"لاغرانج بوينتس"... معمل للثقافة العربيّة في بروكسل

«لاغرانج بوينتس» في بروكسل

 

«لاغرانج بوينتس»، هي نقاط يتحقّق فيها التوازن في ميكانيكا الأجرام السماويّة، خارجة عن مدى جاذبيّة جُرْمَين سماويّين كبيرين نسبيًّا، وفيها تنعدم الجاذبيّة المشتركة على جُرْم أصغر حجمًا، ما يجعله يتبع حركة الجسمين السابقين. بيد أنّ ما نحن بصدده الآن ليس مقالًا علميًّا، أنت الآن في بلجيكا، وفي حيّ بروكسليّ، قريبًا من المحطّة الجنوبيّة للمدينة، وعلى بعد بضع دقائق منها في زقاق قد يكون منسيًّا إلّا لأهله وساكنيه، ترحّب بك نافذة عرضها بعرض واجهة المبنى مقدّمة لك بطاقتها التعريفيّة، تدعوك إلى مشروب ساخن أو جعّة فلسطينيّة في مدينة تحتوي على ما يقارب ثلاثة آلاف نوع من الجعّة المحلّيّة، مع مزيج من أغانٍ عربيّة من طيف واسع، يبدأ من الشيخ إمام ويمتدّ إلى عمرو دياب، مرورًا بالسيّدة فيروز وماجدة الرومي وسعاد ماسي، وغيرهم، وكتب بعناوين لافتة تسرق منك نظرك لتقتنيها أو تقرأها خلال ’قرقرة‘ المتّة؛ مكتبة تقع في فلك الهويّة العربيّة والحضارة الأوروبّيّة وتتأثّر بجاذبيّتيهما.

 

بؤرة عربيّة

"‘لاغرانج بوينتس‘ بدأ كحلم وفكرة قبل بضعة أعوام وبتمويل صفريّ"، يقول فراس أبو دبّوسة، أحد مؤسّسي المشروع، الّذي قصد بلجيكا عام 2013، في إطار منحة لدراسة ماجستير العلوم السياسيّة، والّذي التقيته في إحدى زياراتي الأخيرة إلى بروكسل، راويًا لي حكاية «لاغرانج بوينتس»: "كيف لنا أن نتحدّث عن أنفسنا دون الخوض في السياسة؟ عادة عند الخوض في هويّتنا سنتطرّق للسياسة حيث يميل الحديث للابتذال والقوالب المستهلكة. ما بدأنا به كان بؤرة عربيّة في بروكسل تحاول البروز؛ لأنّ المشهد في المدينة للعربيّ هي الصورة النمطيّة السلبيّة للمغاربة تحديدًا".

 

من فعاليّات «لاغرانج بوينتس» 

 

يضيف أبو دبّوسة: "درست في دمشق العلوم السياسيّة، وحتّى تفهم السياسة عليك ممارستها، وكشخص شهد دمًا كثيرًا وقتلًا خلال دراستي؛ فقدت علاقتي بالعمل السياسيّ؛ هزّني ما حدث في سوريا وفلسطين، ووجدت دور الكتّاب والمثقّفين والمفكّرين والنخب الثقافيّة فارغًا؛ إذ كانوا لا يزالون يرفعون شعارات جوفاء، وسيناريوهات غير قابلة للتحقيق، وتلفّها المثاليّات وتمتلئ بالتنظير وتفتقر إلى الممارسة والتطبيق، وكانت فرصة في موجة اللاجئين القادمين إلى أوروبّا لتجسيد مكان حقيقيّ، يضيف إلى شخصيّة العربيّ أمام الأوروبّيّ الّذي لا يرانا إلّا طفيليّات تستنزف مواردهم أو طامعين في مواقع عملهم ونسائهم".

 

التشكّل

وحول الطموح الّذي دفع نحو تأسيس المشروع، وسيرورة تشكّله، يقول أبو دبّوسة: "همّي كان أن أحضر مزيدًا من الكتب لتتّسع دائرة إدراك الأوروبّيّ من جهة، وترويج اللغة العربيّة بشعرها ونصّها وفنّها، لهذا الهدف، ولم يكن أمامي حينذاك إلّا السوق الإلكترونيّ الّذي لا يصلح لتزويد هذه البؤرة بالكمّ الكافي من الكتب؛ لارتفاع السعر وبطء التسليم، وما إلى ذلك من معوّقات. ناقشت الفكرة مع أصدقائي آنذاك؛ ديمة دعيبس الّتي أصبحت شريكتي لاحقًا، وهاشم إبراهيم، وكاتيا الجبرائيل، وهانيبال سعد، ولوري باتن، وكان العائق الرئيسيّ هو التمويل؛ إذ لا نملك إلّا ما يكفينا؛ فقد بعنا كلّ ما نملك لنخرج من سوريا، كما أعاقتنا البيروقراطيّة في أوروبّا والمؤسّسات بشكل عامّ للحصول على منحة من شأنها تطلق فكرة المكتبة، خطرت لنا فكرة التمويل المجتمعيّ (Crowdfunding)، فالمكتبة في النهاية للناس والجمهور، العربيّ والأوروبّيّ. أطلقنا حملة لتأسيس المكتبة، وطلبنا عشرة آلاف يورو بعد تأسيس جسم المؤسّسة. كان للحملة هدف آخر غير التمويل، كان الهدف أيضًا ترويج الفكرة على نطاق أوسع".

 

تحدّيات التأسيس

وحول منهجيّة العمل في المشروع والتحديات الّتي واجهت مؤسّسيه، يقول أبو دبّوسة: "يعتمد عملنا على التطوّع بشكل أساسيّ، ويمكن حصر الفريق بـ 24 شخصًا، وهيئة فنّيّة استشاريّة من ثمانية عشر فنّانًا. امتدّت شراكاتنا الثقافيّة لتشمل حتّى ستّ عشرة مؤسّسة حتّى الآن، منها ‘القوس للتعدّديّة الجندريّة والجنسيّة‘ في فلسطين، و’السمندل‘ في لبنان، و’منشورات المتوسّط‘، وغيرها".

ويوضح أيضًا: "واجهتنا ثلاثة تحدّيات في البداية: أوّلها المجتمع الأوروبّيّ وتأطيرنا مجموعةَ لاجئين، وثانيها المجتمع البروكسليّ العربيّ ووَصْمِنا بالمكتبة العلمانيّة، وثالثًا انعدام خبرتنا كمجموعة في الإدارة الثقافيّة. لم نُعِرِ اهتمامًا مباشرًا لمحاولات التأطير؛ فقد تشكّلت الهويّة بحسب ما قدّمنا للجمهور من فعاليّات ونشاطات كانت إدارتنا تعتمد على التجربة والخطأ بالأساس".

 

فراس أبو دبّوسة

 

البيت

وحول مقرّ «لاغرانج بوينتس» يقول أبو دبّوسة: "بدأنا نبحث عن بيت لنا، إلى أن تعرّفنا مؤسّسة تُدْعى Moussem، تطلق مهرجانًا سنويًّا يحتفي بمدينة عادة ما تكون عربيّة، تحتضن إقامات وإنتاجات فنّيّة، وكانت ’لاغرانج بوينتس‘ نقطة لقاء دمشق في بروكسل عام 2019، حيث وقع الاختيار على العاصمة السوريّة ليُحْتَفى بها".

يضيف أبو دبّوسة: "منحونا ستّة آلاف يورو لننتج بها موادّ للمهرجان، ووفّروا لنا مكانًا مؤقّتًا لمدّة شهر ونصف، وبعدها ذاع صيتنا في الوسط الثقافيّ البروكسليّ، وبعد انقضاء المهرجان أخذنا نبحث عن مكان جديد. وفّرت لنا إحدى المؤسّسات مكانًا صغيرًا لبضعة أشهر حتّى وجدنا عنواننا الحاليّ. كان افتتاحنا في 14 كانون الأوّل (ديسمبر) 2020 في هذا الموقع، الحفل كان أمسية موسيقيّة أدّت فيها غالية بن علي وعدد من الموسيقيّين اللامعين، بلغ الحضور حينذاك نحو 150 شخصًا. منذ ذلك الحين انطلقت نشاطاتنا بشكل أكثر منهجيّة بهويّة عربيّة شرقيّة عالميّة".

 

رغم حقل الألغام

«لاغرانج بوينتس» أقامت أكثر من ستّين نشاطًا وفعاليّة حتّى الآن، واستضافت نحو الأربعين نشاطًا لفنّانين عرب وأوروبّيّين من المقيمين في بروكسل، بالإضافة إلى ما يزيد على العشرين نشاطًا رقميًّا – أون لاين، وأصبحت عنوانًا ومعملًا للأفكار العربيّة في عاصمة الاتّحاد الأوروبّيّ، ومنصّة فاعلة تلامس السكّان المحلّيّين لا للعرب حصرًا.

رغم حقل الألغام المحيط استطاعت هذه المكتبة إثبات وجودها مراعية الصوابيّة السياسيّة وحساسيّة العلاقات الدوليّة في الشارع البروكسليّ. لم يكن همّ المكتبة تمثيل قالب ’مختلف‘ للعربيّ ليناسب نسيج أوروبّا؛ عربيّ يقبل التعدّديّة ومفتوح للآخر، لكن هذه كانت النتيجة لخلوّ رفوف المكتبة من التصنّع.

 

من فعاليّات «لاغرانج بوينتس» 

 

لم يأخذ هذا الجسم موقعه الحاليّ بخطّة مدروسة بقدر ما كانت نتيجة السعي إلى تغيير مدارك المحيط الأوروبّيّ حوله، لم تكن الشهرة أو المال محرّكه الأساسيّ، فما تحصل عليه المكتبة من تمويل من منح تنتج به عروضًا وفعاليّات مفتوحة للسابلة غالبًا، بما تسمح به إجراءات الصحّة المتقلّبة في بروكسل هذه الفترة.

 


 

حمزة أبو عيّاش

 

 

فنّان متعدّد الوسائط. درس الفنون الجميلة في جامعة النجاح الوطنيّة - نابلس. شارك في العديد من المشاريع والمعارض الجماعيّة، بالإضافة إلى مشاركته في أعمال مسرحيّة، تمثيلًا وإنتاجًا. يهتمّ بفنّ الجرافيتي، وتحديدًا الحروفيّات.