«التخطيط والبناء»: صناعة الجريمة في حيّ عربيّ

صورة جوّيّة لبلدة مجد الكروم | تصوير: فريد ناصر

 

 في ساعات ما بعد الظهر من السابع من كانون الثاني (يناير) عام 2022، كان عمّار ابن الثلاثة أعوام يلهو مع أبناء عمومته في حديقة القرية العامّة الّتي استغرقت المطالبة بإنشائها خمس رؤساء بلديّات متعاقبين. وصلت سيّارة بينما كان يلعب عمّار وخرج منها رجلان وبدآ بإطلاق النار صوب هدف قريب، في تلك الأثناء هرب الأطفال من الحديقة. تعثّر عمّار، ما أدّى إلى استقرار رصاصة في رأسه وأخرى في رقبته. قُتِلَ الطفل، بعد أن ظنّ أهله أنّ وجوده في حيّز عامّ يجعله آمنًا أكثر من اللعب في شارع الحيّ الضيّق. تشبه هذه الحديقة جزيرة عائمة في بحر من اللّاتنظيم والبناء غير المرخّص.

تشبه البلدات العربيّة بعضها البعض؛ من حيث الشكل والظرف والتاريخ، لكنّ دخول قرية أو مدينة غير تلك المألوفة، يُشْعِرُ بالغرابة إذا ما قُورِنَ شكلها الحاليّ بما كان عليه قبل عشرين عامًا، أو قبل إطلاق النار على بيوت الناس. 

يعيش الفلسطينيّون في اغتراب عن أماكنهم الّتي يُفْتَرَضُ أن تكون مألوفة، وفي اغتراب عن تاريخهم وطبيعيّة وجودهم على أرضهم، وذاك الوجود يختلف عن وجود أيّ شعب آخر على أرضه؛ فثمّة أثمان تُدْفَعُ لمجرّد البقاء، وجزء منها حالة الاغتراب الّتي صمّمتها إسرائيل لكنّ تطبيقها في جزء منه كان فلسطينيًّا، حتّى الّذين يشكون وضعهم لعبوا دورًا في جعل حالة الاغتراب واقعًا، وإن كان دورًا سلبيًّا.

 

التنظيم السياسيّ للمكان شكلًا ووظيفة

يشبه المكان أهله، وتلك ليست فكرة رومانسيّة؛ فيخدم مكان السكن حاجة الإنسان، وعليه يكون شكل المكان عاكسًا لهذه الحاجة، ومثال ذلك شرفات بيوت حيفا وبيروت وعكّا المطلّة على الغرب لوقوعها على شرقيّ المتوسّط. كذلك البيوت القديمة في قرى الشمال والّتي تضمّنت مسالكَ سرّيّة في ما بينها لتوصيل الطعام إلى الثوّار.

يعكس شكل البيت إذن حاجات الناس منه، وكذلك يعكس الواقع السياسيّ الّذي ساد فترة البناء أو تصميم البيت؛ فمثلًا، كانت بيوت حيفا قبل ثورة 1936، مليئة بالتفاصيل والزركشات الأنيقة، لكنّ تحوّل عمّال البناء إلى ثوّار أثّر في قطاع البناء، ما انعكس على تلاشي التفاصيل في بعض الأحيان، أو قلّتها.

العمارة عمل وقرار سياسيّ قبل كلّ شيء، وأنّ العامل السياسيّ في هذا الإطار يشكّل نقطة مركزيّة؛ حيث أنّ كلّ تخطيط يحدّد حجم وشكل المباني، وحقوق البناء والموافقات تأتي بقرار سياسيّ

إذن، يشكّل الواقع السياسيّ، السلطة الحاكمة وكذلك الحاجة من البيت، عوامل رئيسيّة تؤثّر على تصميم البيت نفسه؛ إذ يرى المعماريّ أيمن طبعوني، وهو باحث في العمارة وتصميم المدن، أنّ "العمارة عمل وقرار سياسيّ قبل كلّ شيء، وأنّ العامل السياسيّ في هذا الإطار يشكّل نقطة مركزيّة؛ حيث إنّ كلّ تخطيط يحدّد حجم وشكل المباني، وحقوق البناء والموافقات تأتي بقرار سياسيّ". ومن هنا يمكن القول إنّ النظام السياسيّ المهيمن يملك القدرة على توجيه نمط العمارة وفقًا لرؤيته وللطريقة الّتي يريد من خلالها توجيه وصنع شكل حياة مجموعة معيّنة من السكّان؛ أي إنّ مستقبل هذه المجموعة السكّانيّة يصبح مرهونًا لرؤية الدولة. وفي حالة الأقلّيّة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948، فإنّ شكل الحياة المفروض على هذه الأقلّيّة الأصلانيّة يشي به تخطيط المكان أحيانًا وغياب التخطيط في أحيان أخرى وتلك الحالة الغالبة. كلا الحالتين تعزّزان العنف، سواءً التخطيط الموجّه أو عدمه، وهو بهذه الحالة موجّه أيضًا، وهذا ما ستركّز عليه هذه المقالة لاحقًا.

في السنوات الأخيرة يحكم العنف حيّزًا واسعًا من حياة الناس، ومخاوفهم، والأخبار اليوميّة الّتي يتردّد فيها حديث مكرّر فيه يلقي القادة العرب بالمسؤوليّة كاملة على الشرطة، في حين تدّعي الشرطة أنّ العرب لا يتعاونون معها، وقد وصل الأمر بوزير الأمن الداخليّ الإسرائيليّ الأسبق، جلعاد أردان، أن اختصر المسألة عام 2019 بقوله إنّ الثقافة العربيّة ثقافة عنيفة.

في حديثه عن مفهوم ’ضرورة العدوانيّة وتوجيهها‘، يرى عالم الاجتماع الفرنسيّ غوستون بوتول، أنّ إحدى المميّزات الأساسيّة لكلّ حضارة هي الطريقة الّتي تدرك بها العدوانيّة وتنظّمها؛ فإلى جانب مفهوم تنظيم العدوانيّة الجماعيّة وتوجيهها الّذي يعتقد بوتول أنّه الحقّ الأعلى للسلطة، يشير إلى نقطة مركزيّة ممتدّة من نظريّة ابن خلدون الاجتماعيّة، والّتي ترى أنّ أحد الأدوار الرئيسيّة للدولة يكمن في تقييد العنف بهدف الاستئثار به واستخدامه، وأنّ معيار الدولة السيّدة في القانون الدوليّ هو سلطتها كلّ حين في إطلاق جماح العنف المنظّم، وفي مهاجمة مَنْ تشاء وحين تشاء.

 

يا جار "تتفضّلش"

شوارع ضيّقة، سيّارات الطبقة الوسطى تصطفّ على جانبيّ الطريق، بوّابات حديديّة تحجب البيوت عن الشارع كما لو أنّها سجون محصّنة تحيطها أسوار تعلوها كاميرات مراقبة، وأحيانًا لكسر الجمود تطلّ من وراء البوّابة نخلة يتيمة.

في الماضي، قبل إطلاق النار العشوائيّ على البيوت، كانت البيوت في البلدات العربيّة مفتوحة على الحيّز العامّ، كانت أسوار البيوت قصيرة، يهدف وجودها إلى إبراز حدود البيت فقط؛ المشهد متنوّع الألوان ومجال الرؤيا مفتوح، أمّا اليوم لا ألفة، لا حيّزًا عامًّا ولا ’تفضّل يا جار‘. حتّى الحيّز الخاصّ- العامّ إنْ صحّ الوصف، مثل سلوك أن تجلس في حديقة بيت مفتوحة على الشارع تشرب فنجان قهوة مع جارك وتدعو الجار الآخر للانضمام، حتّى هذا السلوك آخذ بالانحسار في القرى والبلدات العربيّة؛ فالحديقة أصبحت ساحة باطونيّة مغلقة ببوّابة حديديّة تحجب الخاصّ عن العامّ، وشبّاك المنزل الّذي كان يطلّ على الجار مُمَكِّنًا من إلقاء التحيّة على الجيران أو دعوتهم إلى المنزل أصبح يطلّ على سور البيت المرتفع الصامت الّذي يحجب الناس عن بعضهم. هكذا يقلّ التواصل البشريّ، فيقلّ الانخراط المتبادل حتّى في الحيّز العامّ، ما يمكن وصفه بشكل من أشكال التقوقع الذاتيّ للأفراد، الّذي سيؤدّي في ما بعد إلى حالة من اللا مبالاة، الّتي لو مُزِجَت بالخوف، لأصبحت حالة اغتراب تفضي بصاحبها إلى عدم الحركة أو الإتيان بأيّ فعل، حتّى لو سُمِعَ صوت إطلاق النار عند الجيران.

تطوّر شبكة الطرقات بشكل تراكميّ شبه عشوائيّ من دون تخطيط مسبق، قد خلق طرقًا معقّدة لا تشجّع على المشي أو التنزّه، ولا تلتزم بأدنى المعايير الأوّليّة للأمان...

في بعض الحالات تُلْغى الحديقة ويحلّ محلّها بيت جديد للابن؛ فيختفي الحيّز الخاصّ المفتوح على العامّ، ويختفي اللون الأخضر تدريجيًّا. ليس ثمّة غير شرفات باطونيّة متراصّة قبيحة، وتلك المظاهر الغائبة تسهم في تغيير شكل المكان الّذي بدوره ينعكس على سلوكيّات الأفراد. يقول المحامي ومخطّط المدن أمل عرابي: "ثمّة لشكل الحيّز تأثير مباشر في إحساسنا بالأمان، وثمّة أبحاث تشير إلى أنّ وجود عوامل معيّنة في الحيّز العامّ مثل إنارة الطرق، الأرصفة الفاصلة بين العامّ والخاصّ، المساحات العامّة الصغيرة داخل الأحياء السكنيّة، وحتّى المحالّ التجاريّة الّتي من شأنها أن تضمن وجود عيون على الطريق لضمان سلامة المارّة ومدّ يد العون والمساعدة لهم؛ هذه كلّها عوامل من شأنها أن تسهم في زيادة الشعور بالأمان ومن ثمّ تقليل أعمال العنف". ويضيف عرابي: "إنّ تطوّر شبكة الطرقات بشكل تراكميّ شبه عشوائيّ من دون تخطيط مسبق، قد خلق طرقًا معقّدة لا تشجّع على المشي أو التنزّه، ولا تلتزم بأدنى المعايير الأوّليّة للأمان، ولهذا السبب ترتبط العائلة العربيّة بالسيّارة، وذلك بدوره يقلّل الحركة البشريّة في الحيّز العامّ".

 

في البدء كانت الأرض

في البدء كانت الأرض، كانت بيوت الناس، الطرق الواسعة، الأرض المقتطعة من القرية المسمّاة بـ «البيادر»، وهي مكان اللقاء والسمر ليلًا والعمل صباحًا، وكانت جزءًا ممّا يُعْرَفُ بـ «أرض المشاع»، أي أنّها ملكيّة عامّة. وعندما قامت دولة الاستعمار، صادرت من أرض بلدة سخنين 70%، ومن أراضي مدينة أمّ الفحم 83%، وتركت لأهالي قرية عرعرة 10 آلاف دونم من أصل 36 ألفًا. في ذلك الحين كانت أعداد السكّان أقلّ ممّا هي عليه الآن بأضعاف، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ المصادرة الاستعماريّة للأرض، وإن حدثت في شكلها الأوسع عام 1948، إلّا أنّها مع ذلك استمرّت تدريجيًّا بحجّة المشاريع القطريّة مثل «مشروع المياه القطريّ» الّذي صادر آلاف الدونمات الّتي تعود ملكيّتها لبلدات عربيّة على طول الخطّ من بحيرة طبريّا حتّى النقب، و«شارع 6» الّذي صادر أراضي باقة الغربيّة والطيّبة والطيرة، وغيرها من المدن والبلدات العربيّة.

 

لنتخيّل شكل اللقيّة عام 2035

تستمرّ إسرائيل في تطبيق سياساتها الّتي طبّقتها على مدار 70 عامًا في المثلّث والجليل على النقب اليوم، وهي سياسة ضغط العرب داخل كانتونات مغلقة، سواءً عن طريق مصادرة الأراضي أو تحريشها، وعندما تقرّر الاعتراف بقرية من قرى النقب تفرض على أهلها شروطًا تعجيزيّة لتحصيل الاعتراف؛ فمثلًا، توقّفت المفاوضات للاعتراف بثلاثة قرى في النقب وهي خشم زنّة وعبدة ورخمة، بسبب عدم قبول الأهالي بشروط وزيرة الداخليّة إيليت شاكيد، الّتي تفرض على أهالي خشم زنّة انتقالهم وأهالي قرى محيطة بهم إلى منطقة أخرى لا تتجاوز مساحتها 2500 دونم، في حين تملك خشم زنّة وحدها في موقعها الأصليّ ما يزيد عن 15 ألف دونم، الأمر الّذي - لو انتقل الأهالي بالفعل - سيدفع باتّجاه اقتتال داخليّ على الأرض بين العشائر المختلفة؛ فالعشيرة إن انتقلت من أرضها لأرض عشيرة أخرى لن تحفظ مكانها الأوّل ولن تملك المكان الجديد، ولن تقبل العشيرة الثانية مقاسمة أرضها مع عشيرة أخرى، وهذا من شأنه أن يفضي إلى عنف ولو بعد حين.

من المتوقّع أن يصل عدد المواطنين العرب في النقب إلى نصف مليون نسمة خلال 15 عامًا؛ إذ يبلغ عددهم الحاليّ 300 ألف نسمة يعيشون على 400 ألف دونم، وهي 3% من أراضيهم الأصليّة الّتي تعمل إسرائيل على مصادرة مساحات شاسعة منها من خلال «مشروع سكّة القطار» في منطقع النقع، فالمشروع يمتدّ من مدينة بئر السبع حتّى ديمونا، ومن المتوقّع مصادرته لـ 15 ألف دونم، إضافة إلى مخطّط «شارع 6» الممتدّ من قرية أمّ بطين إلى قرية صواوين، والّذي في حال تنفيذه سيهجّر قرابة الـ 5000 عائلة، و«مشروع خطوط الضغط العالي للكهرباء» الّذي سيصادر في حال تنفيذه أراضي قرية وادي النعم. إذن، فالمصادرة فعل مستمرّ يعمل على تقليص مساحة الأرض المملوكة عربيًّا.

 

مدينة أمّ الفحم | تصوير أنس أبو دعابس

 

تعكس قرية اللقيّة الّتي اعترفت بها إسرائيل عام 1994، ويعيش فيها 20 ألف نسمة على مساحة 5000 دونم، مثالًا عن مفهوم القضاء على الحيّز العامّ وتوجيه شكل حياة الناس وطبيعتها. فمن جهة الشمال الشرقيّ للقرية سيشكّل مخطّط «شارع 6» حدًّا يمنع توسّع القرية، وفي المنطقة ذاتها أقيمت مستوطنة «كرميت» الّتي تمنع امتداد اللقيّة الطبيعيّ في اتّجاه الضفّة الغربيّة الّتي تبعد عنها فقط سبعة كيلومترات. أمّا من جهة الجنوب فمن المخطّط إنشاء قاعدة استخباراتيّة «لاكيت»، الّتي ستوفّر مساكن لـ 15 ألف جنديّ، وسيضمن وجودها مصادرة أراضي تابعة للقيّة، إضافة إلى توفير وجود عسكريّ في منطقة إستراتيجيّة. في المنطقة ذاتها سيكمل «الصندوق القوميّ الإسرائيليّ - ككال» تحريش ما تبقّى من أراضٍ يمكن استغلالها لتوسّع اللقيّة بشكل طبيعيّ، علمًا بأنّ المنطقة الغربيّة للقرية منطقة جبليّة وتقع ضمن الخارطة الهيكليّة لمدينة بئر السبع.

لنتخيّل شكل اللقيّة عام 2035، وهي لا تزال في حدودها الضيّقة الحاليّة؛ العائلات تكبر ويزداد التعداد السكّانيّ بشكل طبيعيّ، في حين أنّ الخرائط الهيكليّة لا تتوسّع والأرض تتقلّص، بينما عدد الناس في ازدياد. في بعض الأحيان، وفي غالبيّة القرى والبلدات العربيّة، اضطّر الناس إلى البناء على أراضٍ زراعيّة، وأعقب البناء عمليّات هدم نفّذتها الدولة بحجّة البناء غير المرخّص، وقد زرت مرّة بيتًا هُدِمَ في إحدى بلدات المثلّث، وأخبرني شابّ في العشرينيّات من عمره، كان عرسه على بعد أشهر من يوم الهدم، أنّه عمل لسنوات سبعة أيّام أسبوعيًّا في محلّ غسيل سيّارات ليتمكّن من بناء البيت الّذي هدمته آليّات دولة الاستعمار.

 

تخطيط مئة دونم يحتاج إلى عشرين عامًا

تنتظر بلدة عرعرة لعشرات السنوات من أجل الحصول على تخطيط يوسّع خارطتها الهيكليّة من دولة الاستعمار، في حين تتوسّع «حريش» الصهيونيّة ضمن عمليّة تخطيط مستمرّة ينتج عنها توسّع عمرانيّ شديد الوضوح. يعتقد المهندس فادي سمارة المختصّ في مجال المواصلات والمطّلع على مجال التخطيط والبناء "أنّ الخرائط الهيكليّة في البلدات العربيّة تأخذ وقتًا طويلًا، في حين أنّ القرار بإصدار الخارطة من عدمه قرار سياسيّ؛ فقد استغرقت بلديّة الطيرة 20 عامًا من أجل استصدار الخارطة الهيكليّة، ناهيك عن المرحلة التالية، وهي استصدار الخارطة التفصيليّة".

حالة الاغتراب الّتي صمّمتها دولة الاستعمار بين العرب وحيّزهم العامّ تأتي من عدم قدرتهم على تطوير المكان ليخدم حياة الناس بمعناها المدنيّ...

يضيف سمارة "أنّ المشكلة العمليّة الّتي تتسبّب بتأخّر التخطيط في البلدات العربيّة هي أنّ ملكيّة الأراضي في البلدات العربيّة ملكيّة خاصّة، وللتوضيح، لنفترض أنّنا قرّرنا تخطيط مساحة مئة دونم في بلدة عربيّة ما، سنجد أنّ عدد المالكين في هذه المساحة قد يصل إلى مئة شخص أو أكثر، ولكلّ قطعة من هذه الأراضي وضع خاصّ ينتج عنه مشاكل متعدّدة، منها أن يكون بعضها غير مسجّل في الطابو باسم صاحب الأرض الحاليّ، بل باسم المالك الأوّل كالجدّ مثلًا، وتلك أحسن الحالات، وقد تكون مسجّلة باسم شخص لا تكون بينه والمالك الحاليّ أيّ صلة. هنا تصبح عمليّة إثبات الملكيّة عمليّة معقّدة، ويخلق تعدّد المالكين تعدّدًا في المصالح والطلبات المختلفة بين أصحاب الأراضي المجاورة؛ ما ينتج عنه اعتراضات وخلافات طويلة الأمد تؤثّر سلبًا في مدّة مرحلة التخطيط ونجاعته. إضافة إلى مشاكل البناء غير المرخّص الّذي لم يأخذ بالحسبان الحقّ العامّ، ما سيضطّر المخطِّط إلى أخذ مساحة أكبر من أراضي بقيّة الناس في الحيّ لصالح الحقّ العامّ – الّذي من المفترض بحسب القانون أن يقتطع 40% من الأراضي – ما ؤدّي إلى مشاكل إضافيّة. في المقابل، ثمّة مالك واحد للأرض في البلدات اليهوديّة، وهي ’سلطة أراضي إسرائيل - منهال‘ ولذلك تكون مدّة التخطيط أقلّ بكثير وأيضًا مدّة التنفيذ".

من هنا يمكن القول إنّ قانون «التخطيط والبناء»[1] الاستعماريّ تطبيق لشعار الصهيونيّة الأوّل: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، أكثر من كونه قانون تخطيط مدنيّ في دولة عاديّة يملك مواطنوها الأرض ويتوارثونها بشكل طبيعيّ، مع الأخذ بالاعتبار مشاكل الوراثة والتقسيم عند العرب، الّتي تساهم في إعاقة التخطيط، وهي مشاكل تسبّب بها فعل مصادرة الأراضي العائليّة الموسّعة، ما أدّى إلى الاقتتال على ما تبقّى من الأرض وصعوبة التوسّع، الأمر الّذي اضطرّ بالبعض إلى البناء بطريقة غير مرخّصة، أو اللجوء إلى بلدات مجاورة، وثمّة فئة لا بأس بها اتّجهت إلى العنف والجريمة، فرفع أبناء العمومة السلاح في وجه بعضهم البعض بسبب قطعة أرض، وانتشر البناء غير المرخّص؛ وبذلك أصبحت الأرض وندرتها بوصفها موردًا أساسيًّا - وتلك الندرة تسبّب بها فعل المصادرة الاستعماريّ - أحد أهمّ أسباب انتشار العنف والجريمة في المجتمع الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة عام 1948.

 

الأرض والجريمة

هنا تظهر العلاقة المباشرة بين احتلال الأرض والسيطرة على الحيّز العامّ من جهة، وبين جريمة القتل من جهة ثانية؛ فحالة الاغتراب الّتي صمّمتها إسرائيل بين العرب وحيّزهم العامّ تأتي من عدم قدرتهم على تطوير المكان ليخدم حياة الناس بمعناها المدنيّ، إضافة إلى أنّ التطوّر الحضريّ للمكان، سواءً كان لقرية أو لمدينة فلسطينيّة، لا صيرورة طبيعيّة له. إحدى الأمثلة الجليّة على ذلك عمليّة التخريب الّتي تتعرّض لها أحيانًا الحدائق العامّة إن وُجِدَت في البلدات العربيّة، أو إحراق حاويات القمامة وتخريب أعمدة الإنارة في سياق مظاهرة ما، وذلك ليس لأنّ العرب يحبّون التخريب كما تدّعي إسرائيل، بل لأنّهم يعتبرون التنظيم الاستعماريّ للمكان، مكانهم، تدخّل في حيّزهم العامّ المحرومين من تخطيطه، فيفجّرون غضبهم على المكان عينه لعدم شعورهم بالانتماء إلى مكان لا يستطيعون تنظيمه بأنفسهم. إضافة إلى احتواء الأمكنة العامّة على كاميرات المراقبة الّتي يهدف تخريبها، الّذي يشمل تخريب أعمدة الإنارة، إلى ضمان سلامة المتظاهرين.

يخضع الحيّز العامّ الآن لفوضى التنظيم الموجّه، وإن اعتقد البعض أنّ هذه الفوضى سببها أهل المكان، خاصّة عند التفكير بالّذين يضمّون جزءًا من الحيّز العامّ لحيّزهم الخاصّ، إلّا أنّهم جزء من واقع لا يحكمه قانون تنظيم وبناء مدنيّ، ويمكن القول إنّ القانون لا يأخذ تاريخهم ولا صيرورة نموّ البناء العمرانيّ أو مستقبلهم في الاعتبار؛ فالقانون بالأصل صُمِّمَ استنادًا إلى تفكير بالواقع يعتبر أنّ الأرض غير مملوكة لأحد، أي أنّها أرض بلا شعب، وبذلك ينظّم وجود الناس على الأرض كما لو كانت مملوكة من قبل «سلطة أراضي إسرائيل - المنهال»، وكما لو أنّ أجداد الفلسطينيّين لم يوجَدوا أبدًا ولم يورّثوا الأرض لأبنائهم وبناتهم.

تنعكس فوضى التنظيم هذه على شكل الأحياء والبيوت وضيق مساحة التنفّس داخلها. ليس ثمّة أمكنة للعب الأطفال، فاختفوا من الحيّز العامّ، وأصبح المشي في أيّ بلدة عربيّة سلوكًا غير شائع؛ فالشوارع في ظلّ الأسوار العالية أصبحت موحشة مع غياب مشهد السكّان يشربون قهوتهم ويصدرون ضجيجًا يبعث على الأمان. هيّأ غياب هذه المشاهد البلدات العربيّة لتكون مساحة آمنة لارتكاب جرائم إطلاق النار أو القتل، حتّى مع وجود كاميرات المراقبة الّتي لا تردع القاتل، الّذي هو أيضًا ضحيّة بشكل ما، لعدم وجود تخطيط يضمن وجود مناطق عمل له يكسب من خلالها قوت يومه، كما أنّه ضحيّة من ضحايا الاستيلاء الاستعماريّ على أرض جدّه عام 1948 وبعده، والّتي توزّع ما بقي منها على عدّة إخوة أنجبوا عشرات الأحفاد الّذين يقتتلون على بضعة دونمات.

 


إحالات

[1] سُنّ «قانون التخطيط والبناء» عام 1965، ويهدف إلى تنظيم نشاط مؤسّسات التخطيط في إسرائيل، من المستوى القطريّ حتّى المستوى المحليّ، تأسّست بموجبه «اللجنة القطريّة للتخطيط والبناء»، وأيضًا «اللجان اللوائيّة للتخطيط والبناء». وقد دخل في 25 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2017، التعديل رقم 116 للقانون، والّذي أدّى إلى زيادة شدّة العقوبات وصرامتها على بعض مخالفات البناء، وسرعة تنفيذها من خلال أوامر وغرامات إداريّة، وذلك دون تقديم ’المواطن‘ حتّى للمحاكمة الجنائيّة، كما يقضي القانون بدفع مبالغ باهظة الثمن قد تبلغ مئات آلاف أو ملايين الشواكل، وإيقاف استخدام المبنى أو إغلاقه، ومطالبة القاطنين بإخلاء بيوتهم أو محالّهم، أو إصدار أوامر هدم.

 


 

منى عمري

 

 

 

صحافيّة فلسطينيّة، مهتمّة في تأثير الصورة والعلاقات الاستراتيجيّة الدوليّة.