«نظام التفاهة»... كن راديكاليًّا لتنجو

 

شيرين تقصّ شعرها

اجتاحت قضيّة حلاقة الفنّانة شيرين شعرَها قبل أسابيع، منصّات التواصل الاجتماعيّ والبرامج التلفزيونيّة والإذاعيّة، وظهر علينا المحلّلون الّذين حاولوا تفسير تصرّفها؛ منهم مَنْ عزا الأمر إلى أزمة نفسيّة تمرّ فيها، ومنهم مَنْ تحدّث عن مدلولاته الاجتماعيّة، وآخرون تطرّقوا إلى الرسائل المباشرة وغير المباشرة لمثل هذا التصرّف، وغيرها من كتابات وتكهّنات وتأويلات، وقد رافق هذا الحدث ’المفصليّ‘ كمّ هائل من التعقيبات، بين مؤيّد ومعارض. في خضمّ هذا الضجيج والصخب الفارغ، حضرني كتاب «نظام التفاهة» واسع الانتشار، للمفكّر المستنير والعضويّ، أستاذ الفلسفة الكنديّ آلان دونو، الصادر عام 2015، والّذي تُرجِمَ إلى لغات عدّة منها العربيّة.

صدرت الترجمة العربيّة عام 2017 عن «دار سؤال للنشر» في لبنان، وقد أنجزتها مشاعل الهاجري، أستاذة القانون في «جامعة الكويت»، ورئيسة تحرير «مجلّة الحقوق» في الجامعة نفسها. وكانت عملت محاضرة زائرة في «مدرسة العلوم السياسيّة» في فرنسا.

تجوب الهاجري في مقدّمتها بين الموضوعات بعمق وتمكّن كبيرين، وتمثّل بذلك ثقافة شموليّة كونيّة بعيدة كلّ البعد عن الضيق المعرفيّ الّذي ينتقده دونو في الكتاب...

ترافق الطبعة العربيّة مقدّمة طويلة تقع في 65 صفحة كتبتها الهاجري، تتطرّق من خلالها لقضايا عدّة، منها سبب ترجمتها للكتاب وأهمّيّته، وإلى عمليّة الترجمة وتحدّياتها، وعن الأطروحات الكبرى للكتاب. تعكس المقدّمة عمقًا فلسفيًّا وفكريًّا مثيرًا للإعجاب، يؤكّد أنّ كاتبتها على اطّلاع واسع على مجالات عديدة ومتنوّعة، منها الأدب الكلاسيكيّ والحديث العربيّ والعالميّ، والفلسفة العربيّة واليونانيّة القديمة، والفلسفة الأوروبّيّة المعاصرة، وعلم الاجتماع، والسياسة، وغيرها.

تجوب الهاجري في مقدّمتها بين الموضوعات بعمق وتمكّن كبيرين، وتمثّل بذلك ثقافة شموليّة كونيّة بعيدة كلّ البعد عن الضيق المعرفيّ الّذي ينتقده دونو في الكتاب، ويشير إليه على أنّه من الآفات الّتي يعاني منها عالمنا المعاصر بشكل عامّ والأكاديميا بشكل خاصّ، الّتي من المفترض أن تكون عكس ذلك لأنّها مؤسّسة معرفيّة.

 

كسالى

إلّا أنّ فيروس التفاهة قد انتقل إلى كلّ المرافق، ولم تَنْجُ منه الأكاديميا والجامعات والمؤسّسات البحثيّة، بحسب دونو؛ فقد باتت الأبحاث محدودة، مجزّأة ومسطّحة، وباتت التخصّصات البحثيّة ضيّقة إلى درجة فقدانها لماهيّتها العلميّة الشموليّة الواسعة. وفي هذا السياق تشير المترجمة إلى مقولة الفيلسوف والرياضيّ الفرنسيّ بليز باسكال، في نقد التخصّص الضيّق: "أجمل لك أن تعرف البعض من كلّ شيء من أن تعرف الكلّ عن شيء واحد".

يبدأ دونو كتابه بإعلان أنّ الزمان قد تغيّر، وأنّ التافهين قد كسبوا الحرب وتبوّؤوا موقع السلطة. وحينما يصف ميزات أولئك التافهين وكفاءاتهم، فإنّه يقول إنّ صفاتهم الوحيدة والأهمّ قدرتهم على التعرّف على بعضهم بعضًا، ودعمهم لبعضهم بعضًا كي يتمكّنوا من الإمساك بزمام الأمور، وإحكام سيطرة التفاهة على كلّ مناحي الحياة.

لقد أصبحت التفاهة مرغوبة اليوم، وباتت أنموذجًا يُحْتَذى به ويُكَرَّس، وهي تشجّعنا في كلّ يوم على عدم التفكير، وعلى الغُفُوّ، وتقبّل الأمور كما هي دون أن نبحث أو نسائل أو نحفر كما أرادنا فوكو. كلّ ما تستدعيه التفاهة منّا أن نكون كسالى، وبهذا فإنّها تحيلنا إلى أغبياء، متلقّين لا فاعلين، إلى مستهلكين لا منتجين، وأهمّ ما في الأمر مجرّدين من كلّ تفكير نقديّ.

 

تسليع المعرفة وسيطرة الرداءة

يتطرّق دونو في كتابه إلى حقول الحياة المختلفة؛ الأكاديميا، والتجارة والاقتصاد، والسياسة، والثقافة واللغة والصحافة والتلفزيون، والكتب، والفنّ، وشبكات التواصل الاجتماعيّ. يحلّل ما حلّ بهذه المجالات وسيرورة سيطرة التفاهة عليها، وهي متزامنة مع سيطرة الرأسماليّة والنيوليبراليّة الّتي أخضعت جميع المجالات إلى معايير السوق ومعايير الربح والخسارة.

مثلًا، حينما يحلّل ما يحدث في الأكاديميا فإنّه يكتب عن تسليع المعرفة وإخضاعها إلى قوانين السوق؛ بسبب تدخّل جهات خارجيّة مثل الحكومات والشركات في تمويل الأبحاث. كما يتحدّث عن هوس الأكاديميّين بالتطوّر الوظيفيّ، والسعي وراء درجات التقدّم لأغراض الظهور الاجتماعيّ والمفاخرة في هذه الشهادات، غير آبهين بسيرورة المعرفة والعمق التعلّميّ. وينتقد دونو التخصّصات الفرعيّة المتناهية الصغر، الّتي تُنْتِج في النهاية أكاديميّين محدودي المعرفة والتفكير، وأبحاثًا لا تفيد البشريّة في أيّ شيء يُذْكَر.

ولعلّ أهمّ ما ينتقده دونو في كتابه عمليّة تسليع المعرفة الأكاديميّة، وبيعها لجهات التمويل المختلفة الّتي لا تأبه بجوهر المعرفة، وإنّما ما يهمّهما مضاعفة أرباحها المادّيّة، والمزيد من السيطرة على الأسواق...

ولعلّ أهمّ ما ينتقده دونو في كتابه عمليّة تسليع المعرفة الأكاديميّة، وبيعها لجهات التمويل المختلفة الّتي لا تأبه بجوهر المعرفة، وإنّما ما يهمّهما مضاعفة أرباحها المادّيّة، والمزيد من السيطرة على الأسواق. كلّنا يرى كيف يُخْضِع الباحثون أبحاثهم العلميّة لكي تخدم تسويق منتج ما، أو لكي تدعم نظريّة ما. وهكذا تتحوّل الجامعات من منتجة للمعرفة الشموليّة إلى سوق تجاريّ، تحكمه التفاهة.

أصبحت الجامعات إحدى آليّات النظام الرأسماليّ، وشريكة في النظام الاقتصاديّ الماليّ، وخاضعة لقوانين هذا الاقتصاد. وفي هذا السياق يتحوّل الطلبة إلى زبائن، والمضمون العلميّ إلى سلعة، والكادر الأكاديميّ إلى مروّج لهذه السلع. ولكي يدعم ادّعاءه؛ يضمّن دونو اقتباس رئيس «جامعة مونتريال»، الّذي صرّح عام 2011 بأنّ "العقول ينبغي أن تُفَصَّل وفق احتياجات السوق".

أمّا عن الثقافة فإنّ دونو يشير إلى سيطرة الرداءة في كلّ المناحي الثقافيّة؛ فالكتب الأكثر مبيعًا مثلًا، هي في الغالب أقلّها قيمة فكريّة، والصحافة الأكثر رواجًا هي الصفراء الّتي تفتقر إلى المهنيّة والبحثيّة وتقصّي الحقائق. هي صحافة تروّج التسطيح والتسخيف، وتهتمّ بموضوعات الفضائح والترفيه وقصص المشاهير وحياتهم الخاصّة، تُشْبِع رغبات المتلقّي المدنيّة كالفضوليّة والنميمة. ويهيّج التلفاز المشاعر البدائيّة لدى المتلقّي؛ إذ يعرض البرامج الترفيهيّة المتدنّية الّتي لا تنتج أيّ شيء ذي قيمة فكريّة أو إنسانيّة.

الأمر ذاته يحصل عبر شبكات التواصل الاجتماعيّ الّتي أصبحت مرتعًا للمؤثّرين والمؤثّرات و’الفاشينستات‘، والإعلاميّين والإعلاميّات الّذين يصمّمون الرأي العامّ، ويملون التوجّهات العامّة. والأهمّ أنّ هذه المنصّات نجحت في تحويل شخصيّات تافهة إلى أبطال الثقافة، وإلى رموز يُحْتَذى بها وتُقَلَّد وتُنَصَّب مُثُلًا عليا للشبيبة.

 

اللعبة

كيف يحدث كلّ ذلك؟ يعتقد دونو أنّ للتفاهة أداة لغويّة مهمّة يطلق عليها «اللغة الخشبيّة»، وهي لغة جوفاء تفتقر إلى الحقائق، مشبعة بالحشو والتكرار اللفظيّ، مليئة بالاستعارات والألفاظ الرنّانة، تميل إلى المغالاة والمبالغة، وهي في النهاية لا تقول أيّ شيء ذي قيمة. هي لغة تتّسم بكونها بسيطة غير معقّدة، ذلك أنّ التبسيط أحد أسسها. وهذا التبسيط يصل حدًّا يجعل الأمور في الحضيض مسطّحة تمامًا، بعيدة كلّ البعد عن النوعيّة والمستوى الفكريّ العالي. ما يصنعه التافهون هو استعمال اللغة الخشبيّة؛ من أجل تأجيج المشاعر ومخاطبة القلوب دونما العقول، وبذلك تخدير الفكر النقديّ والعقلانيّة؛ وهي لغة يجيدها السياسيّون بشكل خاصّ.

هذا النظام في عرف التافهين هو بمنزلة لعبة يجب إتقان قوانينها وقواعدها، وتعلّم لعب اللعبة مهارة مهمّة بحسب دونو من أجل بسط نظام التفاهة على كلّ شيء. لا توجد قواعد مكتوبة لهذه اللعبة؛ لكنّها تضمن للاعبين الانتماء إلى كيان كبير يعزّز لديهم الشعور بأنّهم جزء مهمّ من منظومة ما. من ميزات هذه المنظومة أنّها تخضع لحسابات الربح والخسارة المادّيّة أو المعنويّة، المتمثّلة بالسمعة أو الشهرة أو العلاقات العامّة. وخطورتها تكمن أوّلًا في جعل الفرد لا يرى شيئًا سوى مصلحته الفرديّة، وهي تحرفه بذلك عن رؤية المصلحة العامّة والمجتمع. ثانيًا، تتعلّق في أنّها مهمّة سهلة التحقيق، ولا تتطلّب مجهودًا خارقًا؛ فنحن نشهد تغلغل هذا النظام على جميع الأصعدة، وهو يعمل مثل الأخطبوط على إرسال أذرعه إلى كلّ ناحية وإخضاع كلّ شيء للتفاهة.

 

ما الحلّ؟

يرى دونو أنّ تأسيس الفكر النقديّ، واستخدام النقديّة الدائم، آليّة مهمّة من أجل محاربة نظام التفاهة؛ فهو يدعو إلى إعمال الشكّ والتشكيك في كلّ شيء، وعدم قبول أيّ شيء على أنّه مفهوم ضمنًا. على الفرد أن يسأل الأسئلة وأن يجتهد في البحث؛ من أجل الحصول على الأجوبة، وألّا يكتفي أبدًا بما يُقال له. عليه أن يسمّي الأشياء من جديد، أن يبدع وأن يخلق! إنّها عمليّة بحث دائمة، وهي مكلفة من ناحية المجهود الفكريّ الّذي ينبغي للفرد أن يستثمره، لكنّها عمليّة مجدية مهمّة في نهاية المطاف؛ من أجل إنهاء نظام التفاهة.

إنّ نظام التفاهة اختزلنا إلى أفراد عاجزين، وهو يريد أن يجذّر هذا التفكير عندنا: أن نرى أنفسنا أناسًا صغارًا لا حول ولا قيمة لنا، ولا نفع لأيّ عمل أو مجهود من الممكن أن نقوم به.

الحلّ يكمن في رفع وعينا الاجتماعيّ والسياسيّ بصفته فعل مقاومة. إنّ نظام التفاهة اختزلنا إلى أفراد عاجزين، وهو يريد أن يجذّر هذا التفكير عندنا: أن نرى أنفسنا أناسًا صغارًا لا حول ولا قيمة لنا، ولا نفع لأيّ عمل أو مجهود من الممكن أن نقوم به. إنّه يريدنا أن نؤمن بأنّنا لا نستطيع إحداث أيّ تغيير.

دونو يدعونا إلى العمل من أجل التغيير عن طريق تخطّي السؤال الأوّل القائل: ما الّذي يمكنني عمله بهذا الصدد وأنا الإنسان الصغير؟ والانتقال إلى السؤال التالي؛ من أجل خلق سيناريوهات جديدة ومختلفة عن السيناريوهات الّتي يريد نظام التفاهة ترسيخها. يدعو دونو إلى تحدّي نظام التفاهة، عن طريق إعادة تسمية الأشياء، وخلق حيّز جديد للتفكير والنقد والإبداع؛ ومن هنا فهو ينهي كتابه بقوله:

كن راديكاليًّا!

 


 

دالية حلبي

 

 

 

كاتبة ومحاضرة من دالية الكرمل، فلسطين. تعمل في مؤسّسات وبرامج أكاديميّة تربويّة تختصّ بإعداد المعلّمين.