القْبيبات... ذاكرة الجبل وأوليائه

جبل القْبيبات

 

متوسّطًا جبل نابلس، وقابعًا في مركز الإشراف على ثلاث محافظات: نابلس – جنين - طولكرم. يقع جبل القبيبات شمال قرية بُرْقَة على ارتفاع 680 مترًا فوق سطح البحر، ويُعْتَبَر واحدًا من أهمّ جبال ناحية واد الشعير الشرقيّة، وقمّته ممتدّة مع سلسلة جبال تنتهي شرقًا بجبل بايزيد على ارتفاع 750 مترًا، وهذه الجبال جزء من سلسلة الجبال الوسطى في فلسطين.

من على قمّة الجبل يتجلّى أمامك السهل الساحليّ وقراه الرابضة على مشارف البحر، وإذا أدرت وجهك في أيّ اتّجاه فإنّك تُبْصِر القرى والبلدات متناثرة كالنجوم بين التلال والوهاد على مدّ البصر، فيتولّد لديك شعور بأنّك في نقطة المركز، ففوقك السماء ودونك الأرض جمعاء.

رغم انقطاع الحياة في محيط جبل القبيبات بسبب مصادرته من قِبَل الاحتلال قبل خمسة وأربعين عامًا[1]، إلّا أنّه حاضر في حكايات الأهالي، ويسردون تفاصيل من أيّام صعودهم إلى قمّته للفلاحة، حيث كانوا يزرعون سفحه وأطرافه بالغلال الشتويّة كالقمح والشعير، كما استغلّوا القمم والمنحدرات الجرداء مراعيَ للمواشي. وكانت النسوة تهرع إليه لجمع خيرات الأرض كالخبّيزة واللسّينة، وكنّ يأتينه للتحطيب وجمع البلّان (النتش) لإيقاد المشاعل في أيّام الفرح وليالي السمر[2].

 

سُمِّيَ كذلك...

«القُبَيْبات» جمع تصغير «قبّة – قُبَيْبَة»، وهي بالمحكيّة الفلسطينيّة المحلّيّة ساكنة القاف: القْبيبات، وهي تسمية شائعة لأماكن بذات المعنى والوصف، عرفنا مثلها: جبل القبّة شرق دير جرير، وقرية القبيبة شمال غرب القدس، وقرية القباب قضاء الرملة. ونجد ذات الكلمة «القْبيبات» اسمًا لمواضع كثيرة في المنطقة العربيّة، كبئر الماء على طريق مكّة، ومحلّة في بغداد (حارة)، ومحلّة بظاهر مسجد دمشق. ويقول معمّرو قرية بُرْقَة إنّ الجبل سُمِّيَ بـ «القْبيبات» لأنّه يأخذ شكل القبّة في علوّه على ما سواه، وقيل: إنّما سمّي بذلك لوجود مقام له قبّة بارزة تُرى من بعيد[3].

ونجد على طرفي السلسلة مبنيين شبيهين ببرج المراقبة، يُخْضِعان ما بينهما من جغرافيا لسلطة مَنْ يملك هذين البرجين، وهما «مقام بايزيد» شرقًا و«مقام رجال الظَّهْرَة» غربًا...

أمّا كلمة «الظَّهْرَة» الّتي ارتبطت بالجبل: «ظَهْرَة القْبيبات»، فإنّما عُرِفَ بها الجبل لأنّه ظاهر في علوّه، فهو جبل بارز ومرتفع على ما دونه من بلاد. والظَّهْرُ من الأرض: ما غلظ وارتفع، والبطن ما لانَ منها وسَهُلَ ورَقَّ واطْمأَنَّ[4]، وفي تسمية أهل البلاد نقول لسفح الجبل العلويّ: ظهرة أو ظهر الجبل. وقد نُسِبَتْ قرية السيلة إلى الجبل؛ لأنّها أُقيمَتْ أسفل ظهره الشماليّ فصار اسمها «سيلة الظَّهِرْ»[5]. كما نُسِبَ إليه الأولياء الّذين نزلوا بالمقام على قمّة الجبل فصار اسمهم «رجال الظَّهْرَة».

ويتّسم جبل القْبيبات وسلسلة الجبال الّتي ترتبط به بالوعورة وصعوبة الوصول إليها، وكأنّ مَنْ يسيطر على هذه القمم يسيطر على ما دونها من أرض، ونجد على طرفي السلسلة مبنيين شبيهين ببرج المراقبة، يُخْضِعان ما بينهما من جغرافيا لسلطة مَنْ يملك هذين البرجين، وهما «مقام بايزيد» شرقًا و«مقام رجال الظَّهْرَة» غربًا[6].

ومن الأهمّيّة أن نشير إلى أنّ قاع الجبل الجنوبيّ يقوم على مخزون من الماء، وتندفع هذه المياه إلى سطح الأرض عبر مجموعة من العيون والآبار الدائمة العطاء، بالإضافة إلى عيون فوّارة تفيض مياهها في الشتاء، وقد عدّ لي أهالي قرية برقة أسماء ثلاثين عينًا، أشهرها: عين الدلبة، وحوض الفريديس، والبربارة، وكحلة، وعين البلد، وزكري، وقمرة، والفوّار، والرشّاش، والرفِّيد، والسويده، ويان، والليمونة، وإشقير، وكفر روما، والخسيف[7].

 

المقام

يُنْسَب المبنى القائم على قمّة جبل القْبيبات إلى مجموعة من الأولياء الصالحين، الّذين انقطعوا للعبادة فيه، وبعض الروايات تقول إنّ أصله نقطة مراقبة أحدثها صلاح الدين الأيّوبيّ، قبل أن يصبح زاوية للخلوة والاعتزال، ذلك أنّ طبيعة الجبل وموقعه البعيد عن القرى مُواتٍ لطلب الخشوع والتصوّف[8].

ومبنى المقام مؤلّف في الأصل من غرفتين تعلوهما قبّة بارزة، وفيهما محراب باتّجاه القبلة، وحوله قبور إسلاميّة قديمة، يُعْتَقَد أنّه لصُلَحاء وأولياء أو شهداء منسوب إليهم المقام[9].

 

مستوطنة "حومش"

 

وكان الشيخ عبد الغنيّ النابلسيّ قد زار المقام في رحلته سنة 1101هـ، وذكره بقوله: "وزرنا في الطريق رجال الظهرة، وهم شهداء مشهورون، وعليهم قبّة مبنيّة في رأس جبل مطلّ على الطريق"[10].

وهذا المقام جزء من سلسلة مقامات الجبال والمرتفعات الّتي كان لها دور مهمّ في تاريخ بلاد الشام، حيث استخدمت بحكم إشرافها على القرى والساحل، وكذا الطرقات التجاريّة القديمة، كحاميات عسكريّة، ونقاط مراقبة تنقل الإشارة عبر الشعلة ليلًا أو الدخان نهارًا من الساحل لشرق الأردنّ وسوريا.

 

تقرّبًا إلى الله

لقد منح علوّ الجبل ودوره الجهاديّ الأولياء المقيمين فيه مكانة مرموقة؛ وهو ما أكسبهم قوّة رمزيّة عالية أدّت دورًا مهمًّا في تشكّل ممارسات التديّن الشعبيّ، وتجلّى الأمر بثقافة قوامها قدرة الأولياء على حماية الأهالي، ومساعدتهم في دفع الأخطار وردّ الأذى عنهم[11].

ثمّ صارت الرحلة إلى المقام بالنسبة إلى الأهالي سبيلًا للتقرّب إلى الله، وارتقاءً نحو القداسة والولاية، يرجون منها أن تنعكس آثارها عليهم خيرًا وبركة، وتحقيقًا للآمال والمطالب الّتي يرغبون فيها. ومع الوقت خُلِقَتْ طقوس وممارسات كاملة حول الأولياء على قمّة الجبل، وصار المقام يُضاء بأسرجة الزيت، ونُقِشَتْ واجهاته بالحنّا والسيركون، وقُدِّمَتْ له الهبات والنذور، وذُبِحَتْ الذبائح وطُبِخَتْ في ظلال أشجاره، واستخدمت النسوة تراب الجبل الأحمر (المقريّ عليه) علاجًا للبثور والحَبّ الّذي يظهر على الجلد. وصار المقام مقصد الأهالي عمومًا لنيل البركة، والشفاء من الأسقام، وطلب الذرّيّة، وردّ الغائب ونحوه ممّا ابتدعه الناس واعتقدوا به[12]. كما حُمِلَ الأطفال إلى المقام لأجل الختان والطهور، وكانت هذه الطقوس من أعظم ما تشهده المقامات، حيث يسير الأهل في موكب تقوده النسوة الدهريّات، اللواتي يتولّين الغناء قائلات:

خاطِري بْزَفِّة في بابِ الْوادْ *** يا قَمَرْنا ظَوّيلي عَ لِوْلادْ

خاطِري بْزَفِّة في الِقْبيباتْ *** يا قَمَرْنا ظَوّيلي عَ الْحَبيباتْ

 

وبعد ذلك يبدأ الغناء للمطهِّر كي يحدّ شفرته ويعجّل بتطهير الصبيّ، ويناوله لأمّه وعمّاته وقريباته الحاضرات حفلة الختان، الّتي حين تنتهي بغنائها وطعامها، يتوجّهن إلى «مغارة إشقير» فيدخلنها مُبَسْمِلات - دستور لخاطر أسيادنا - فيشربن الماء البارد كأنّه خارج من الثلّاجة، ثمّ ينحدرن من قمّة الجبل عبر طريق باب الواد إلى قرية برقة، محتفلات بالمولود المطهَّر في حرم أولياء الله، «رجال الظَّهْرَة».

 

حجّ الفقير

يصف المؤرّخ مصطفى الدبّاغ في موسوعته «بلادنا فلسطين»، موسمًا شعبيًّا ارتبط بمقام أولياء «رجال الظَّهْرَة»، وذلك نقلًا عن كبار السنّ في بُرْقَة: "كان يُحْتَفَل في هذا المكان في اليوم التاسع من ذي الحجّة من كلّ سنة، احتفال بالغ تشترك فيه وفود القرى المجاورة، وتتسابق فيه الخيول وتنشط حفلات الطرب"[13].

ونقصد بالموسم حسب التعبير المحلّيّ: الاحتفال الشعبيّ العامّ، الّذي يقوم على فكرة حشد الناس زمانًا ومكانًا؛ لتأدية طقوس وممارسات لها مرجعيّات متداخلة بين الأسطوريّ والواقعيّ والتاريخيّ والمُتَوَهَّم، ولعلّ أشهر المواسم في فلسطين: موسم النبي موسى، والنبي روبين، والنبي عنّير، والنبي صالح[14].

وموسم «رجال الظَّهْرَة» ينفرد عن غيره من المواسم الشعبيّة في فلسطين، بأنّه موسم مرتبط بحدث دينيّ إسلاميّ، ومنشؤه جاء تعويضًا عن عدم القدرة على بلوغ مكّة المكرّمة لأداء فريضة الحجّ...

وموسم «رجال الظَّهْرَة» ينفرد عن غيره من المواسم الشعبيّة في فلسطين، بأنّه موسم مرتبط بحدث دينيّ إسلاميّ، ومنشؤه جاء تعويضًا عن عدم القدرة على بلوغ مكّة المكرّمة لأداء فريضة الحجّ، وهو بخلاف المواسم الشعبيّة الأخرى الّتي خُلِقَتْ من بُعْد جهاديّ، هدفَ إلى حشد الناس لمواجهة أيّ خطر صليبيّ يحاول إعادة احتلال بيت المقدس وسواحل بلاد الشام.

ولأجل ذلك؛ اعْتُقِدَ شعبيًّا أنّ المشاركة في موسم التاسع من ذي الحجّة عند «مقام رجال الظَّهْرَة»، هو فعلٌ جابر لخواطر الّذين قصّر حظّهم، وتأخّر النداء لهم؛ كي يلبّوا مع الحجيج في جبل عرفة في هذا اليوم. وقد سمّى العامّة هذا الموسم بـ «حجّ الفقير» أو «حجّ المساكين»، وذهب بعضهم للقول إنّ هذه المشاركة لها ثواب وأجر كبير؛ لأنّها ترفع الحرج عمّن قصّر في بلوغ مكّة لبُعْدِها ومشقّة الطريق إليها، ولعدم توفّر ما يعينهم من ركوبة ومال[15].

هواها بحري

تهبّ الرياح بنسيمها البارد مع ساعات غروب شمس التاسع من ذي الحجّة على جبل القْبيبات، ويصف الأهالي لُطْف هذه النسائم بقولهم: "هواها بحري"، وساعتئذٍ يلملمون أمتعتهم وقد أدّوا نذورهم، وشاركوا في احتفالات الموسم البهيجة، وينحدرون على مهل نحو قراهم فرحين ومستبشرين بالغد الآتي عيدًا عليهم، هو عيد الأضحى المبارك، منهين بذلك طقوسًا واحدة من احتفالاتهم الشعبيّة بحضرة الأولياء على قمّة جبل القْبيبات، على أمل أن يعودوا في العام القادم لتجديد الاحتفال بالموسم، إلّا أنّ زيارتهم للمقام لا تنقطع طوال العام، ذلك أنّ لهم مطالب وحوائج ونذورًا يجب أن تؤدّى في المقام.

 


إحالات

[1] سيطر الاحتلال على جبل القْبيبات عام 1978، لصالح إقامة مستوطنة «حومِشْ»، ولا يزال المستوطنون يمنعون الأهالي من الوصول إلى أراضيهم، رغم صدور قرار من «المحكمة العليا» الإسرائيليّة عام 2013 بردّ الأرض إلى أصحابها، وذلك في محاولة منهم لإعادة بناء مستوطنة أُخْلِيَت عام 2005.  

[2] مقابلات شخصيّة في بُرْقَة، يوم 30/12/2021: الحاجّ مفيد شاكر أبو عيد (مواليد 1948)، شريدة محمّد رمضان (مواليد 1950).

[3] مقابلات شخصيّة في بُرْقَة، يوم 30/12/2021: تيسير أحمد علي (مواليد 1950)، جهاد دغلس (مواليد 1948).

[4] ابن منظور الأنصاريّ، لسان العرب، باب الظاء (بيروت: دار إحياء التراث العربيّ).

[5] مصطفى مراد الدبّاغ، موسوعة بلادنا فلسطين، ج 3 (كفر قرع: دار الهدى، 1991)، ص 89-90.

[6] مقام بايزيد أو أبو يزيد، مزار مكوّن من غرفة واحدة، قائمة على جبل شاهق الارتفاع، وبجانبه قبور دارسة، وينسبه أهالي برقة إلى أبي يزيد البسطاميّ.

[7] حسين عمر مسعود (مواليد 1962)، مقابلة شخصيّة، 30/12/2021. مفيد شاكر أبو عيد (مواليد 1948)، مقابلة شخصيّة، 30/12/2021. نجوات عامر عمر (مواليد 1959)، مقابلة شخصيّة، 30/12/2021.

[8] تيسير أحمد علي (مواليد 1950)، مقابلة شخصيّة، 30/12/2021. حسين عمر مسعود (مواليد 1962)، مقابلة شخصيّة، 30/12/2021. شريّدة محمّد رمضان (مواليد 1950)، مقابلة شخصيّة، 30/12/2021. مفيد شاكر أبو عيد (مواليد 1948)، مقابلة شخصيّة، 30/12/2021.

[9] المرجع نفسه.

[10] الدبّاغ، ص 419.

[11] للمزيد انظر: توفيق كنعان، الأولياء والمزارات الإسلاميّة في فلسطين، ترجمة نمر سرحان، تحرير حمدان طه (رام الله: منشورات وزارة الثقافة، 1998).

[12] رقيّة سليم الشعلان - أمّ حكمت (مواليد 1937)، مقابلة شخصيّة، 04/01/2022.

[13] الدبّاغ، ص 419-420.

[14] انظر: شكري عرّاف، طبقات الأنبياء والأولياء الصالحين في الأرض المقدّسة، ج 2 (ترشيحا: مطبعة إخوان مخّول – ترشيحا، 2013).

[15] كنعان.

 


 

حمزة العقرباوي

 

 

حكواتيّ فلسطينيّ، يهتمّ بجمع الموروث الشعبيّ وما يرتبط بالحياة اليوميّة في فلسطين، من أمثال وأهازيج ومعتقدات وقصص شعبيّة. ينظّم جولات معرفيّة لربط الإنسان بالجغرافيا الفلسطينيّة عبر القصص. يكتب المقالة الثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.