الطفل الّذي علّمته في النقب

The Advocacy Project

 

يقول باشلار في كتابه «جماليّات المكان»: "إنّ كلّ أماكن لحظات عزلتنا الماضية، والأماكن الّتي عانينا فيها من الوحدة، والّتي استمتعنا بها، ورغبنا فيها، وتآلفنا مع الوحدة فيها، تظلّ راسخة في داخلنا؛ لأنّنا نرغب في أن تبقى كذلك. الإنسان يعلم غريزيًّا أنّ المكان المرتبط بوحدته مكان خلّاق، يحدث هذا حتّى حين تختفي هذه الأماكن من الحاضر، وحين نعلم أنّ المستقبل لن يعيدها إلينا، وحين نعلم أنّه لم يَعُدْ هناك علّيّة، ولا حجرة سطح، تظلّ هناك حقيقة أنّنا عشنا مرّة في حجرة السطح، وأنّنا مرّة أحببنا العلّيّة".

 

التجربة الأولى خارج «البيت الأوّل»

أذكر أنّي حين قُذِفْتُ للمرّة الأولى خارج البيت، خارج الجدران الآمنة، الأصوات المألوفة، اللهجة المعتادة، الوجوه الّتي كبرتُ عليها، كان الأمر في الصحراء، صحراء النقب الممتدّة من ديار بئر السبع ملتحمةً مع سيناء في تلاقٍ يربط قارّتين. وقفت مقابل وزارة التربية والتعليم في انتظار أحد المديرين من إحدى القرى الأصلانيّة «غير المعترف بها» من قبل الاستعمار الإسرائيليّ. كانت المرّة الأولى لي، عام 2014، أسمع بها بوجود «قرى غير معترف بها»، ولم أفهم ذلك حقًّا، إلّا بعدما بدأت بالعمل وعاينتُ بشكل مباشر ماذا يعني أن تكون ابن قرية «غير معترف بها» في النقب.

كانت الأسئلة تخطر على عقلي كلّ يوم، بينما أختبئ بجانب الغسّالة أذرف الدموع على قراري، مختبئةً من شريكاتي في السكن، اللواتي لن يفهمن بالتأكيد أسباب بكائي...

كنت في بداية العشرينات، حين اتّخذت قرارًا بالانفصال عن بيت والديّ، والانتقال للسكن والعمل في جنوب فلسطين، حيث الأماكن كلّها غريبة عنّي، المناخ مختلف، ويبعد المكان الجديد عن بيت عائلتي ثلاث ساعات بالسيّارة – أربع ساعات بالقطار، وثلاثمئة وخمسة وستّين كيلومترًا. يقول باشلار: "البيت هو ركننا في العالم. إنّه كما قيل مرارًا، كوننا الأوّل، كون حقيقيّ بكلّ ما للكلمة من معنًى"، وكان شيئًا جديدًا ومختلفًا البدء من مكان جديد، وبيت جديد، وجدران عليّ بناء ذاكرة معها من الصفر.

قضيت أيّامي الأولى أراقب الشمس الّتي تشرق مبكّرًا جدًّا، مخترقة غرفتي الصغيرة، حيث وضعت سريرًا يفي بالحاجة، خزانة بدولاب واحد ورفّ ملابس، والقليل من القطع المعلّقة خلف الباب، بلون بنّيّ غامق يغلب على الأثاث، وجدران بيضاء ناصعة، حين تصطدم بها الشمس صباحًا تصدر لمعانًا غريبًا عنّي، كانت غرفتي الّتي عليّ معها، تعلّم كيف تُبْنى الذاكرة من الصفر.

يمتدّ اللون الأصفر والكثبان الرمليّة والصخور على مدّ النظر، تماثيل لغزلان برّيّة تمرّ عن الطريق، جمال تجلس بهدوء باب «الشقّ»؛ وهو الخيمة الّتي تنصبها العشيرة أو البلدة بعيدًا عن الخيام الّتي يسكنون فيها، حيث يجلس الرجال ويتسامرون ويستقبلون فيها الضيوف. كانت الأسئلة تخطر على عقلي كلّ يوم، بينما أختبئ بجانب الغسّالة أذرف الدموع على قراري، مختبئةً من شريكاتي في السكن، اللواتي لن يفهمن بالتأكيد أسباب بكائي من المدرسة الّتي أعمل فيها.

 

أحاول بيتًا

لم أستطع في البداية تقبّل فكرة العمل في قرية «غير معترف بها»؛ مدرسة مبنيّة من «الأسبست» و«الكرفانات» المتنقّلة، بعض الغرف التعليميّة دون مكيّفات، الرابط بين الصفوف ممرّات خشبيّة، الكثير من الأشجار زُرِعَتْ داخل مساحة «المدرسة» كي تضفي عليها طابعًا مختلفًا عمّا حولها. تتكوّن المدرسة من صفّ واحد من كلّ طبقة دراسيّة، 9 صفوف بالمجمل، و29 معلّمًا، جميعهم من شمال البلاد، باستثناء المدير من ذات العشيرة التابعة للبلدة في الجنوب.

أخذت بعدها شهورًا أحاول صنع «بيتي» الخاصّ، وضع لوحاتٍ وصور شخصيّة على جدران غرفتي، صور صديقاتي من القرية، أختي وحبيبي أيضًا، أضفت بعض الرفوف البيضاء بجانب السرير، اشتريت العديد من النباتات ووضعتها على حافّة النافذة، وحبل من الضوء تركته فوق سريري يضيء في الأمسيات الّتي أحاول فيها فهم معنى البيت في القراءة، في البحث عن معنى المكان، وكيف يتغيّر حين يرتبط بأشياء نحبّها.

كلّ محاولاتي السابقة في صنع حيّزي الخاصّ، تلاشت أمام تحدّيات المشي في ظلام البيت، الجلوس على الرصيف أمامه، الأصوات والروائح الّتي لم تتكرّر في هذا البيت ولا غيره.

 

يقول باشلار: "البيت الّذي وُلِدْنا فيه بيت مأهول. وقيم الأُلْفَة فيه موزّعة، وليس من السهل إقامة توازن بينها؛ إذ هي تخضع للجدل. بغضّ النظر عن ذكرياتنا فالبيت الّذي وُلِدْنا فيه محفور، بشكل مادّيّ في داخلنا. إنّه يصبح مجموعة من العادات العضويّة. بعد مرور عشرين عامًا، ورغم السلالم الكثيرة الأخرى الّتي سرنا فوقها، فإنّنا نستعيد استجاباتنا للسلّم الأوّل، فلن نتعثّر بتلك الدرجة العالية بعض الشيء. إنّ الوجود الكلّيّ للبيت سوف ينفتح بأمانة لوجودنا، سوف ندفع الباب الّذي يصدر صريرًا بنفس الحركة، كما نستطيع أن نجد طريقنا في الظلام إلى حجرة السطح البعيدة. إنّ ملمس أصغر ترباس يظلّ عالقًا في أيدينا".

كلّ محاولاتي السابقة في صنع حيّزي الخاصّ، تلاشت أمام تحدّيات المشي في ظلام البيت، الجلوس على الرصيف أمامه، الأصوات والروائح الّتي لم تتكرّر في هذا البيت ولا غيره.

 

طفل في المدرسة

أمام كلّ تخبّطاتي في البحث عن حيّز مكانيّ يقيني الانجرار نحو الاكتئاب والوحدة، كنت أدرّس أطفالًا في الصفوف الأوّل حتّى الرابع الابتدائيّ، يأتون إلى المدرسة في الشتاء، بينما السيول تملأ الصحراء الشاسعة، ضاحكين، عابرين مسافات من الرمال، تاركةً أثرها في ملابسهم وأحذيتهم غير المجهّزة لشتاء طويل الأمد وشديد البرودة، وفي الصيف يتعاملون مع حرّ الصحراء الحارق؛ بالجلوس في بيوتهم الّتي لا تحمل سقفًا حقيقيًّا، وإن وُجِد، فقد يُهْدَم فوق رؤوسهم.

في أحد أيّام 2017، بينما كنت قد اعتدت البقاء في النقب للتدريس والعمل في المخيّمات الصيفيّة، أقمنا يومًا تعليميًّا حول القدس، وصرت أستعرض معلوماتي العامّة حول المدينة وأهمّيّتها التاريخيّة والوطنيّة والدينيّة للفلسطينيّين من كلّ الفئات، حين جاءت إحدى أمّهات الأطفال لتعيد أبناءها إلى البيت، ودار حديث قصير بيننا، بينما النقاب يغطّي وجهها ولا أرى سوى عينيها: "وصلنا إخطار هدم، بدّي أغسّل الأولاد ونروح عند جدّهم..."، لا أعتقد أنّني لم فمت تمامًا ماذا تعني تلك السيّدة.

حين كنت عائدة بعد الظهر إلى بئر السبع، وقفت بجانب الطريق، حيث وجدت قوّات كبيرة من الشرطة ترافقهم آليّات الهدم، قد وصلوا إلى بئر هدّاج من أجل هدم بعض البيوت «غير المعترف بها» في المنطقة.

طرحت على طلّابي سؤالًا: "ليش ما بتسكنوا في مدينة معترف فيها؟"، قفز أحد الطلّاب في الصفّ الثالث الابتدائيّ قائلًا بصوت عالٍ وقويّ: "هذي أرضنا يا معلّمة ما نطلع منها".

تركت يومذاك كلّ تساؤلاتي خلفي، ووقفت هادئة للتجربة الّتي تعلّمني بأنّ الخروج من مساحة البيت الآمن، إلى بيت أقلّ أمنًا بقليل لأنّ الأصوات والروائح فيه اختلفت، تجربة تختلف كلّيًّا عن تجربة الأطفال الّذين أدرّسهم وهم مهدّدون بالإخراج من بيوتهم في أيّ لحظة؛ لأنّ شخصًا ما قرّر عدم الاعتراف بحقّهم في البقاء داخل مساحتهم الآمنة.

في اليوم التالي، طرحت على طلّابي سؤالًا: "ليش ما بتسكنوا في مدينة معترف فيها؟"، قفز أحد الطلّاب في الصفّ الثالث الابتدائيّ قائلًا بصوت عالٍ وقويّ: "هذي أرضنا يا معلّمة ما نطلع منها".

لم يخطر لي حين صرخ هذا الطفل في وجهي سوى سؤال واحد، رغبت في توجيهه إلى باشلار: ماذا يفعل الطفل الّذي يقضي حياته حتّى يشيب خائفًا من خسارة مكانه وحيّزه الخاصّ؟

 


 

ميساء منصور

 

 

 

كاتبة ومدرّسة للّغة عربيّة، تكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.