الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي | أمام بوّابة «الشاباك» (2/5)

موسى الشاعر | AFP

 

تستكمل هذه المقالة البحث في المدخل النظريّ لكتاب «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة» (2021) والّذي يركز على الاستعمار الصهيونيّ مدخلًا لفهم السياسات الاستعماريّة ووجودها على الأرض، وينطلق في ذلك من فرضيّة رائف زريق حيثُ يدّعي "أنّه يجب العودة إلى السياق، إلى رؤية الكلّ من وراء غابة التفاصيل". ويُقْصَد بالسياق فكرة المشروع الصهيونيّ القائمة على تعدّد أنماط إبادة الجسد الفلسطينيّ تحقيقًا لشعاره "أرض بلا شعب... لشعب بلا أرض"، ثمّ أبحث كيف موضعت السياسات الاستعماريّة العنف على أجساد النساء في ظلّ محاولتهنّ الوصول إلى العلاج. أحلّل ذلك من خلال العلاج الإشعاعيّ، ويعود السبب في ذلك إلى أنّ هذا العلاج لا يتوفّر في مناطق الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ويترتّب على ذلك ضرورة السفر إلى مدينة القدس والأراضي المحتلّة عام 1948 للحصول على العلاج.

 


 

يبني هذا المدخل على فرضيّة رائف زريق الّتي تدّعي "أنه يجب العودة إلى السياق.. إلى رؤية الكلّ من وراء غابة التفاصيل"[1]، وهذا يعني أنّ فهم التفاصيل يحتّم علينا العودة إلى سياقها، وأقصد بالسياق فكرة المشروع الصهيونيّ على الأرض، والقائمة على تنفيذ شعار الحركة الصهيونيّة: "أرض بلا شعب... لشعب بلا أرض"، وبتعبير نور مصالحة "أرض أكثر، عرب أقلّ". إنّ هذا الفصل وإذ يعود إلى السياق الأوّليّ الصهيونيّ، يعود إليه بدعوى تفكيك عذابات وآلام الفلسطينيّين/ ات الّتي نشأت بفعل هذا السياق وتجلّياته على الأرض في حياة الفلسطينيّين/ ات وعيشهم اليوميّ، وبشكل خاصّ عذابات وآلام النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي.

وفي إطار السياق الأوّليّ الصهيونيّ الّذي فيهِ تُستهدَفُ الأجساد الفلسطينيّة بـ "أنماط من الإبادة" لا حيّز فيها لـ ’الأجساد المستثناة‘، لا تقع الأجساد المصابة بسرطان الثدي خارج منطق ’الإبادة‘. في القسم الأوّل من هذا الفصل أحاول موضعة "أنماط الإبادة" ضمن السياق الاستعماريّ الصهيونيّ، والّتي تتجسّد في ممارسات تضبطها مجموعة من السياسات الحيويّة على الأرض، ثمّ في القسم الثاني أحلّل كيف طُبِّقَتْ ’الإبادة‘ بوصفها مجموعة ممارسات على أجساد النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي من خلال تفكيك كيفيّة إخضاعهنّ لللسياسات الحيويّة الاستعماريّة على الأرض.

إنّ موضعة حدث المأساة أو النكبة يعرضُ أهمّ أنماط الإبادة الّتي مُورِسَتْ على الأرض الفلسطينيّة وعلى أجساد الفلسطينيّن/ ات، في ما أنظر لها بوصفها مرتكزًا لفهم أنماط الإبادة الّتي توالدت وارتكزت على هذه المأساة...

يعالج وولف منطق ’الإزالة‘ بوصفه عمليّة بنيويّة مستمرّة لا تتوقّف[2]، ومن هنا يمكن طرح مقاربة أنّ مأساة العام 1948، والّتي يُصطلح على تسميتها بـ «النكبة»، قد شكّلت ذروة أنماط الإبادة من خلال عمليّات القتل الجماعيّة والمجازر، وعمليّات التهجير الجماعيّ الّتي أعقبت المجازر، والّتي يصفها إسماعيل الناشف بالتدمير المنظّم للكيانيّة الفلسطينيّة بمستواها المادّيّ، ذاك التدمير الّذي لا يزال يشكّل الأساس للنظام الاستعماريّ في فلسطين[3]. إنّ موضعة حدث المأساة أو النكبة يعرضُ أهمّ أنماط الإبادة الّتي مُورِسَتْ على الأرض الفلسطينيّة وعلى أجساد الفلسطينيّن/ ات، في ما أنظر لها بوصفها مرتكزًا لفهم أنماط الإبادة الّتي توالدت وارتكزت على هذه المأساة، وأقصد بنقطة الارتكاز هذه أنّها مُورِسَتْ تاليًا بعد النكبة على أجساد الفلسطينيّين/ ات الّذين استطاعوا البقاء على الأرض عبر أنماط جديدة تغلغت في حياة الفلسطينيّين/ ات اليوميّة.

 لا أحلّل في هذا الفصل بالتفصيل الكيفيّة الّتي تتشكّل وتتوالد فيها أنماط الإبادة وهي كثيرة، بل أطرح بعضًا من أنماط الإبادة الّتي شكّلت ذروتها المأساة البنيويّة عام 1948، وبالبناء على فكرة تعدّد أنماط الإبادة أحاول تحليل كيف تخضع أجساد النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي لإحدى هذه الأنماط من خلال التحكّم بحقّهنّ في العلاج، والّتي أدّعي أنّها تُنفّذ عبر مجموعة من السياسات الاستعماريّة على الأرض.

 

الضبط من خلال الرقابة والسيطرة

لقد انتظمت هذه الأنماط على الأرض وضُبِطَتْ بفعل مجموعة من السياسات على الأرض راقبت الفلسطينيّ/ ة وتحكّمت به. وقد وضّح بعضها طارق دعنا من خلال "نظام تصاريح، تقنيّات التعرّف على الوجه وتحديد الهويّة، ونقاط التفتيش العسكريّة، والحواجز الإلكترونيّة، والعوائق الإسمنتيّة"[4]، وكذلك ’المنع الأمنيّ‘، التفتيش، تأخير الوصول، الاستنفار، والإرجاع، إلخ.

إنّ تحليل السياسات الحيويّة الاستعماريّة يفيد في فهم منطق الإزالة الّذي يتجسّد عبر أنماط تستهدف الجسد ويتمّ ضبطها عبر مجموعة من السياسات تتجلّى من خلال سياقين:

السياق الأوّل؛ الضبط من خلال الرقابة الاستعماريّة لتفاصيل الحياة اليوميّة للجسد الفلسطينيّ من خلال مجموعة من السياسات المتشابكة، والّتي تلتقي عند سياسة التصريح؛ بمعنى أنّ المريضة بالسرطان تلمس مجموع هذه السياسات أثناء محاولتها الحصول على تصريح والسبب في ذلك أنّ التصريح مرتبط بالعديد من المؤسّسات الاستعماريّة، ومنها ضرورة الحصول على موافقة ما يُعْرَفُ بجهاز «الشاباك»، وهو الجهاز الّذي يراقب عن كثب تحرّكات الفلسطينيّين في حياتهم اليوميّة. فإن كان الفلسطينيّ  ’جيّدًا‘ وفقًا للمنطق الاستعماريّ يُمْنَحُ تصريحًا، أمّا إن كان فلسطينيًّا ’غير جيّد‘ وفقًا لذات المنطق فيُطبَّقُ عليه ما يُعرفُ بـ  ’المنع الأمنيّ‘، والّذي يترتّب عليه توجيه من «جهاز الأمن العام» ’الشاباك‘، بمنع إصدار تصريح لمَنُ ينظر إليه على أنّه "يشكّل خطرًا محتملًا على الأمن القوميّ الإسرائيليّ".

يَظْهَرُ السياق الثاني الضبط من خلال السيطرة على الجسد على الحواجز العسكريّة، وفي هذا الفضاء المكانيّ الاستعماريّ لا يمكن تحليل آليّات السيطرة بوصفها فعلًا فرديًّا من قبل الجنود على ’الحاجز‘، وإنّما يتجاوز ذلك إلى بنية الدولة ذاتها والّتي تحاول ملء سلطتها على الأجساد في الفضاء المكانيّ الّذي توجَدُ فيهِ عبر جنودها. ولتتمكّن السلطة الاستعماريّة من مراقبة الأجساد في هذا الفضاء، تُجيِّرُ مجموعة من التقنيّات التكنولوجيّة المتطوّرة لمراقبة أجساد الفلسطينيّين/ ات؛ فبناءً على تحقيقات أجرتها شبكة «إن بي سي» وصحيفة «هآرتس»، قامت شركة إسرائيليّة ناشئة تُعْرَفُ باسم «آني فيجن» وتستثمر فيها «مايكروسوفت» الأمريكّية، بإنتاج برامج وتطبيقات للتعرّف على الوجه تعتمد على آليّة البيو ميترك لمراقبة الفلسطينيّين.

وقد مكّنَتْ التقنيّة من تتبّع الأشخاص الّذين يظهرون في مقاطع الفيديو المباشرة، كما ويستطيع هذا البرنامج تعقّب الأهداف البشريّة بين كاميرات مراقبة مختلفة. في ما يعدّ هذا البرنامج من أهمّ التطبيقات الّتي يعتمد عليها المشروع العسكريّ الإسرائيليّ في الضفّة الغربيّة. وقد أقرّ بيان صادر عن الجيش الإسرائيليّ بإضافة هذا التطبيق في 27 نقطة تفتيش وحاجز عسكريّ إسرائيليّ في الضفّة الغربيّة بهدف "تطوير الحواجز"[5]، وهذا يقودنا إلى التفكير بدور المعرفة كمرادف للسلطة؛ فالمعرفة عنصر أساسيّ في علاقات القوّة، والمعرفة منتج سلطويّ، فكلّ من المعرفة والسلطة يستدعي أحدهما الآخر، فالمعرفة تمهّد الأرضيّة للسلطة، والسلطة تفرض القوّة من خلال المعرفة[6]، وبذلك تظهر المعرفة ليس بصفتها وسائل مجرّدة، أو محايدة، بل هي وسائل تعمل على إنتاج معرفة تُسَخَّرُ لتطويع الجسد وضبطه في السياق الاستعماريّ الصهيونيّ.

كلّ من المعرفة والسلطة يستدعي أحدهما الآخر، فالمعرفة تمهّد الأرضيّة للسلطة، والسلطة تفرض القوّة من خلال المعرفة، وبذلك تظهر المعرفة بصفتها وسائل تعمل على إنتاج معرفة تُسَخَّرُ لتطويع الجسد وضبطه في السياق الاستعماريّ الصهيونيّ..

لقد تكرّس منطق الإزالة بوصفه عمليّة بنيويّة مستمرّة تعدّدت أنماطها وضُبِطَتْ بواسطة مجموعة من السياسات على الأرض، وفي إطارها العامّ تمحورت حول فكرة ’معاقبة‘ و’مراقبة الجسد. في كتابه «المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن»، يدرس فوكو ممارسات المراقبة والعقاب، ويشير إلى أنّ هذه الممارسات كانت تتشكّل في مؤسّسات منعزلة مثل السجون، المؤسّسات العسكريّة، المستشفيات، المصانع والمدارس، ثمّ طُبِّقَتْ على نطاق أوسع كأساليب للتنظيم الاجتماعيّ والسيطرة[7]، وتشير أوريليا آرمسترونغ إلى أنّ هذه الممارسات طُبِّقَتْ على الجسد وأخضعته لفحص مستمرّ محاولةً إنتاج أجسادٍ طيّعة سهلة الانقياد[8].

وفي السياق الفلسطينيّ نجد أنّ هذه الأنماط تعاملت مع الأجساد الفلسطينيّة/ ة أثناء عقابها ومراقبتها كأجساد فرديّة، فالعمل الّذي تُعَرِّفُهُ إسرائيل بأنّه يُلْحِقُ الضرر بالأمن، تطال ’عاقبته‘ كلّ الدائرة المحيطة بمن قام بالعمل، وذلك يشمل العائلة بمفهومها الممتدّ ليشمل الآباء، الأبناء، الإخوة، الأخوات، أبناء العمومة، إلخ، ليستشعر الأفراد هذا العقاب على أجسادهم أفرادًا عند الحاجة للعلاج، السفر، العمل، إلخ. وذلك ما يدفعُ بالفرد الفلسطينيّ في كثير من الأحيان إلى فرض رقابة ذاتيّة على نفسه، وعلى أسرته ومحيطه، خوفًا أو تجنّبًا لهذا ’لعقاب‘، فيُمارسُ الفرد قمعًا ذاتيًّا وأخرويًّا على الآخرين، وذلك ما يمكنُ وصفه بـ ’الفلسطينيّ الجيّد بالمفهوم الاستعماريّ‘، إذ يتمّ العمل على تحويل الجسد استعماريًّا إلى جسد طيّع ليّن يصلحُ للحياة ضمن المنطق الاستعماريّ الصهيونيّ.

 إنّ هندسة الاضطهاد في هذا الكتاب تطال قدرة المرأة المصابة بسرطان الثدي على الحصول أو الوصول للعلاج بسبب ارتباطها بأحد المقاومين الفلسطينيّين/ ات، أو قيامها بعمل تصنّفه إسرائيل بأنّه يضرّ بأمنها. يترتّب على ذلك خوض المرأة المصابة بسرطان الثدي معركة طويلة في المؤسّسات الحقوقيّة تارة، والتسلّل تهريبًا للوصول إلى العلاج تارة أخرى. إضافة إلى خضوعها لمجموعة من السياسات المرتبطة بممارسات تراقب هذا الجسد بصورة دقيقة أثناء محاولتها الحصول على حقّها في العلاج.

 

على بوّابة «الشاباك»

تُحتِّمُ طريق الوصول إلى العلاج الإشعاعيّ المرور بمجموعة من السياسات الاستعماريّة، وتتميّز هذه السياسات بكونها متشابكة، مرتبطة ببعضها البعض عبر نظام مُمَأسس استعماريّ بحيث أنّ فهمنا له يتطلّب منّا النظر إلى هذه السياسات كلّيّة، وليس كلّ واحدة بمعزل عن الأخرى؛ فلا يمكن فهم وجود الحاجز بدون فهم الوسيلة الّتي تخوّل الفلسطينيّ المرور عبر هذا الحاجز، وهو التصريح؛ ولا يمكن فهم التصريح بدون فهم آليّة الموافقة على إعطاء التصريح وهو وجود جهاز «الشاباك»؛ ولا يمكن فهم إخضاع الجسد لكلّ هذه السياسات دون فهم موقعيّة الجسد الفلسطينيّ على الأرض بوصفه جسدًا يشكّل عائقًا ويخضع لمبدأ ’الإزالة‘ البنيويّ.

في مقابلة مع رنا "س"، المصابة بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة، تُبَيِّنُ روايتها ’العقاب‘ المطبّق على النساء المصابات بسرطان الثدي عند وضع علامة ’المنع الأمنيّ‘ عليهنّ، والكيفيّة الّتي يتداخل فيها هذا المنع مع السياسات الحيويّة الاستعماريّة. تتحدّث تفصيلًا عن هذه الأدوات في تجربتها مع المرض قائلة:

"بعد أن أنهيت العلاج الكيماويّ، في مستشفى في بيت جالا[9] ، في 07/05/2020، كان من المفترض أن أبدأ بأخذ العلاج الإشعاعيّ في الشهر التالي، أي في شهر حزيران، لذا قمت بإحضار أوراقي الطبّيّة من مستشفى بيت جالا، وقدّمتها كما تجري العادة لدى «الارتباط المدنيّ الفلسطينيّ»[10] في مدينة رام الله، حيث أسكن، للحصول على تصريح[11] أستطيع من خلاله اجتياز ’حاجز قلنديا‘[12] للوصول إلى القدس، حيث ستكون محطّتي في مستشفى «أوغستا فيكتوريا/ المطّلع». بعدها تواصل معي «الارتباط المدنيّ الفلسطينيّ»، وأعلمني بضرورة مراجعة «الارتباط الإسرائيليّ»[13]، في «بيت إيل»[14]، بسبب وقف التنسيق المدنيّ[15] بين السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة وإسرائيل، بعد إعلان إسرائيل نيّتها تنفيذ خطّة الضمّ. في كلّ يوم كان ابني يذهب لمراجعة طلبي في ’ارتباط بيت إيل‘، يوميًّا لمدّة أسبوعين، في النهاية أخبروه بأنّني مرفوضة أمنيًّا. ابني اعترض وأخبرهم بأنّني مريضة سرطان، ويجب أن أتلقّى العلاج الإشعاعيّ، إلّا أنّهم رفضوا، وأخبروه بأنّني مرفوضة من «الشاباك»، فتواصلت مع مستشفى «أوغستا فيكتوريا»، فأعلموني بأنّهم سيتواصلون مع الارتباط في«بيت إيل»، بعد عشر أيّام حصلت على تصريح، وكان التصريح ليوم واحد، ولم أنتبه لذلك". 

وتواصل:"في اليوم التالي ذهبت لمستشفى «أوغستا فيكتوريا» وقمت بعمل تخطيط "وهو علامات لمكان تركيز العلاج"، وبعد أن أنهيت هذا التخطيط عدت إلى رام الله، وفي اليوم التالي كان مقرّرًا لي أن أبدأ بأوّل جلسة للعلاج الإشعاعيّ، فغادرت البيت إلى ’حاجز قلنديا‘، وعندما وصلت إلى الحاجز، قال الجنديّ: "ارجعي على رام الله، ما بتقدري تقطعي من الحاجز"، أخبرته أنّني أملك تصريح، قال ارجعي. أتت المجنّدة وأخبرتني أنّ عليّ العودة، وأنّني لا أستطيع عبور الحاجز، بحجّة أنّني مرفوضة من«الشاباك»، ثم حملوا الهويّة، وألقوها عليّ طالبين منّي مغادرة الحاجز، لتتابع المجنّدة حديثها بأنّ هذا التصريح هو ليوم واحد فقط، وليس لثلاثة شهور. عدتُ إلى البيت وتواصلت مع مستشفى «أوغستا فيكتوريا»، وأخبرتهم بما حدث معي، فأعلموني أنّهم سيعملون على استخراج تصريح آخر لي بشرط أن أبقى طوال فترة العلاج في مدينة القدس "تهريبًا"[16] ، وألّا أعود إلى رام الله".

وتضيف:"استمرّ المستشفى يحاول الحصول لي على تصريح مرّة أخرى لمدّة شهرين، وعند صدور التصريح قام المستشفى بحجز غرفة لي في فندق «المتربول الجديد»، حتّى أمكث فيه طوال فترة العلاج بالإشعاع وهو ما يقارب 40 يومًا. طوال فترة العلاج بالإشعاع كنت وحدي، كنت أضطّر للاستحمام وأنا متعبة وأعاني من دوار باستمرار لوحدي، أغسل ملابسي على يديّ وأنا متعبة، لأنّ إسرائيل منعت استصدار أيّ تصريح لمرافق معي. أعتبرها أنّها كانت رحلة علاج مع رحلة عذاب، مع أنّ الكيماويّ أشدّ إيلامًا، لكنّ العلاج الإشعاعيّ بالنسبة لي هو المؤلم بسبب حالة التخفّي الّتي عشتها وابتعادي عن عائلتي وأبنائي. كنت أخاف السير في طرقات مدينة القدس، خوفًا من طلب أحد الجنود هويّتي ومعرفتهم بأنّني هنا بدون تصريح. كنت أسير من الفندق إلى المستشفى متخفّيّة، وآخذ العلاج وأعود سريعًا إلى غرفتي".

لا يمكن فهم وجود الحاجز بدون فهم الوسيلة الّتي تخوّل الفلسطينيّ المرور عبر هذا الحاجز، وهو التصريح؛ ولا يمكن فهم التصريح بدون فهم آليّة الموافقة على إعطاء التصريح وهو وجود جهاز «الشاباك»...

يوضّح هذا المقطع من رواية المشارِكة رنا "س"، أنّ الدخول إلى مدينة القدس، يتطلّب ما تُعَرِّفه إسرائيل بـ ’السجلّ النظيف‘، وهو ما يعني عدم قيام الشخص أو أحد أقاربه بأيّ عمل تصنّفه إسرائيل بأنّه يضرّ بأمنها، وقد يكون هذا المنع على  خلفيّة ضرب حجارة على دوريّة عسكريّة إسرائيليّة، أو مشاركة في مظاهرة شعبيّة، وقد يصل الأمر ذروته حتّى لمجرد رأيّ يشاركه فلسطينيّ على إحدى وسائل التواصل الاجتماعيّ. تدلّل رواية المشاركة على الكيفيّة الّتي يتمّ من خلالها البناء على هذه السياسات وتشابكها كأداة لـ ’عقاب‘ الفلسطينيّ/ ة بسبب قيامه بأيّ عمل من أعمال المقاومة، أو بسبب ارتباطه بعلاقة قرابة بأحد الفلسطينيّين/ ات، الّذين تُعَرِّفهم إسرائيل بأنّهم "يضرّون بأمنها".

تستكمل المشاركة روايتها بالإيضاح بأنّه لم يسبق أن تمّ استدعاؤها للتحقيق، أو اعتقالها، في الوقت الّذي تعتقد بأنّ منعها من الوصول لمدينة القدس قد ارتبط بكون عائلتها عائلة مناضلة.

جانب آخر مهمّ لما يترتّب على هذه السياسات هو اتّخاذ بعض السيّدات قرار استئصال الثدي، حتّى عندما يكنّ في المراحل الأولى من المرض وذلك كخطوة استباقيّة خوفًا من تفشّيه في الجسد. يأتي ذلك من توقّعات النساء لما سيحدث معهنّ بسبب الحصار على قطاع غزة والّذي قد يترتّب عليه  تأخير الحصول على العلاج، أو المنع من السفر، أو انقطاع الأدوية. تتحدّث ريما "ص" والّتي أصيبت بسرطان الثدي، من قطاع غزة، عن الكيفيّة الّتي تحدّث بها الطبيب إليها ناصحًا إيّاها بأن تتّخذ قرار استئصال الثدي سريعًا حتّى لا تتأخّر بالحصول على العلاج، تقول:

"صدمني عندما قال: استأصلي الثدي كله، خيّرني بين استئصال الثدي، أو جزء منه، صرت أحكي حيّرتني يا دكتور! ردّ علي صحيح أنّك في المرحلة الأولى من المرض ولكن لا يمكن معرفة ماذا سيحدث. ستنتظرين طويلًا للحصول على تصريح أو سفر، والتأخير لن يكون في صالحك. قرّرت إجراء استئصال كامل في المشفى، لأنّني لن أجلس في انتظار دوري وإجراءات السفر". 

لقد أفرزت السنوات الطويلة من الحصار والانقسام الفلسطينيّ الفلسطينيّ توقّعات لدى النساء حول ما الّذي سيحدث معهنّ، وساهم في ذلك بعض القصص الّتي انتشرت في قطاع غزة عن نساء توفّين بسبب منعهنّ من مغادرة القطاع، كما حدث مع فرحة البيّومي، والتي مُنِعَتْ من السفر للعلاج خارج القطاع وتوفّيت إثر ذلك. هنا يصبح الخيار، جرّاء السياسات الاستعماريّة، بالنسبة للنساء بين أن أفقد جزءًا مهمًّا من جسدي كعلاج جذريّ اتّخذه كمصابة بالسرطان يقوم بالأساس على فكرة التخلّي، والتخلي عن جزء مهمّ من الجسد تُعْرَفُ من خلاله "الأنوثة" مجتمعيًّا، وليس من خلال التفكير بسبل العلاج المتوفّرة، وهذه مفارقة مهمّة جدًّا.

 

الطرق الالتفافيّة... الاستدارة الطويلة بين المعازل

أكّدت روايات بعض المشاركات الأخريات في الدراسة على سياسة استعماريّة أخرى تمثّلت بالطرق الالتفافيّة، إذ يوضّح عليّان الهندي، وهو باحث مهتمّ بالشؤون الإسرائيليّة، كيف قسّمت الطرق الالتفافيّة الضفّة الغربيّة إلى مناطق معزولة وكانتونات صغيرة لمنع التواصل بينها، وساهمت كبنية استعماريّة في تكريس التفكيك والفصل لكلّ ما هو فلسطينيّ ديمغرافيًّا وجغرافيًّا، كما كرّست هيمنة وتواصل الاستعمار الإسرائيليّ الّذي استغلّ الطرق الالتفافيّة كأداة ساهمت في عمليّة ضمّ الأراضي الفلسطينيّة ومحو وجود السكان[17]. فرضت الطرق الالتفافيّة على النساء السفر لساعات طويلة ليتمكّنّ من الاستدارة حول الطرق المخصّصة للمستوطنين بعد أن قضمت الأراضي الفلسطينيّة وأفرزت طرقًا أخرى خاصّة بالفلسطينيّين. فعلى افتراض أنّ الطريق الطبيعيّة بين «مستشفى بيت جالا» الحكوميّ ورام الله يستغرق قرابة الساعة، فإنّها تصلُ إلى قرابة ثلاثة ساعات مع الطرق الالتفافيّة، وذلك ما تتحدّث عنه لين "خ" من الضفّة الغربيّة، قائلة: "كانت الطريق طويلة جدًّا، ومكلفة جدًّا، نصف نهار في المواصلات فقط، عدا ما ندفعه للطعام، كلّ شيء كان مرهقًا".

وفي مقابلة مع المشاركة رولا "ج"، من الضفّة الغربيّة، بيّنت روايتها أنّ هذه الطرق الطويلة الالتفافية ارتبطت ببوّابة على مدخل قريتها سلواد، وهي بوابة يُغْلقها الجيش على أهل البلد ولا يتمّ فتحها إلّا في ساعات محددة، تقول:

"مرحلة علاجي في «بيت جالا» متعبة نفسيًّا أكثر منها جسديًّا؛ كنت أخرج من سلواد فتكون البوّابة عند مستوطنة «عوفرا» مغلقة، ولا تُفْتَحُ إلّا الساعة العاشرة صباحًا، وتستغرق الطريق ثلاث ساعات، عدا عن حاجز ’الكونتينر‘ الّذي يكون في كثير من الأحيان مأزومًا".

يوضّح رائف زريق كيف تعمل الطرق الالتفافيّة بوصفها أدوات استعماريّة للاحتواء والإقصاء والمحو والإنشاء، فالشارع الالتفافيّ يمزّق القرية إلى نصفين، ويربط مستعمَرتين ببعضهما من أجل الاستثمار في اقتصاد الوقت للمستعمِر، وهدر اقتصاد الوقت للمستعمَر[18]، ولئن كان هذا هدرًا للوقت لدى فلسطينيّ يعيش في جسد معافى، فإنّه ألم جسديّ ونفسيّ لامرأة فلسطينيّة تنتظر فتح البوّابة حتّى تستطيع السفر والاستدارة على هذه الطرق للوصول إلى العلاج.

 


إحالات

[1] زريق. رائف. حديث في الجزء والكل. قديتا للنشر. 10/4/2014. شوهد في 2/3/2021، في https://bit.ly/3a6ce5F.

[2] Wolf, Patrick. (1997) “History and Imperialism: A Century of Theory, From Marx to Post colonialism”. The American Historical Review, 102(2): 388-420.

[3] الناشف، سهاد ونادرة شلهوب. «الرغبات الجنسيّة في آلة الاستعمار الإسرائيليّة الاستيطانيّة. مجلّة الدراسات الفلسطينيّة. العدد 104 (2015)، ص 9-10.

[4] دعنا، طارق. "مدخل لفهم الاقتصاد السياسي للأراضي الفلسطينية المحتلة". مجلّة عمران للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة. العدد 30/8. (2019).ص 70.

[5] كيف تستخدم إسرائيل الذكاء الاصطناعيّ بالتعاون مع مايكروسوفت لمراقبة الفلسطينيّين؟، eurnews، 1/11/2019، شوهد 6/3/2021، في https://bit.ly/2LyFb0y.

[6] عبد العالي، معزوز. فوكو وميكروفيزياء السلطة. مجلة الحكمة من أجل اجتهاد ثقافي وفلسفي. شوهد في 6/3/2021، https://bit.ly/3sfeq2u.

[7] فوكو، ميشيل. المراقبة والعقاب ولادة السجن، (منشورات مركز الإنماء القوميّ، السلسلة: الأعمال الكاملة لميشيل فوكو، 1990).

[8] آرمسترونغ، أوريليا. 2021. ترجمات: ميشيل فوكو والنسويّة. باحثات لدراسات المرأة. ترجمة زينب صلاح.

[9] مستشفى الحسين الحكوميّ، أو «مستشفى بيت جالا الحكوميّ، أحد المستشفيات الحكوميّة الفلسطينيّة الأربعة عشر العاملة في الضفّة الغربيّة، في محافظة بيت لحم.

[10] هي الجهة الفلسطينيّة الحصريّة المسؤولة عن تنفيذ الشقّ المدنيّ والقانونيّ من جميع الاتّفاقات المبرمة ما بين الجانب الإسرائيليّ والفلسطينيّ، والمتعلّقة باحتياجات الناس اليوميّة من تصاريح علاج، محاكم، صلاة، أعراس، قنصليّة، تجارة، عمل أو بحث عن عمل، إلخ. 

[11] أداة تصنيف للفلسطينيّ إمّا منضبطًا وغير خارج عن القانون أو العكس، ويُفضي ذلك إلى كونه، التصريح، أداة ضبط لأنّ من يخرج عن التصنيف يمكن أن يُحكم عليه بالفقر لعدم قدرته على الوصول لأرضه أو العمل، أو بقطعٍ اجتماعيّ له من خلال فقدان القدرة على التواصل مع أقربائه في المناطق المقسّمة استعماريًّا أو حتّى المعتقلات. ويهدف التصريح إلى خلق إنسان فلسطينيّ مطابق لمعايير الاستعمار ولا يقوم بأيّ حراك سياسيّ خوفًا من فقدانه لامتياز التصريح، كما يجعله عاريًا ويشعر أنَه مراقب دومًا، ومُراقبًا لنفسه.

[12] هو حاجز إسرائيليّ عسكريّ يقع قرب بلدة قلنديا جنوب رام الله في الضفّة الغربيّة، فلسطين. أقامه الجيش الإسرائيليّ بعد الانتفاضة الثانية عام 2000 ليكون الحاجز الرئيسيّ الّذي يفصل شمال الضفّة الغربيّة عن القدس، وليشكّل أحد المداخل القليلة للأخيرة من جهة الضفّة الغربيّة والّتي تتحكم بحركة الفلسطينيّين ضمن ’جدار الفصل‘. تمنع إسرائيل الفلسطينيّين عبور هذا الحاجز باستثناء سكّان شرقيّ القدس وحمَلة تصاريح الدخول إلى إسرائيل، شرط إخضاعهم للتفتيش. كما يُعتَبر وفقًا لمنظّمات حقوقيّة أحد أكثر الحواجز الإسرائيليّة اكتظاظًا وإذلالاً من بين حوالي 100 حاجز إسرائيليّ دائم في الضفّة الغربيّة، حيث تعبر منه أعداد كبيرة من فلسطينيّي شمال ووسط الضفّة الغربيّة يوميًّا للعمل في القدس وداخل إسرائيل، أو لأمور أخرى كالتنقّل أو العبادة، يتكدّسون لساعات في طوابير طويلة.

[13] هي الجهة الّتي تناط لها مسؤوليّة التواصل مع «الارتباط المدنيّ الفلسطينيّ» حول التصاريح والمنع الأمنيّ، وعوضًا عن أن يتوجّه الفلسطينيّ إلى «الارتباط الإسرائيليّ» ليحصل على تصريح سفر أو علاج، كما كان عليه الأمر قبل ا«تّفاقيّة أوسلو»، أصبح يذهب إلى مكاتب وزارة الشؤون المدنيّة الفلسطينيّة، والّتي ترسل الطلب بدورها إلى الارتباط الإسرائيليّ، فيقرّر إذا ما كانت المعاملة مقبولة أم مرفوضة، وتقوم الشؤون المدنيّة الفلسطينيّة بنقل الجواب إلى المواطن الفلسطينيّ.

[14] مستعمرة إسرائيليّة تَقع شمال شرق البيرة مقامة على الأراضي الفلسطينيّة لأهالي البيرة ورام الله، ويقع فيها المقرّ العامّ للإدارة المدنيّة التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيليّة.  

[15] تعبّر عن آليّة التعامل في تبادل  المعلومات، واستصدار التصاريح، إلخ بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، وتحصل بموجبه إسرائيل أيضًا على معلومات من الجانب الفلسطينيّ، منها ما له علاقة بالمواليد الجدد والسكّان وغير ذلك.

[16] البقاء في مناطق تعتبرها إسرائيل ضمن حدود الدولة الإسرائيليّة بدون تصريح بالموافقة على ذلك صادر من قبل إسرائيل.

[17] أسعد، أحمد. الطرق الالتفافية الإسرائيلية: فصل المستعمَر ووصل المستعمِر. مدوّنات: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 13/7/2020. شوهد في 6/3/2021، في https://bit.ly/3J4fDR6.

[18] المصدر السابق.

 


 

نور بدر

 

 



مرشّحة دكتوراه في «جامعة تونس» في «كلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة»، تعمل على أطروحة تتناول سوسيولوجيا الحكم العسكريّ الإسرائيليّ على الأجساد الفلسطينيّة ومقاومتها. صَدَر لها كتاب بعنوان: «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة» (2021).