مَنْ هم الفلسطينيّون القدماء؟

كأس قيصريّة، من عهد الملك الفينيقيّ ستراتو الأوّل، حاكم صيدون | ويكيميديا

 

تسود قناعة لدى علماء التوراة بشكل خاصّ، وبين العامّة بشكل عامّ، بأنّ اسم «أرض فلسطين»، يعود في أصوله إلى شعب أو إلى قبائل انتمت إلى ما يُعْرَف بـ «شعوب البحر». ويُطْلَق الاسم الأخير في علم التاريخ القديم، المتخصّص بالمشرق العربيّ، وفي علم التوراة أيضًا، على مجموعة من القبائل أو الشعوب الّتي يُقال إنّها غزت مصر في الألف الثاني قبل الميلاد. وبذلك يوصف الشعب الفلسطينيّ لدى أصحاب الخطاب التوراتيّ، بأنّه شعب طارئ على فلسطين، فهل هذا الرأي صحيح؟

 

ليسوا غرباء

يشير الباحث تومس طمسن إلى أنّ "كلمة فلسطين لا تُسْتَعْمَل لوصف مهاجرين من بحر إيجه وكليكا، كما أنّها لا تُسْتَعْمَل لوصف العناصر المشاغبة في الإمبراطوريّة المصريّة الأخيرة، فقد اسْتُعْمِلَتْ في وقت متأخّر جدًّا اسمًا لشعب السهل الساحليّ الجنوبيّ، ولجماعة تنتسب إلى سكّان الدول المدينيّة في فِلِسْتْيا.

سكّان السهول الساحليّة الفلسطينيّة، فكانوا من أصول مختلفة، ومعظمها من الساميّين الغربيّين الأهليّين في فلسطين، من حيث ثقافتهم المادّيّة ولغتهم وديانتهم.

أمّا سكّان السهول الساحليّة الفلسطينيّة، فكانوا من أصول مختلفة، ومعظمها من الساميّين الغربيّين الأهليّين في فلسطين، من حيث ثقافتهم المادّيّة ولغتهم وديانتهم. وتعبير ‘فلسطين‘ يشير مبدئيًّا إلى حقيقة جغرافيّة، وفي القصص التوراتيّة يكتسب سمة إثنيّة محدودة خياليّة، كمناهض رئيس لظهور شعب إسرائيل، كما في قصص القضاة وصموئيل 1.2. الفلسطينيّون لم يوجدوا بوصفهم شعبًا إلّا في المنظور العرقيّ التوراتيّ اللاحق، وإشارات النصوص الآشوريّة إلى (بي. ليس. تي) مثل الإشارات إلى (آ. يو. دي) جغرافيّة تناقض الإشارات الإثنيّة"[1].

والقول إنّ "الفلسطينيّين يمثّلون شعبًا غريبًا متطفّلًا على فلسطين، يجب إنكاره. التأثير الوارد من بحر إيجه جزئيّ، وعلى أساس البيّنات المعروفة كان هذا التأثير هامشيًّا في اللغة والديانة والأشياء المادّيّة، حتّى في أقدم أشكال الفخّار المدعوّة فلسطينيّة. كانت ثقافة المنطقة الساحليّة وطنيّة تمامًا، ويمكن القول إنّها متأثّرة بحضارة بحر إيجه، ولكنّها ساميّة تمامًا وذات طابع حضاريّ فلسطينيّ"[2].

 

المحلّيّة والتأثيرات الخارجيّة

والحقيقة أنّ المخلّفات الحضاريّة الفلسطينيّة في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، وضمن ذلك الساحل الفلسطينيّ، تُعْتَبَر استمرارًا لحضارة العصر البرونزيّ الأخير. ومن أهمّ المكتشفات الّتي تُنْسَب عادة إلى الفلسطينيّين، فخّار ملوّن بأشكال هندسيّة وطيور، وتَظْهَر أيضًا أشكال حلزونيّة ومجموعات من أنصاف دوائر متشابكة، أمّا أشكال الأواني نفسها فمشابهة للأواني الّتي عُثِرَ عليها في جزيرتَي رودس وقبرص، ولكنّها غير مطابقة لها، ومن الصعب اعتبارها مستوردة، بل على العكس، فإنّ طينة الفخّار محلّيّة، وصانعيها محلّيّون أيضًا، رغم تأثّرهم بصناعة الفخّار المعروفة في الجزر الإيجيّة.

وظهرت التأثيرات الكنعانيّة [الفينيقيّة] المحلّيّة على مخلّفات الفلسطينيّين، من خلال أسماء آلهتهم مثل داجون وعشتروت، كما أنّ العمارة من مبانٍ عامّة ومنازل مستمدّة من التقليد المعماريّ للعصرين البرونزيّين الوسيط والأخير، والحياة الدينيّة عند سكّان الساحل الفلسطينيّ كنعانيّة [فينيقيّة] الأصل، وكذلك المباني الدينيّة، وأهمّها: سلسلة المعابد المتعاقبة في تلّ القصيلة، الّتي أُنْشِئَتْ على غرار المعابد الكنعانيّة/ الفينيقيّة، مع ما يظهر عليها من تأثيرات مصريّة وإيجيّة.

وبذلك؛ يصعب على الباحث التفريق بين ما يمكن نسبته إلى المجموعات البشريّة، الّتي سكنت فلسطين في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، فوجود هذا الصنف من الفخّار أو ذاك في منطقة معيّنة لا يدلّ بالضرورة على سكّان هذه المنطقة من مجموعة إثنيّة مختلفة، ولكنّها غالبًا ما تعني أنّ هذه المنطقة وقعت تحت تأثيرات خارجيّة[3].

والحياة الدينيّة عند سكّان الساحل الفلسطينيّ كنعانيّة [فينيقيّة] الأصل، وكذلك المباني الدينيّة، وأهمّها: سلسلة المعابد المتعاقبة في تلّ القصيلة، الّتي أُنْشِئَتْ على غرار المعابد الكنعانيّة/ الفينيقيّة...

بالإضافة إلى ضعف أدلّة علماء التوراة والآثار ومنطقهم، فإنّ النقطة الأساسيّة الّتي ترغمنا على إهمال الرأي بأنّ الفلسطينيّين يمثّلون شعبًا غريبًا، تكمن في تجاهل أهل الاختصاص لمسألة جوهريّة تتعلّق بتاريخ المنطقة، ألا وهي "أنّه ما من شعب أو قوم ينتمي إلى خارج هويّة الإقليم الحضاريّة العروبيّة، تمكّن من فرض اسمه على المنطقة. فقد شهد الإقليم غزوات الكثير من الأقوام والممالك والإمبراطوريّات الّتي تمكّنت من احتلاله لقرون عديدة، ولكن لم يتمكّن أيٌّ منهم من تغيير الطبيعة ولا الشكل والجوهر لهويّة الإقليم، وكان على مَنْ بقي منهم الاندماج في البوتقة الحضاريّة العروبيّة. وغيّر الإغريق والرومان أسماء العديد من المدن والأقاليم في المشرق العربيّ، لكنّها استعادت جميعها أسماءها الأصليّة بعد تمكّن أهل الإقليم من طرد الغزاة. ونرى أنّ الحال نفسها تنطبق على فلسطين، حيث من الصعب علينا قبول الاستثناء هنا دون شرح وافٍ لأسباب ذلك، وقبول أنّ ذلك الاسم يعود بأصله إلى شعب ’دخيل‘ مجهول الهويّة والأصول، لم يترك لنا أيّ أثر عن نفسه أو ثقافته، حتّى عبر طرف ثانٍ"[4].

 

الفينيقيّة

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنّ الكثير من المدن قد اسْتُعْمِرَتْ يومًا بواسطة الفينيقيّين ضمن الهجرات القديمة في ما قبل التاريخ، الّتي "امتدّت على أفريقيا الشماليّة والبلقان وإيطاليا وإسبانيا، وعُرِفَتْ بأسماء موجات أقوام البحر المتوسّط"، كما صرّحت به المراجع الأثريّة الحديثة[5]. فقد نزل الفينيقيّون في جزيرة كريت وجزر الإسبوارد والكيكلاد [وهي جزر الأرخبيل] على قول توسيديد[6]، ويقدّم ف. لينورماند (F. Lenormand) في مؤلّفه المسمّى «أسطورة قدموس والمنشآت الفينيقيّة في بلاد اليونان» الإيضاحات الآتية: "... انطلاقًا من كريت بعد ذلك للوصول إلى مناطق نفوذهم ومراكزهم التجاريّة، كان أبناء كنعان [الفينيقيّون] يتوغّلون في بحر إيجة وعلى السواحل اليونانيّة..."[7].

ومن المحتمل جدًّا أنّ بعضهم [الفينيقيّين أو المعينيّين]، بعد أن اتّصلوا طويلًا بالقبائل اليونانيّة، انتقلوا شرقًا إلى موطنهم الأصليّ فلسطين، فبغضّ النظر عن أسماء بلدانهم، فإنّا نرى عددًا من أسماء أشخاصهم ساميّة/ جزريّة، ومنهم أبيمالك، دليلة، عبيد أيدوم، وربّما أيضًا أشبي، صاف، جوليات، رفح.

ويظهر أنّ ديانتهم تطبّق الأساليب الساميّة نفسها في تقديس معبودين اثنين ذكر وأنثى، فلداجون آلهة من الأسماك، وداجون وبلعزبوب آلهة كنعانيّة [فينيقيّة] أصلًا، ولا ينفي هذا أنّ الفلسطينيّين لا يمارسون عمليّات الختان، فربّما أبطلوا إجراءها عندما هاجروا إلى ريت.

ومن الأمور الواجب أخذها بعين الاعتبار في هذا السياق، أنّ المؤرّخ هيرودوتس (484 - 425 ق. م) سجّل في مؤلّفه «مكتبة التاريخ»، قوله: "والفينيقيّون كانوا يسكنون سابقًا سواحل بحر إريتريا (البحر الأحمر) كما يقولون هم أنفسهم، إذ اجتازوا من هناك إلى سواحل سوريا فقطنوها. والقسم من سوريا مع كلّ البلاد الّتي تمتدّ إلى تخوم مصر يسمّى فلسطين"[8].

الأصول الأجنبيّة لفلسطينيّي الحقبة الآشوريّة، وكون أصولهم المزعومة من «كفتور»، مجرّد خيال خلقته الروايات التوراتيّة قرينًا لأصول يهوذا نفسها، فيهوذا والفلسطينيّون كلاهما كيانات ثقافيّة أهليّة في فلسطين...

ونتساءل ههنا: ما الّذي يجبرنا على أن نجعل من الفلسطينيّين شعوبًا مختلفة من الوجهة الجَمْعِيَّة عن شعوب المنطقة؟ فهل هم حقًّا غرباء إلى هذا الحدّ؟ وهل ثمّة فرق صوتيّ بين ’فينيقيّين‘ و’فلسطينيّين‘؟ ألسنا هنا، أيضًا، الضحايا الراضين بأفكارنا المسبقة المتأثّرة بالروايات التوراتيّة؟

يؤكّد البحّاثة الأثريّ الفرنسيّ هيلير دو بارانتون (Hilaire de Baranton) في كتابه «الإيتروسكيّون في غربنا وفي أصولنا الفرنسيّة» (Les Etrusques en Notre Occident et nos Origines Francaises) أنّ "‘الإيتروسكيّين‘ فرع من الفينيقيّين السوريّين، وإنّ ’الفلسطينيّين‘ أحد أسمائهم، ومعنى ’الإيتروسك‘ في اللغة المصريّة القديمة هو ’بحّارة النيل‘، وإنّ معنى ’الفلسطينيّين‘ هو الجنود المحاربون". وزاد الباحث على ذلك فقال عن هؤلاء الفينيقيّين السوريّين إنّهم يحملون أسماء كثيرة مختلفة، وذلك تبعًا لمهنهم أو لعقائدهم، ثمّ أخذ يعدّد هذه الأسماء ومنها ’الفلسطينيّون‘ عملًا بمهنتهم الحربيّة[9].

وفي عام 1980، كتب باحث آخر، هو الأستاذ مايكل غرانت (M. Grant)، كتابًا عن الإيتروسكيّين وكانوا عنده، في خلاصة القول، ينحدرون من أصل كنعانيّ [فينيقيّ][10].

إنّ الأصول الأجنبيّة لفلسطينيّي الحقبة الآشوريّة، وكون أصولهم المزعومة من «كفتور»، مجرّد خيال خلقته الروايات التوراتيّة قرينًا لأصول يهوذا نفسها، فيهوذا والفلسطينيّون كلاهما كيانات ثقافيّة أهليّة في فلسطين، وناتجة عن حضارة العصر البرونزيّ وسكّانه، الّذين كانوا خلال العصر الحديديّ الثاني، متمايزين في مجموعات شبه إثنيّة، على شكل دويلات تحت حكم إمبراطوريّة خارجيّة[11].

بهذا نكون قد بيّنّا وهن الأدلّة الّتي وظّفها أهل الاختصاص لتثبيت آرائهم بأنّ الفلسطينيّين أقوام طارئة على فلسطين، ضاربة بجذورها في بحر إيجة، أو جزيرة كريت، أو أيّ موطن آخر بعيد عن بلاد الشام، اللهمّ إلّا لغرض مشبوه هو استبعاد الفلسطينيّين من العناصر القاطنة في بلاد الشام، وحسبانهم غرباء على فلسطين؛ لتسويغ اعتبارها ساميّة من الفرع العبرانيّ.

 


إحالات:

[1] تومس طمسن، التاريخ القديم للشعب الإسرائيليّ، ترجمة صالح علي سوداح، ط1 (بيروت: دار بيسان للنشر والتوزيع، 1995)، ص 187-188.

[2] المرجع نفسه، ص 100.

[3] معاوية إبراهيم، "فلسطين من أقدم العصور إلى القرن الرابع قبل الميلاد"، الموسوعة الفلسطينيّة، القسم الثاني، المجلّد الثاني، ط1 (بيروت: مركز الأبحاث، 1990)، ص 112-114.

[4] زياد منى، مقدّمة في تاريخ فلسطين القديم، ط1 (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، 2000)، ص 64-65.

[5] أحمد الدبش، عورة نوح ولعنة كنعان وتلفيق الأصول، ط1 (دمشق: خطوات للنشر والتوزيع، 2007).

[6] ج. كونتنو، الحضارة الفينيقيّة، ترجمة محمّد عبد الهادي شعيرة (مصر: مركز كتب الشرق الأوسط، بدون سنة)، ص 105.

[7] جان مازيل، تاريخ الحضارة الفينيقيّة الكنعانيّة، ترجمة ربا الخش، ط1 (اللاذقيّة: دار الحوار للنشر والتوزيع، 1998)، ص 94.

[8] هيرودوتس، تاريخ هيرودوتس الشهير، ترجمة عن طبعة لارشي الفرنسيّ: حبيب أفندي بسترس، مجلّدان (بيروت: مطبعة القدّيس جاورجيوس، 1886، 1887)، ص 467.

[9] محمّد معروف الدواليبي، دراسات تاريخيّة عن مهد العرب وحضارتهم الإنسانيّة، ط2 (دار الكتاب اللبنانيّ، 1983)، ص 129-130.  

[10] علي فهمي خشيم، آلهة مصر العربيّة، المجلّد الأوّل (مصر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1998)، ص 44.

[11] طمسن، ص 100.

 


 

أحمد الدبش

 

 

 

كاتب وباحث في التاريخ القديم. له مجموعة مؤلّفات حول التاريخ التوراتيّ، منها «بحثّا عن النبي إبراهيم»، و«كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب»، و«يهوديّة الدولة: الحنين إلى الأساطير».