نتائج الثانويّة العامّة: الفوضى استعادةً للفضاء العموميّ

طلبة ثانويّة فلسطينيّون يحتفلون بنتائج «التوجيهي» | أ ب أ

 

طال التعليم في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967 رزمة من التغيّرات الجذريّة، بعد إنشاء السلطة الفلسطينيّة بحسب «اتّفاق أوسلو»، ومن هذه التغيّرات خطّة إعمار التعليم من خلال إعداد المناهج التعليميّة، وبناء المزيد من المدارس ورياض الأطفال، والتوسّع في مساحات الجامعات وأعداد الكلّيّات وتخصّصاتها؛ بهدف إصلاح النظام التعليميّ وتطويره في فلسطين مناخًا ومنهاجًا، كمًّا ونوعًا[1].

إنّ قيام السلطة الفلسطينيّة - بمناطق نفوذها - يضعها أمام مهمّة بناء ما يعزّز خطابها الحداثيّ، الّذي يتطلّب فائضًا من المؤسّسات الّتي ستحمل على عاتقها نقل المجتمع، من حالته الاستعماريّة إلى حالته الاستعماريّة الجديدة، الأكثر غموضًا والأقلّ اشتباكًا، وبالضرورة هو خطاب بيروقراطيّ وتكنوقراطيّ، والعمليّة التعليميّة برمّتها تحتمل المفهومين من حيث تراتبيّة الفرد الّتي ينتزعها، جرّاء وجوده ضمن نسق تعليميّ ما، على الصعيد المادّيّ والرمزيّ الثقافيّ، ونقصد هنا ما يمنحه نسق تعليميّ ما للفاعل فيه (من موقع طبقيّ وتراتبيّة بيروقراطيّة)، بسياق عمليّ ما، ورأسمال رمزيّ جرّاء الفاعليّة بهذا السياق وبنيته.

مرحلة «التوجيهي» حالة اجتماعيّة مختلفة عن أيّ مرحلة دراسيّة معقّدة ومتشابكة، نحتاج إلى أن نتناولها بتفكيك يفسّر حالة القلق الّتي تطال طلّاب هذه المرحلة وذويهم والمحيطين بهم، حتّى لحظة إعلان النتائج، والمبالغات الّتي نشهدها لحظة إعلان النتائج...

نجد انعكاسات تطوير نظام التعليم وأجندته في التنشئة والهيمنة في فلسطين بشكل واضح، عبر النظر إلى السنة الدراسيّة الأخيرة «التوجيهي»، والإقبال على التعليم الجامعيّ؛ إذ لدينا قرابة 44 ألف خرّيج سنويًّا من 52 كلّيّة وجامعة ومعهدًا فلسطينيًّا[2]، ومرحلة «التوجيهي» حالة اجتماعيّة مختلفة عن أيّ مرحلة دراسيّة معقّدة ومتشابكة، نحتاج إلى أن نتناولها بتفكيك يفسّر حالة القلق الّتي تطال طلّاب هذه المرحلة وذويهم والمحيطين بهم، حتّى لحظة إعلان النتائج، والمبالغات الّتي نشهدها لحظة إعلان النتائج، من ممارسات الفوضى المشروعة بالفضاء العموميّ والاحتفالات بالحيّزات المختلفة تعبيرًا عن الفرح بالنجاح، محاولين الإجابة عن السؤال: ما الدلالات الاجتماعيّة وراء الاحتفاء بنتائج الثانويّة العامّة في الفضاء العموميّ عند الشباب؟

 

هيمنة رمزيّة

تُعَدّ العلائق بين نتائج الثانويّة العامّة والاحتفاء بها في الفضاء العموميّ بهذه الفوضويّة المبنيّة على التجمهر الصارخ، متشابكة ومعقّدة، لتداخلها بمجموعة من العوامل المرتبطة أوّلًا، بظاهرة التعليم المتنامية في المجتمع الفلسطينيّ، على الرغم من ارتفاع معدّلات البطالة؛ إذ يشكّل التعليم بالمخيال الفلسطينيّ شكلًا من أشكال المقاومة ضدّ المستعمِر، وأداة من أدوات الحراك الاجتماعيّ الّذي يراكم رأس المال الاجتماعيّ. وثانيًا، حاجات الشباب الفلسطينيّ باستغلال هذه الفرحة المشروعة والمركّبة؛ لانتزاع حقوقهم بالجمهرة الصارخة بالفضاء العامّ. وثالثًا، معتقدات أخرى شكّلت الهابيتوس/ الآيتوس تجاه الأكاديميا – التعليم، استبطنت على مدار 25 عامًا خطابًا تكنوقراطيًّا برجوازيًّا عنيفًا، يهدف إلى إنتاج مواطنين صالحين يؤدّون أدوارًا رأسماليّة تسويقيّة في خدمة النظام الرأسماليّ، واستخراج طبقة عمّاليّة قادرة على الوفاء تجاه النظام[3].

وبفعل هذه الهيمنة الرمزيّة؛ استبطن أفراد المجتمع الخطاب الوطنيّ المعرفيّ لمؤسّسة التعليم والتنشئة بمخيالات نضاليّة ضدّ مختلف أشكال القهر والحراك والتقادم: "تحسين مستوى الحياة وشروطها"، وكما يطرح عالم الاجتماع بيير بورديو، "إنّ المجتمع الحاكم والمسيطر يمارس عنفًا رمزيًّا ضدّ الأفراد، الّذي يحقّق بدوره - العنف الرمزيّ - نتائج أحسن قياسًا، مقارنة بالعنف البوليسيّ؛ فهي عمليّة فرض المعرفة والقيم، والتعرّف والاعتراف والمقبول والمرفوض"[4]، والّذي يتبيّن لنا في معدّلات النجاح المتزايدة في الثانويّة العامّة من جهة، وارتفاع معدّلات البطالة في صفوف الخرّيجين من جهة أخرى، بمقابل عدم التراجع عن الالتحاق بالجامعات، رغم هذه الدلائل والإحصاءات، الّتي تتطلّب اتّخاذ خطوات تساعد الأفراد أنفسهم وجماعات في امتلاك أدوات تحسين شروط المعيشة، والنضال اليوميّ، والحراك الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ، ما يدلّ على تحقّق في شروط المدرسة والأكاديميّ، عمومًا على صعيد إنتاج - وإعادة إنتاج - أناس لأدوار رأسماليّة تسويقيّة وطبقة عمّاليّة بروليتاريّة وفيّة للنظام.

 

العزلة

من بعد الحديث عن العمليّة التعليميّة - التربويّة ومخاضها، نشاهد العديد من الممارسات في الفضاء العموميّ إبّان إعلان نتائج الثانويّة العامّة، تتّسم بفوضى مشروعة من أجل الفرح، ومن جهة ثانية تتّسم بجمهرة صاخبة لمجموعة الشباب والشابّات الناجحين وأقرانهم وذويهم، بأنماط متعدّدة للفرح، وأبرزها النفاذ إلى الفضاء بالسيّارات، والقيادة بتهوّر وإطلاق بعض العيارات الناريّة في الهواء إن توفّرت أو الألعاب الناريّة، بالإضافة إلى الخروج من النوافذ والصراخ، وإعلاء صوت الموسيقى والرقص في الشارع، و‘التفحيط‘ على المفارق والطرق الّتي تتّسع لهذه الحركات، ومن هذه الممارسات انطلق تساؤلنا عن الأسباب والدلالات السسيولوجيّة لها، الّتي تعبّر عن حالة تعطّش للنفاذ إلى الفضاء العامّ، والمزاحمة بين فاعليه لاستحواذه ولو ليوم واحد، وإن شُرْعِنَ من مختلف الحقول الّتي تسيطر عليه وتشغله، من خلال هذه الممارسات؛ فتقليديًّا يشكّل الاتّصال العموميّ آليّة جوهريّة لإدارة الفضاء العموميّ، من خلال العيش المبنيّ على التحاور؛ لتحقيق الشرعيّة والحقّ في الحصول على المعلومات - التداول على السلطة - ذلك قبل سيطرة أدوات السلطة على الفضاء العموميّ، وتحويل الاتّصال العموميّ إلى اتّصال إشهاريّ مؤدلج على الخضوع وإعادة إنتاج خطاب الهيمنة[5]. 

نجد تحييدًا للشباب شريحةً اجتماعيّة - غير فاعلة، بإشغال الفضاء العموميّ - ما يعني غلبة أجهزة الدولة ومؤسّساتها على الفضاء العموميّ، كما يطرح هابرماس، الّتي تعمل على أسر الصوت الحرّ...

يطرح لنا الباحث أباهر السقّا شعور الشباب الفلسطينيّ بمنطقة الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة بالعزلة؛ بسبب التجزئة الجغرافيّة (مناطق أ، ب، ج)، وانفصال غزّة عن هذه الجغرافيا المجزّأة، والعزوف عن المشاركة في الحقل السياسيّ لأسباب عدّة، من بينها مأسسة المقاومة بمختلف أدواتها، واقتصار هذه المؤسّسة على نخبة/ شريحة ما، وغياب العمل التطوّعيّ لدى هذه الفئة ارتباطًا بالنزعات الاستهلاكيّة والخطاب الليبراليّ والنيوليبراليّ، وأزمة التوظيف العالميّة[6]. ومن خلال هذا الطرح نجد تحييدًا للشباب شريحةً اجتماعيّة - غير فاعلة، بإشغال الفضاء العموميّ - ما يعني غلبة أجهزة الدولة ومؤسّساتها على الفضاء العموميّ، كما يطرح هابرماس، الّتي تعمل على أسر الصوت الحرّ، وتفتيت معارف الفرد من خلال وسائل الإشهار والدعاية[7] الّتي تملكها الدولة الحداثيّة بمؤسّساتها الحديثة وقطاعاتها الخاصّة، الّتي لا تخلو من رواسب البطريركيّة الحديثة.

 

النفاذ

على الرغم من ذلك، ثمّة مجموعة من العوامل الّتي تساعد شريحة الشباب - الناجحين في الثانويّة العامّة - على النفاذ إلى الفضاء العامّ بهذه الفرحة المشروعة، عبر تجمهرهم الصاخب وانتزاعهم له ولو ليوم واحد يتيم، ومن أهمّ هذه العوامل السيّارة، والفضاء العموميّ الافتراضيّ، فامتلاك السيّارة كظاهرة اجتماعيّة في المجتمع الفلسطينيّ لها عواملها: أوّلًا، لم يَعُد اقتناء السيّارة يشكّل محاكاة للموقع الطبقيّ فحسب، بل أداة للدفاع عن هذا الموقع وإشهاره. ثانيًا، إنّ الجماعات المرجعيّة أصبحت أكثر تعقيدًا وامتدادًا "النزعة الاستهلاكيّة الحديثة"[8]. ثالثًا، التسهيلات البنكيّة والتعاملات النقديّة والتجاريّة الّتي تتيح للجميع تقريبًا شراء السيّارة. وبالتالي تشكّل هذه الظاهرة تسهيلًا لبناء التداخل المُحْكَم بين الفضاء العامّ والخاصّ؛ فالسيّارة فضاء خاصّ يتحرّك ويتداخل بفضاء عامّ؛ وهو ما يجعل هذه المناورة تسهّل على الشباب مسألة الجمهرة الصاخبة؛ للحضور إلى الشارع والتعبير عن فرحتهم المشروعة، كما يطرحها النظام السائد، ولهذه المرحلة الدراسيّة تحديدًا؛ لذلك نجد هذه الظاهرة متنامية مع التنامي الاستهلاكيّ على السيّارات في المجتمع الفلسطينيّ[9].

وعلى صعيد الفضاء العموميّ الافتراضيّ، بدأت وسائل التواصل الافتراضيّ الجديدة تشكّل إمكانيّات لم تألفها البشريّة، تساعد الفرد على تلقّي المضامين غير المحدودة، وإمكانيّة الوصول إليها، على غرار الإمكانيّات المتاحة خارجه/ فيزيائيًّا، وتشكّل فسحة للفاعلين فيها على الربط ما بين الحقول الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، على حسب نوايا الفاعلين لتحقيق هدفهم الجماعيّ؛ ويتقاطع هذا الفضاء من حيث الحركة والنفاذيّة والتحكّم بالفضاء العموميّ البرجوازيّ – كلاسيكيًّا، كما طرح هابرماس الّذي يشغل الفاعلين فيه من خلال العقلانيّة والمحاججة[10]، وإنّ إشغال الشباب لهذا الفضاء يكسبهم فرصة أكبر للنفاذ إليه في هذه اللحظة المشروعة للفرح.

من خلال مقابلة أحد الناجحين من رام الله يقول: "طلعتنا على شوارع رام الله فرصة مننتظرها طول الوقت، لحتّى نفرّغ عن حالنا بعد عناء سنة كاملة من الدراسة والضغط والقلق، منشغّل أغاني، منصرخ، مندخّن، منرقص بشارع الطيرة عند دوّار نيسلون مانديلا"[11]، بينما تقول إحدى الناجحات: "أنا بهاليوم صرخت كثير من شبّاك السيّارة، وصوتي كنت أحسّه أعلى من الأغاني العالية، ولا بعمري بعمل هيك بسّ بالتوجيهي كلّنا طالعين من السيّارات وكلّنا فرحتنا وحدة، خلص إحنا محتلّين رام الله وقتها، بسّ المهمّ أوّل مرّة بحسّ الهواء هلقد حلو وهو بيدخل عليّ من شبّاك السيّارة"[12].

الدلالات الاجتماعيّة للاحتفاء بنتائج الثانويّة العامّة، تنطلق من حاجة الشباب إلى النفاذ إلى الفضاء العموميّ وانتزاعه ولو ليوم واحد، من خلال هذه الفرحة المشروعة؛ ارتباطًا بالممارسات الإقصائيّة الّتي تمارس عليهم...

من هنا، نجد أنّ الدلالات الاجتماعيّة للاحتفاء بنتائج الثانويّة العامّة، تنطلق من حاجة الشباب إلى النفاذ إلى الفضاء العموميّ وانتزاعه ولو ليوم واحد، من خلال هذه الفرحة المشروعة؛ ارتباطًا بالممارسات الإقصائيّة الّتي تمارس عليهم - الشباب من الشرائح الأقلّ حظًّا في السلّم الاجتماعيّ - بالإضافة إلى حالة العزل الّتي يمرّ بها الطالب طيلة العام الدراسيّ. ويعتبر الفضاء العموميّ الافتراضيّ - بتقاطعه مع الفضاء العموميّ البرجوازيّ، كما يطرح هابرماس – والسيّارة بصفتها عاملًا مهمًّا ومتداخلًا بين الفضاء الخاصّ والعامّ، من أهمّ العوامل الّتي تساعد الشباب على انتهاز الفرحة المشروعة لتحقيق حاجتهم بمقاومة خطاب الهيمنة والإقصاء، شكلًا من أشكال المقاومة بالحيلة.  

 


إحالات

[1] "واقع التعليم الفلسطينيّ في فلسطين"، مركز المعلومات الوطنيّ الفلسطينيّ وفا، شوهد في 8/8/2021، في: https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=9010

[2] الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ، كتاب فلسطين الإحصائيّ السنويّ (رام الله: الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ، 2020) ص92.

[3] ماهر تريمتش، "قراءة نقديّة في كتاب بيير بورديو وجانكلود باسرون إعادة الإنتاج: في سبيل نظريّة عامّة لنسق التعليم"، المجلّة التربويّة لجامعة الكويت، العدد 90(2007) ص5.

[4] حسن عالي، "الطرح البورديوي وسؤال الفضاء العامّ"، المجلّة العربيّة للآداب والدراسات الإنسانيّة، العدد 14(2020)، ص14.

[5] أناس رغيس، "الاتّصال العموميّ وإدارة الفضاء العامّ"، مجلّة الآداب والعلوم الاجتماعيّة، جامعة محمّد دباغين، العدد 2 (2019)، ص7-8.

[6] أباهر السقّا، واقع الشرذمة والتجزئة وانعكاسها على الهويّات وتراتباتها في المكوّنات الفلسطينيّة المختلفة في الشباب الفلسطينيّ- دراسة عن الهويّة والمكان والمشاركة المجتمعيّة (بير زيت: مركز دراسات التنمية، 2017) ص5.

[7] السيّدة هناء علالي وآخرون، "الفضاء العموميّ ودوره في تفعيل الفكر التواصليّ عند هابرماس"، التواصل في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في جامعة باجي مختار، العدد 50(2017)، ص8.

[8] روجر روزنبلات، ثقافة الاستهلاك (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2011) ص51-52.

[9] معتزّ عطايا، "السيّارات المسجّلة بالضفّة الغربيّة ترتفع 168% خلال 5 سنوات"، اقتصاد فلسطين، 15/1/2018، شوهد في7/8/2021، في:

https://www.palestineeconomy.ps/ar/Article/11945

[10] بوبكر الصدّيق بن شويخ، "الفضاء العموميّ الافتراضيّ ساحة للتعبير وتعزيز الحرّيّات"، مجلّة العلوم الاجتماعيّة العدد 7(د.س) 8.

[11] محمّد ملحم، ناجح بالمرحلة الثانويّة لعام 2021، مدرسة الهاشميّة الثانويّة، رام الله.

[12] بتول العلي، ناجح بالمرحلة الثانويّة لعام 2021، مدرسة بيتونيا الثانويّة، رام الله.

 


 

إيهاب بزاري

 

 

 

خرّيج علم نفس وعلم اجتماع في جامعة بيرزيت. يعمل في مؤسّسة «تامر للتعليم المحتمعيّ» منسّقًا للشباب والحملات، يهتمّ بحقل العلوم الاجتماعيّة.