النيوليبراليّة والحنين... كيف تُسْتَغَلّ المشاعر؟

 

"مؤرّخو المستقبل الّذين سيشرعون في وصف حقبتنا التاريخيّة، سيخلصون إلى أنّها كانت تتميّز بطغيان المشاعر".

- ميشيل لاكروا -

 

"فين أيّام زمان"، "زمان كان فيه بركة"، وغير ذلك، الكثير من الأمثلة والمقولات الحنينيّة الّتي نسمع صداها في أيّامنا هذه؛ أيّام الاستهلاك. طالما سَمِعت الأجيال الشبابيّة هذه الأمثلة النوستالجيّة من كبار السنّ، بغضّ النظر عن مدى صحّتها واقعيًّا، الغريب أنّ هذه الحالة المشاعريّة للنفور من الحاضر والرجوع إلى الماضي، تتردّد حاليًّا بين الشباب قبل كبار السنّ، يتمنّون أنّهم لم يولدوا في هذا الزمان، بل أن يعودوا إلى زمن، هم من الأساس لا يعرفون عنه شيئًا. تجلّت تلك النوستالجيا ليس فقط في الحياة اليوميّة للعاديّين من الناس، بل في مجالات أخرى، مثل الفنّ بوجهيه الدراميّ والسينمائيّ، والإعلام، والرقص، وغير ذلك؛ فماذا ما وراء تمنّيات العودة، وكيف تستغلّ النيوليبراليّة هذه التمنّيات لتحقيق مصالحها؟

 

الحنين

من الطبيعيّ أن يتذكّر عجوز أيّام شبابه وهو سعيد، سواء كانت تلك الأيّام في أيّ عقد مضى، مع تمنّيه أن تعود تلك الأيّام، أو حتّى يتذكّرها من باب انتعاش الماضي في ذهنه الحاضر، وهذا ما يُسَمّى «نتوء ذكريات الماضي» (reminiscence bump)، وهي ظاهرة نفسيّة تعني الحنين إلى الماضي، وهذا لا يعني استنكار الحاضر، بل الحنين لفترة عمريّة كانت وما زالت مرتبطة بتجارب الإنسان الأهمّ في حياته، الّتي يُبْنى عليها عمليًّا النمط المركزيّ لقادم حياته، مثل اختيار التخصّص الخاصّ بالدراسة، ومن بعدها اختيار مجال العمل، اختيار وجهة السفر، شريكة الحياة، تجارب الحبّ الأولى الّتي لا تُنْسى مهما مرّت عليها السنوات[1].

الحالة المشاعريّة للنفور من الحاضر والرجوع إلى الماضي، تتردّد حاليًّا بين الشباب قبل كبار السنّ، يتمنّون أنّهم لم يولدوا في هذا الزمان، بل أن يعودوا إلى زمن، هم من الأساس لا يعرفون عنه شيئًا...

وهذا ما نجده دائمًا لدى الكثيرين منّا، دون امتعاض. الكهل الّذي ينشر صور زواجه منذ 40 أو 50 عامًا، وذكريات الشباب والنضال الجامعيّ، وحتّى الشباب الّذين ينشرون صورهم وهم أطفال، متمنّين الرجوع إلى مرحلة اللعب والبراءة، وحبّ الدنيا والفهم اليوتوبيّ لها، قبل تعرّف السيّئ والشرّ منها. وقد تجد هذه الظاهرة عندما يُفَعَّل في فيسبوك بعض الهاشتاغات المعتمدة على التذكّر والمقارنة بين الماضي والحاضر والمستقبل، كما كان في تحدّي السنوات العشر #10yearschallenge.

 

أزمان مصريّة

بعد ثورة 25 يناير عام 2011، وقف جمع المتفائلين يردّدون وقتها، أنّ ما بعد 25 يناير ليس كما قبلها؛ أي القصد هنا أنّه قد جرى تجاوز عشرات السنوات من الفساد الاجتماعيّ والأخلاقيّ والسياسيّ، ولم يكن التفاؤل مقتصرًا على المسار السياسيّ فقط، بل على الهيكلة الأخلاقيّة للمجتمع الّتي كانت تُرى أنّها لاأخلاقيّة بما يكفي.

الآن، في العقد الثاني، يحنّ البعض لما قبل 25 يناير، ولزمن الملكيّة في مصر؛ أي المنتصف الأوّل من القرن العشرين، وتجد أيضًا نوستالجيا لما بعد زوال الملكيّة، في المنتصف الثاني من نفس القرن؛ أي نوستالجيا مضادّة، وربّما من نفس الشخص أو المجموعة، وربّما هذا هو الحنين الكاذب، مجرّد إفلات من باب الهروب من الواقع والرجوع إلى أيّ زمن؛ عروبيّ، أو ملكيّ، أو فرعونيّ؛ زمن لم يعشه النوستالجيّ، فيظنّ به أنّه أفضل من الحاضر. الأهمّ هنا هو الهروب دون حسبة تاريخيّة عقليّة، والارتكاز على اللحظة المشاعريّة الّتي تُشْفي ألم الفقد، كما وصفتها الأديبة الروسيّة سفيتلانا بويم[2].

ثمّ لو دقّقنا في التساؤل: ما مدى الجماليّة في صورة لأسرة مصريّة عام 1906؟ وما أفضليّتها على صورة لأسرة أخرى في عام 2021؟ ربّما لو رأينا صورة لنفس العام 1906، لكن لأسرة أحد الفلّاحين المصريّين الّذين أعدمتهم القوّات البريطانيّة في قرية دنشواي، لانتفى جمال هذه الحقبة كلّها. وهذا ليس معناه أنّ تأطير النظام السياسيّ، والحكم على مدى صلاحيّته، هو كلّ المقياس للحكم على جماليّة حقبة تاريخيّة ما، لكنّها ضروريّة عند وصف الزمن بشكل عامّ، دون الوقوف عند أشياء/ مجالات تخصّ هذا الزمن.

 

الفراغ

في زمننا هذا، بعض النوستالجيا محقّة، في مجالات بعينها مثل المجال الفنّيّ بأوجهه الدراميّة والسينمائيّة والمسرحيّة والطربيّة، وقد أخذ الحنين الناس إلى استعادة عالمهم الفنّيّ القديم، متمثّلًا في إنشاء صفحات وقنوات على فيسبوك ويوتيوب، لتحميل الفنّ القديم وبثّه، من صور رسميّة وغير رسميّة، ومن حفلات طربيّة تسجيليّة ومرئيّة لعبد الحليم حافظ، وأمّ كلثوم، ووردة، وغيرهم.

الفراغ الثقافيّ في المجالات الفنّيّة والإعلاميّة، جعل الناس تلهث بالإعجاب وراء أيّ ذوق فنّيّ قديم قد عاد إلى الساحة من جديد، مثل الحديث الدائم عن عودة المطربة المصريّة روبي.

من ضمن ذلك أيضًا إعادة بثّ الأفلام السينمائيّة الّتي صدرت في مراحل متقدّمة من القرن العشرين، من تأليف وإخراج أناس عاشت وصنعت قبل أن تولد الأجيال الشبابيّة الحاليّة، مثل طه حسين، وتوفيق الحكيم، وإحسان عبد القدّوس، ونجيب محفوظ، ويوسف شاهين؛ فبمجرّد البحث عن أحد الأفلام القديمة على يوتيوب تجد وقت نزوله منذ أسابيع أو أشهر قليلة، ومع ذلك قد جلبت مشاهدات بمئات الآلاف وأكثر، وهذا لا يدلّ إلّا على البحث الدائم عن المتعة الفنّيّة السينمائيّة في الزمن الماضي، وقد يرجع هذا إلى افتقار السنوات الأخيرة إلى تقديم فنّ سينمائيّ يعيش عليه الناس ويقدّرونه ويتابعونه، حيث ذهب الفنّ السينمائيّ مؤخّرًا إلى تسويق البلطجة وتسليع الجسد والهوس في تجسيد الغرائز، وابتعد عن تناول معانٍ خاصّة بما يعيشه الناس، وقليلًا ما يقدّم شيئًا له معنًى يلمسهم، ويكون أغلبه صناعة مستقلّة تابعة لمنظّمات ثقافيّة غير مصريّة.

كذلك، افتقد الناس في السنوات الأخيرة، وجود الإنسان المثقّف بينهم، الإعلاميّ أو الممثّل أو المؤلّف؛ إذ تجد البرامج التلفزيونيّة عند استضافة هؤلاء الفنّانين، يناقشون حيواتهم الشخصيّة وأسرارها، الّتي تداعب غرائز الناس، ولا تنتمي إلى عقولهم. مثل نقاشات كم مرّة خان الفنّان الفلانيّ زوجته، وكم مرّة تزوّجت – عرفيًّا - الراقصة العِلانيّة، بعيدًا عن الخوض في ما يخصّ الفنّ وصناعته ومستقبله، وموقفه من الإنسان والمجتمع والدولة، وهذه هي أدوارهم الحقيقيّة الّتي تخلّوا عنها، وأفرغوا أوقاتهم على الشاشات من أجل الفراغ والاستهلاك، مقارنة باللقاءات التلفزيونيّة الّتي كان يتحدّث فيها عماد حمدي، وسمير صبري، ومحمود مرسي، وحسين فهمي، ونور الشريف، ومحمود ياسين، وغيرهم.

هذا الفراغ الثقافيّ في المجالات الفنّيّة والإعلاميّة، جعل الناس تلهث بالإعجاب وراء أيّ ذوق فنّيّ قديم قد عاد إلى الساحة من جديد، مثل الحديث الدائم عن عودة المطربة المصريّة روبي. نخرج من شخصنة روبي مُطْرِبَةً حنّ إليها الجمهور، إلى وجود مثل تلك الحالات كظاهرة، فلم تكن روبي مغنّية وازنة فنّيًّا وقت ظهورها، وحتّى حين اتّجهت إلى السينما والدراما للتمثيل، لم تأخذ مكانة متقدّمة مثل ممثّلات أخريات كهند صبري أو منّة شلبي أو منى زكي، بل كانت روبي فنّانة مؤدّية، تغنّي وترقص بجرأة وقوّة حضور، وهذا ما أعطاها شهرتها وقتذاك، وانتهت بمجرّد مرور وقت كافٍ على نسيان إغرائها، والولوج إلى إغراء آخر جديد. أمّا نوستالجيا الفتاة القمحيّة المصريّة المغرية، الّتي عادت من جديد، فإنّ عودتها مرتبط بأنّ حالة الإغراء المدعمة بأغنية لحنها راقص، الّتي ظهرت قبل عقدين، اختفت لفترة.

لو أخذنا مثالًا آخر، في احتفاء وسائل التواصل الاجتماعيّ بعودة شريهان في إعلانات رمضان من عام 2021، هنا أيضًا شريهان تمثّل حالة عودة شيء ما من الزمن القديم، كان الاحتفاء به من قِبَل النوستالجيّين؛ لا لشيء عظيم فنّيًّا أو معرفيًّا قد قدّمته سواء قديمًا أو حديثًا.

 

اللعبة

تعرف النيوليبراليّة جيّدًا ما يريده الذوق العامّ من مجموعة معيّنة من البشر، فتلعب لعبتها، من ضمن القراءات النفسيّة لآليّات السوق الّتي بدأها إدوارد بيرنيز في السوق الأميركيّ بدايات القرن العشرين؛ أي أنّ استجلاب معنًى قديم، سوف يكون شيئًا ناجحًا في سوق المستهلكين النوستالجيّين[3].

تعرف النيوليبراليّة جيّدًا ما يريده الذوق العامّ من مجموعة معيّنة من البشر، فتلعب لعبتها، من ضمن القراءات النفسيّة لآليّات السوق الّتي بدأها إدوارد بيرنيز في السوق الأميركيّ بدايات القرن العشرين؛ أي أنّ استجلاب معنًى قديم...

كذلك، تلعب النيوليبراليّة بواسطة عقلها المدبّر والراعي للشركات، في ملعب الجمعانيّة النفسيّة لدى جمهورها؛ من خلال استغلال جميع الأدوات التقنيّة وغيرها مؤخّرًا؛ إذ ظهرت خاصّيّة حفلات الهولوجرام، وهي حفلات يُجَسَّد فيها أشخاص قد رحلوا عن الدنيا، لكنّهم مُبَرْمَجون على إيماءات توحي بتفاعلهم المسرحيّ مع الجمهور، مثل حفلات عبد الحليم حافظ وأمّ كلثوم؛ فعشّاق نوستالجيا الحفلات القديمة، بدلًا من انتظارهم على إحدى القنوات التلفزيونيّة، أو مشاهدة حفلاتهم المسجّلة على يوتيوب، يذهبون إلى هذه الحفلات الهولوجراميّة، الّتي تكون باهظة الأثمان في تذاكرها الّتي تصل إلى بضعة آلاف من الجنيهات المصريّة.

من خلال ذلك، وبذلك، وعلى أوتار كثيرة، استطاعت النيوليبراليّة صناعة نوستالجيا خاصّة بنسختها الحديثة، نسخة شكليّة لا تُعْطي انطباعًا نفسيًّا حقيقيًّا كما أشار الكاتب البريطانيّ مارك فيشر في كتابه «واقعيّة رأسماليّة: ألا يوجد بديل؟ - Capitalist Realism: Is There No Alternati»، بل تكون نسخة استهلاكيّة (consumer version) للّعب على أوتار المستهلكين وجيوبهم[4].

 


إحالات

[1] Susan Krauss Whitbourne, What's So Nice about Nostalgia? - Psychology Today ,Posted March 24, 2012.

[2] Svetlana Boym, The Future of Nostalgia, (New York, Basic Books, 2002).

[3] إدوارد بيرنيز (1891 – 1995)، نمساويّ أميركيّ، مؤسّس ما يُسَمّى العلاقات العامّة والبروباغاندا، وهو ابن أخت سيغموند فرويد، وكان مولعًا باستخدام التحليل النفسيّ لفرويد، وقد كان هو المحلّل النفسيّ بشأن الدعاية عند عدد من الشركات لفهم العقليّة النفسيّة للجمهور. ألّف مؤلّفات عدّة، أبرزها «البروبوجاندا - Propaganda»، و«تلميع الرأي العامّ - Crystallizing Public OpinioN»، و«الدعاية السياسيّة - Political propaganda».

[4] Mark Fisher, Capitalist Realism: Is There No Alternative?, (United Kingdom, Zero Books, 2009). للمزيد: انظر مقابلة الكاتب في مجلّة «كراك»، أجراها الكاتب أندرو بروكس. انتحر مارك فيشر في 13 كانون الثاني (يناير) 2017، قبيل ظهور كتابه الأخير The Weird and the Eerie، وقد ترجمتها مجلّة «معازف» تحت عنوان «هل تشتاق للمستقبل؟» | مقابلة مع مارك فيشر، نُشِرَتْ في كانون الأوّل (ديسمبر) 2018.

 


 

أحمد عبد الحليم

 

 

 

كاتب وباحث مصريّ في قضايا الاجتماع، له العديد من المقالات والدراسات المنشورة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة في عدد من المؤسّسات البحثيّة والمنابر العربيّة. مؤلّف كتابي «الحارة العربيّة» و«أجساد راقصة».