"جيوش إسرائيل إلى كنعان": حكاية أوّل مبشّرين أميركيّين في فلسطين

تنصيب المبشّرين الخمسة الاوائل من قبل الـ ABCFM | الأرشيف الأميركيّ المعمدانيّ التاريخيّ

 

بداية التبشير الأميركيّ في العالم العربيّ

عام 1810، تأسّس «مجلس المفوّضين الأميركيّين بالإنجيل في الأراضي الأجنبيّة» (The American Board of Commissioners for Foreign Missions)، واختصاره ABCFM، والهدف من إنشائه "أن يترك الكتاب المقدّس الرفوف المُغْبَرّة، وأن يُوْضَع الدين موضع التنفيذ، في الحياة اليوميّة لأتباعه، مرّة أخرى"[1]. ويمثّل الختم الأصليّ للمجلس "مواطنًا أصليًّا، شبه عارٍ، راكعًا يتقبّل التوراة، من مبشّر أبيض، يشير بيده نحو حمامة سماويّة"[2].

مع حلول خريف عام 1818، أعلن المجلس خططًا لإنجاز توسيع تاريخيّ للعمل القدسيّ، وممّا جاء في البيان العامّ إنّه "تقرّر تعيين السيّدين المحترمين، ليفي بارسونز Levi Parsons، وبليني فيسك Pliny Fisk، مسؤولَين عن القدس، وغيرها من مناطق آسيا الغربيّة، وفق الضرورة؛ كما تقرّر أنّ من الضروريّ إيفادهما، فور توافر الظروف المناسبة..."[3]، وهي المرّة الأولى الّتي يُظْهِر فيها الأميركيّون اهتمامًا بفلسطين، في الوقت ذاته، هي بداية الوجود التبشيريّ الأميركيّ في العالم العربيّ كلّه.   

مع حلول خريف عام 1818، أعلن المجلس خططًا لإنجاز توسيع تاريخيّ للعمل القدسيّ، وممّا جاء في البيان العامّ إنّه "تقرّر تعيين السيّدين المحترمين، ليفي بارسونز Levi Parsons، وبليني فيسك Pliny Fisk، مسؤولَين عن القدس..."

قام الشابّان [ليفي بارسونز وبليني فيسك] اللذان اختيرا للعمل في فلسطين، وهما خرّيجان جديدان في «معهد اللاهوت» في أندوفر، بجولة في أرجاء البلاد في الأشهر الّتي أعقبت الإعلان الرسميّ، وهما يقدّمان المواعظ ويجمعان التبرّعات في الاجتماعات الكنسيّة، من جورجيا إلى الحدود الشماليّة الغربيّة. كما وفّر وزير الخارجيّة جون كوينسي آدامز الحماية الكاملة من جانب حكومة الولايات المتّحدة الأميركيّة لبعثتهما، بل حتّى هنود سْتُكبْريدْج، ماساتشوسيتس، وقد أعيد الآن توطينهم في أوهايو، حيث كانت الإرساليّات التبشيريّة السابقة قد لقّنتهم ما يشي بأنّهم من ذرّيّة الأسباط العشرة الضائعة، تبرّعوا "بمبلغ 5.67 دولارًا مع سوارين ذهبيّين لصالح أجدادهم في القدس"[4].

 

"دون معرفة الأشياء الّتي ستقع لي هناك"

عُقِدَ يوم الأحد الواقع في الحادي والثلاثين من تشرين الأوّل (أكتوبر) لعام 1819، اجتماع مهيب في «كنيسة أولد ساوث» البوسطونيّة، للصلاة والدعاء من أجل نجاح المبعوثين التبشيريّين الأميركيّين عشيّة مغادرتهما، حيث تلا القسّ سامويل وورستر من مدينة سالم، وهو يحدّق في الجموع المتزاحمة على المقاعد الخشبيّة الطويلة، جملة التوجيهات الرسميّة الصادرة عن «لجنة التدبير» إلى الشابّين اللذين اختيرا لأداء المهمّة المقدّسة. فقد طُلِبَ منهما أن يتّصلا بالبعثات التبشيريّة الإنجليزيّة في مالطا، وأن يتعلّما لغات البلدان الّتي سيمرّان بها، وأن يعاينا إمكانيّات تداول الكتب والكراريس الدينيّة وتوزيعها، وأن يعملا، وهذا هو الأهمّ، على إقامة «محطّة» دائمة في القدس.

أمام الجمهور، الغارق في جوّ من الصمت، نهض أحد المبشِّرين، وهو الشابّ الناحل، ذو النظّارات الطبّيّة، واسمه ليفي بارسونز، وألقى خطبة خاصّة به هو. أمّا الموضوع، فقد كان «سبي اليهود، وإعادتهم»، وقد لامس الخطيب وترًا حسّاسًا في عقول جمهوره، حين ربط نجاح بعثته بنبوءات رؤيا يوحنا.

أمّا زميله الوسيم، الواثق بنفسه، واسمه بليني فيسك، فقد ألقى خطابًا أكثر راهنيّة، كان محاضرة، أكثر منها موعظة، بعنوان «الأرض المقدّسة: أحد الميادين التبشيريّة المهمّة». لكن، حتّى فيسك هذا، كان واعيًا لمدى خطورة المشروع، حين اختتم ملاحظاته باقتباس مشؤوم من سِفر أعمال الرسل: "وها أنا ذا أمضي، أسير الروح إلى أورشليم، دون معرفة الأشياء الّتي ستقع لي هناك"[5]، فانفجر الحضور بالبكاء.

 

على خطى القدّيس بولس

في غضون يومين بعد قدّاس «كنيسة أولد ساوث»، استقلّ ليفي بارسونز برفقة بليني فيسك ــ أوّل مُبشِّرَين أمريكيَّين إلى الشرق ــ البارجة سالي آن (Ann Sally)، وبدآ أخيرًا رحلتهما. اتّبع بارسونز وفيسك طريقًا في البحر المتوسّط كثيرًا ما سار فيه التجّار الأميركيّون، وهي رحلة تستغرق ستّة أسابيع من نيو إنجلاند إلى سميرنا [إزمير اليوم] على سواحل تركيا على بحر إيجة.

 

إصدار تذكّريّ لتخليد ليفي بارسونس، 1824 | مؤسّسة شابيل مانوسكريبت

 

بدءًا من شهر آذار (مارس) عام 1820، رحل الاثنان في رحلة تمتدّ 300 ميل داخل آسيا الصغرى، زائرَين كلّ واحدة من المدن السبع الّتي زارها القدّيس بولس، واستطلعا المنطقة بهدف «التبشير». ومع ذلك فقد ظلّت فلسطين الّتي هي“ساحة الأحداث العظيمة" هدفهما الأساسيّ، وموقعهما المفضّل لأوّل وقفة دائمة لهما. اتُّخِذَ قرار قضى بأن يبقى بليني فيسك في سميرنا [إزمير اليوم]؛ لإقامة محطّة تبشيريّة لصالح المسيحيّين المحلّيّين، في حين يتابع ليفي بارسونز السفر وحده إلى القدس؛ لتقويم الصعوبات وإقامة رأس جسر ساحليّ. 

كتب بارسونز يقول: "السماح بمجرّد توقّع الخير الروحانيّ الّذي سيعود على صهيون هو ميزة لا يمكن التعبير عنها، فبروح موسى سيمكنني أن أقود جيوش إسرائيل إلى كنعان الروحيّة"[6].

حمل بارسونز معه أحمالًا ثقيلة: خمسة آلاف كتاب دينيّ، منها أناجيل بتسع لغات مختلفة، وتلقّى من أصدقائه المُبَشِّرين الإنجليز نصيحة "أن يذهب في هيئة الرجل النبيل المثقّف، وأن يمارس الرياضة في الصباح، وأن يأكل القليل من الفاكهة في البداية، وأن يرتدي ملابس ثقيلة، وعمامة على رأسه". ونصحوا له أيضًا أن يسافر فقط في عيد الفصح وموسم الحجّ، عندما لا يكون الأجانب محلّ تشكّك ومظهر لافت في فلسطين.

 

الانبهار بالقدس

خرج بارسونز من سميرنا [إزمير اليوم] في كانون الأوّل(ديسمبر) 1820، ودخل المدينة المقدّسة بعدها بثلاثة أشهر، متجمّدًا من البرد، وعلى أرجل مصابة متعبة بسبب السير وسوء حالة الطرق.

يصف بارسونز، أوّل مبشّر أميركيّ يصل إلى القدس، انبهاره بمدينة القدس؛ فعندما تسلّق جبل الزيتون ونظر من أعلى إلى المدينة القديمة غربًا، وإلى البحر الميّت في الجنوب الغربيّ، رأى أنّه "لا يوجد مكان في العالم يمتلك منظرًا أجمل من هذا، أو يرتبط بأحداث أكثر قداسة أو إلهامًا".

تلقّى بارسونز  ترحيبًا دافئًا غير متوقّع من الكنائس هناك، خاصّة من اللاتينيّين، لكنّه لم ينجح في تحويل أيّ يهوديّ من يهود المدينة إلى الإنجيليّة، وما أحزنه أكثر أنّه علم أنّ القانون العثمانيّ يمنع بناء كنائس جديدة، ويحدّد عقوبة ارتداد المسلم عن دينه بقطع رأسه...

تلقّى بارسونز  ترحيبًا دافئًا غير متوقّع من الكنائس هناك، خاصّة من اللاتينيّين، لكنّه لم ينجح في تحويل أيّ يهوديّ من يهود المدينة إلى الإنجيليّة، وما أحزنه أكثر أنّه علم أنّ القانون العثمانيّ يمنع بناء كنائس جديدة، ويحدّد عقوبة ارتداد المسلم عن دينه بقطع رأسه؛ لذلك كان أكثر المرشّحين للتحوّل الأرمن واليونانيّين، «المسيحيّين بالاسم» كما كان المبشّرون يسمّونهم، وكانوا يرونهم أتباع "مسيحيّة فاسدة قديمة".

كان بارسونز يأمل أن تؤدّي هذه التجمّعات المحلّيّة دور الرابطة الطبيعيّة مع اليهود والمسلمين، وأن تلهمهم بالتزامها وتمسّكها بالمسيح، فكتب في تقرير لفيسك بعد وصوله إلى القدس بنحو ثمانين يومًا: "هذا هو بالفعل مركز العالم أجمع؛ لذلك يجب ألّا نتخلّى عن فكرة الوقفة الدائمة هنا، فالباب قد انفتح بالفعل"[7].

 

الموت

في ربيع عام 1821، اجتمع بارسونز بزميله فيسك مرّة أخرى، في سميرنا [إزمير اليوم]، الّتي شهدت اضطرابات في هذه الأثناء، واضطرّ المبشّران الأميركيّان إلى الاختباء في سفينة أميركيّة زائرة، هي «يونايتد ستيتس»؛ ومع أنّ بارسونز أصبح آمنًا، فإنّه أصيب بـ «الدوسنتاريا». قرّر المبشّران أن يرحلا عن الأناضول، وأن يعودا إلى الأمان النسبيّ في مدينة الإسكندريّة.

بقي بارسونز حيًّا بصعوبة حتّى وصوله إلى المركب، وكان من الضروريّ حمله إلى خارج السفينة وهو يرتعد. رافق فيسك زميله في مرضه، مقدّمًا له الدواء ومصلّيًا من أجل شفائه، ولكن مجهوداته ذهبت سدًى، فقد وافته المنيّة في شتاء عام 1822.

أصاب خبر وفاته «المجلس الأميركيّ» بالذهول، وألّف أحد القساوسة من شباب المبشّرين مرثيّة قال فيها:

"روحك يا بارسونز جذبتها أغنية

تنشر جناحيها وتطير لأعلى، لا تتعب

مَنْ سيكدح من أجل أبناء يهوذا؟

ومَنْ مثلك سيدمّر قوم محمّد؟"[8].

 

بيلني فيسك | مدرسة اللاهوت، جامعة بوسطون

 

واجه بليني فيسك نفس المصير، تقريبًا، في القدس، فقد قُبِض عليه عام1825 ؛ لتوزيعه كتيّبات دينيّة، وقد وُضِعَت الأغلال في يديه، وعُذِّب، ثمّ أُفْرِج عنه، بعد التماس شخصيّ من القنصل البريطانيّ، وعندما تحدّد موعد عودته إلى الوطن، في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1825، قام فيسك برحلة أخيرة إلى الناصرة، لكنّه اخْتُطِف في الطريق، وضربه خاطفوه، وقد كانوا عصابة من العرب، وحُمِلَ فيسك، مرّة أخرى، إلى بيروت، وعولج هناك بالأعشاب، ومات ميتة مؤلمة للغاية.

كتب أحد رجال الدين المجهولين: "يمكن المرء إعادة كتابة كتاب اليهود، بالأسماء الشهيرة للعاملين المسيحيّين في بلد الإنجيل. ويجب أن يأتي على رأس تلك الأسماء بليني فيسك، وليفي بارسونز"[9].

 


إحالات

[1] يوسف حسين عمر، نشاط المجلس الأمريكيّ لمفوّضي الإرساليّات الخارجيّة في الدولة العثمانيّة (1819 - 1909)، مجلّة المعارف للبحوث والدراسات التاريخيّة، (الجزائر، العدد 10، 2017)، ص 204.

[2] أسامة المقدسي، مدفعيّة السماء، ترجمة: ريما العيسى، ط1، (بيروت: دار الآداب، 2018)، يُراجع مقدّمة الكتاب.

[3] عبد الرازق عيسى، التنصير الأميركيّ في بلاد الشام (1834- 1914)، ط1، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2004)، ص 68.

[4] نيل سلبرمان، بحثًا عن إله ووطن - صراع الغرب على فلسطين وآثارها (1799 ـ 1917م)، ترجمة: فاضل جتكر، ط1، (دمشق: قدمس للنشر والتوزيع،2001)، ص 62.

[5] سلبرمان، ص 62- 63.

[6] مايكل بي. أورين، القوّة والإيمان والخيال: أمريكا في الشرق الأوسط منذ 1776 حتّى اليوم، ترجمة: آسر حطيبة، ط1 (أبو ظبي ــ كلمة، القاهرة ــ كلمات عربيّة للترجمة والنشر، 2008)، ص 105.

[7] أورين، ص 105 – 106.

[8] أورين، ص 106- 107.

[9] أورين، ص 109.

 


 

 

أحمد الدبش

 

 

 

كاتب وباحث في التاريخ القديم. له مجموعة مؤلّفات حول التاريخ التوراتيّ، منها «بحثّا عن النبي إبراهيم»، و«كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب»، و«يهوديّة الدولة: الحنين إلى الأساطير».