وصول الخيال إلى بطل مخيّم جنين كانت تُوْقِفُه الذاكرة؛ لتعود به إلى فيلم «أولاد آرْنا»، حيث زكريّا الطفل الّذي هدم الاحتلال بيته غير مرّة، وسلَبه والدته وأخاه.

توحيد الخيال، خاصّةً في ظلّ نشوة الانتصار المبنيّة على فعل حقيقيّ واقعيّ، وهو الخروج من أعتى سجون إسرائيل، ساهم بإيقاظ أفكار ومشاعر كالعدالة والحقّ في الحرّيّة والتحدّي والكرامة، وبأنّ إسرائيل قابلة للكسر، مفاهيم ساهم في بنائها فعل تراكميّ لمناضلين من زمن سابق، كانت قد خبت وتراجعت في هذا الزمان لدى الأجيال الجديدة من الفلسطينيّين. توحيد الخيال ساهم أيضًا بشعور الانتماء إلى البطل وقصّته، وبالتالي إلى معاناته الّتي قادت به إلى فعل التحرّر، إلى الحرّيّة وثقلها؛ فمَنْ من المتخيّلين لم يتحسّس حرّيّته خلال هذه الأيّام الخمسة؟ مَنْ لم يراجع قيوده وأسبابها؟ لقد حفروا نفقًا للحرّيّة في مخيّلاتنا، لحرّيّتنا الشخصيّة ولحرّيّتنا شعبًا.

 

مجتمع الممارسة

وفقًا لإتيان فينغر (1998)، وهو منظّر تربويّ سويسريّ، ساهم في إيجاد مصطلح «مجتمع الممارسة»، وهو كما يقول لا يعبّر عن ظاهرة جديدة، ويصف به نوعًا من التعلّم قائم منذ أن كان الناس يتعلّمون ويشاركون خبراتهم من خلال سرد القصص. الفكرة متجذّرة في مفهوم البراغماتيّة الأميركيّة، وخاصّة في مفهوم «مجتمع التحقيق»، الّذي ينطلق من أنّ المعرفة مُضَمَّنة بالضرورة في سياق اجتماعيّ؛ وبالتالي تتطلّب اتّفاقًا بين الذات والمشاركين في عمليّة البحث عن الشرعيّة/ الحقيقة. يرى فينْغِرْ أنّ «الخيال الجماعيّ» وسيلة الانتماء الّتي تعتمد دائمًا على المجموعة الاجتماعيّة؛ لتوسيع نطاق الواقع والهويّة.

وفي قصّتنا الأخيرة، الّتي وفّرت لنا في الواقع كلّ عوامل الدراما والفنتازيا، كان الخيال مكمّلًا ومرمّمًا لقصّتنا الفلسطينيّة، لسرديّتنا عن الحرّيّة والأحرار؛ ولنصدّق أنّ ما حدث حدث، عاد تصوّرنا إلى الوراء، وبتنا نجمع قصص السابقين ممّن تمكّنوا من الهرب من سجون إسرائيل المحصّنة بالتكنولوجيا؛ لنثبت لخيالنا الّذي كان يخشى المبالغة تمامًا كخشيته من الاستيقاظ من الحلم. إنّ ما حدث في الواقع أغرب من الخيال، إذن، كلّ ما سنتخيّله بحذر لاحقًا كان مبسّطًا، بجانب ما صنعوا هم من واقع لا يزول في ذاكرتنا ومخيّلتنا الجماعيّة.

 

حتّى القيد الأكبر

كان الخيال يقود أحيانًا إلى القلق في ظلّ التساؤل: أين سيذهبون؟ هل يعرفون جغرافيا المكان في ظلّ وجودهم لسنوات طويلة في السجن؟ كان دائمًا ثمّة مَنْ يجيب إجابةً تشحذ الهمم: مَنْ خطّط، ونفّذ، وأدّى هذا الأداء يعرف كيف يصل، وإلى أين يذهب.

كان الخيال مكمّلًا ومرمّمًا لقصّتنا الفلسطينيّة، لسرديّتنا عن الحرّيّة والأحرار؛ ولنصدّق أنّ ما حدث حدث، عاد تصوّرنا إلى الوراء، وبتنا نجمع قصص السابقين ممّن تمكّنوا من الهرب من سجون إسرائيل

كانت هذه الإجابة مصيدة، وكأنّها تعفي شعبًا كاملًا من احتضان ستّة من أبنائه، وفي ذات الوقت تهوّن عليه ضعفه أمام قبضة إسرائيل الأمنيّة الّتي تشقّقت في مخيّلتنا، وبات هدمها مسألة وقت.

خيالنا المفعم بالمستحيل الّذي أصبح ممكنًا، رفض فكرة إلقاء القبض عليهم، وكأنّهم أبطال خارقون، ونسينا أنّهم بشر مثلنا، وأنّ تفوّقهم الإنسانيّ هو الّذي قادهم نحو الحرّيّة، وأنّ الخروج من النفق كان هو الإنجاز، وأنّهم توقّعوا أن يُلْقى القبض عليهم فور خروجهم منه، كما قال زكريّا، وأنّهم تفاجؤوا من أنّ قوّة إسرائيل خارج السجن لا تتوازى مع ما تُظْهِرَه تجاه من يقبع في داخله، لكنّنا في الواقع عدنا لنتأكّد بعد أن قرأنا رسالة محمود العارضة إلى أمّه، وعشنا الشوق في وصفه للبلاد، وفي سلامه لإخوته، وبعد أن هاتَف أيهم كَمَمْجي والده، وأخبره بأنّه سيسلّم نفسه حفاظًا على أرواح الناس من حوله، تأكّدنا أنّها قصّة لأبطال خارقين.

هي الفكرة، إن أيقنتها في خيالك أوّلًا فستصبح واقعًا، وإلّا فكيف أصبح النفق واقعًا محسوسًا، بعد أن جلس مطوّلًا في عقول كلٍّ من زكريّا ومحمّد ويعقوب ومحمود وأيهم ومناضل؟ هي فكرة التحرّر من كلّ قيد صغير، حتّى القيد الأكبر.

 

 


منى عمري

 

 

 

صحافيّة من قرية صندلة في فلسطين، مهتمّة في العلاقات الإستراتيجيّة الدوليّة.