رمضان نابلس... الخشخشة والتوحيشة

من أجواء رمضان في البلدة القديمة، نابلس | أ ف ب

 

اجتماعيّة اللغة

علم اللغة الاجتماعيّ أحد العلوم الحديثة الّتي ظهرت في أواخر الخمسينات وبداية الستّينات من القرن العشرين، وقد حظي بمسمّيات عديدة، مثل علم اجتماع اللغة، وعلم الاجتماع اللغويّ، والأنثروبولوجيا اللغويّة، وهي مسمّيات تدلّ على حقل واحد[1]. يعرّف فيشمان هذا العلم على أنّه "يبحث التفاعل بين جانبَي السلوك الإنسانيّ؛ استعمال اللغة والتنظيم الاجتماعيّ للسلوك"، كما يعرّفه لويس جان كالفي على أنّه "فرع من فروع اللسانيّات يهتمّ بالعلاقة ما بين اللغة والمجتمع، وبالأسباب والظروف الاجتماعيّة الّتي تحيط بالحدث اللغويّ"، أمّا علي عبد الواحد وافي فيعرّفه على أنّه "دراسة العلاقة بين اللغة والظواهر الاجتماعيّة، وبيان أثر المجتمع ونظمه وتاريخه وتركيبته وبنيته في مختلف الظواهر اللغويّة"[2].

علم اللغة الاجتماعيّ يختصّ بدراسة الواقع اللغويّ للمجتمعات، من أجل الكشف على العلاقة المتبادلة بين اللغة والمجتمع، ومن أجل تأكيد حقيقة التأثّر والتأثير المباشر بينهما...

وفق التعريفات السابقة، نستنتج أنّ علم اللغة الاجتماعيّ يختصّ بدراسة الواقع اللغويّ للمجتمعات، من أجل الكشف على العلاقة المتبادلة بين اللغة والمجتمع، ومن أجل تأكيد حقيقة التأثّر والتأثير المباشر بينهما. ويذهب علماء اللغة اجتماعيّون إلى أنّ السياق الاجتماعيّ أو الثقافيّ الّذي يوجد فيه مستخدم اللغة، يعمل على التأثير بشكل مباشر فيها، فيعمل على إكسابها دلالات ومعاني معيّنة ما كان لها أن تكتسبها لولا السياق الّذي وُجِدَتْ ضمنه وفيه. ويمكن تعريف السياق الاجتماعيّ والثقافيّ – ضمن إطار تأثيره في اللغة - باعتباره ذلك السياق الّذي يأتي ليكشف عن المعنى الاجتماعيّ الّذي توحي به الكلمة أو الجملة، والّذي يرتبط بحضارة معيّنة أو مجتمع معيّن، ويُدْعى أيضًا المعنى الثقافيّ[3].

استنادًا إلى ما تقدّم، تأتي هذه المقالة لتسلّط الضوء على لفظتَي ’الخشخشة‘ و’التوحيشة‘، اللتين يُدْرِكُهما ويستخدمهما أفراد المجتمع النابلسيّ بمعنًى محدّد ومعيّن، باعتبارهما عادتين مرتبطتين بشهر رمضان، وهما لفظتان اكتسبتا معانيهما من السياق الاجتماعيّ والثقافيّ الّذي وُجِدَتا فيه. ولإيضاح ذلك، ستُؤْخَذ كلتا اللفظتين على حدة، ثمّ يُبَيَّن تأثير السياق الاجتماعيّ والثقافيّ في اكتسابهما دلالاتهما.

 

الخشخشة

تنبثق ‘خَشْخَشَة‘ من الجذر اللغويّ ’خَشْخَشَ‘، وإنّ معاني هذه اللفظة ترد في «المعجم الوسيط» كالآتي: "السِّلاحُ وَغَيْرُهُ: صَوَّتَ إِذا حُرِّكَ. يُقالُ: خَشْخَشَ الثَّوْبُ الْجَديدُ. وفي الشَّيْءِ: دَخَلَ وَغابَ. وَالسِّلاحُ وَغَيْرُهُ: حَرَّكَهُ فَصَوَّتَ. وَالشَّيْءُ في الشَّيْءِ: أَدْخَلَهُ. تَخَشْخَشَ: صَوَّتَ. وَفي الشَّيْءِ: دَخَلَ فيهِ وَغابَ. يُقالُ: تَخَشْخَشَ في الشَّجَرِ. الْخَشْخَاشُ: الْجَماعَةُ عَلَيْهِم سِلاحٌ وَدُروع. وَالْجَماعَةُ الْكَثيرَةُ مِنَ الناس. وَكُلُّ شَيْءٍ يابِسٍ إِذا حُكَّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ صَوَّتَ. وَنَباتٌ حَوْلِيٌّ مِنَ الْفَصيلَةِ الْخَشْخاشِيَّةِ، يُسْتَخْرَج الأَفْيونُ مِنْ ثِمارِهِ. واحِدَتُهُ: خَشْخاشَةٌ"[4].

بينما ترد اللفظة في «الصحاح في اللغة» كالآتي: "الْخَشْخَشَةُ صَوْتُ السِّلاحِ وَنَحْوُهُ. وَقَدْ خَشْخَشْتُهُ فَتَخَشْخَشَ. قالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبَدَة: تَخَشْخَشَ أَبْدانُ الْحَديدِ عَـلَـيْهِمُ كَما خَشْخَشَتْ يَبِسَ الْحَصادِ جَنوبُ. والْخَشْخاشُ: نَبْتٌ مَعْروفٌ. والْخَشْخاشُ أيضًا: الْجَماعَةُ عَلَيْهِم سِلاح وَدُروعٌ. قالَ الْكُمَيْت: في حَوْمَةِ الْفَيْلقِ الْجَأْواءِ إِذْ رَكِبَتْ قَيْسٌ وهَيْضَلُها الْخَشْخاشُ إِذْ نَزَلوا"[5].

وترد في «معجم اللغة العربيّة المعاصرة» كالآتي: "تَخَشْخَشَ يَتَخَشْخَشُ، تَخَشْخُشًا، فَهْوَ مُتَخَشْخِشٌ، تَخَشْخَشَ الشَّيْءُ: خَشْخَشَ، صَوْتُ تَخَشْخُشِ وَرَقِ الشَّجَرِ الْيابِسِ تَحْتَ الْأَقْدام"[6].

في المعجم النابلسيّ الثقافيّ والاجتماعيّ، فإنّ لفظة ’الخشخشة‘ مرتبطة لدى ناسها بعادة معيّنة من عادات شهر رمضان (...) إذ تأتي لتدلّل على صوت معيّن هو كالشيفرة...

أمّا في المعجم النابلسيّ الثقافيّ والاجتماعيّ، فإنّ لفظة ’الخشخشة‘ مرتبطة لدى ناسها بعادة معيّنة من عادات شهر رمضان، وهي عادة تقوم وتختصّ بها مساجد نابلس تحديدًا؛ إذ تأتي لتدلّل على صوت معيّن هو كالشيفرة الّتي تأتي لتنبيههم قُبيل أذان الفجر إلى أنّ موعد الإمساك عن الطعام قد حان، وأنّ عليهم أن يسرعوا في ابتلاع لقمة الطعام الأخيرة أو شرب رشفة الماء الأخيرة قبل أن يُبَثّ أذان الفجر[7].

ويمكن القول إنّ لفظة ’الخشخشة‘ قد اكتسبت، في ضوء وجودها ضمن السياق الثقافيّ والاجتماعيّ لمدينة نابلس، معنًى جديدًا ومغايرًا عمّا هو في المعاجم اللغويّة، حيث يمكن تعريفها على أنّها: صوت تشويش يصدره مؤذّن الفجر في مساجد نابلس، وذلك عبر النفخ في ميكروفون المسجد أو الطرق عليه بأصابعه، إذ تصدر عنه أصوات ’خشخشة‘ تُعْلِم مَنْ يسمعها بأنّ موعد الأذان قد حان، وأنّه بقيت أمامه ثوانٍ معدودة لينهي ما في فمه من طعام أو شراب[8].

 

التوحيشة

أمّا لفظة ’التوحيشة‘ فهي منبثقة من ’اِسْتَوْحَشَ‘، القادمة من الجذر اللغويّ ’وَحَشَ‘، وإنّ معاني هذه اللفظة ترد في مختلف المعاجم اللغويّة؛ لتشير إلى حالة الوحشة والفقد والحزن الّتي تصيب المكان، عندما يرحل عنه أصحابه أو الإنسان عندما يرحل عنه أحبابه[9].

أمّا في المعجم النابلسيّ الثقافيّ والاجتماعيّ، فهي لفظة مرتبطة لديهم بعادة معيّنة من عادات شهر رمضان، وهي عادة تقوم وتختصّ بها مساجد نابلس – كذلك - في هذا الشهر بالتحديد، فلفظة ’التوحيشة‘ عند أهالي نابلس تأتي لتدلّل على نوع من الأناشيد الدينيّة المرتبطة بوداع رمضان، الّتي اعتاد المؤذّنون في المدينة على ترديدها في العشر الأواخر من رمضان قُبيل وقت السحور، عبر استخدام كلمات ذات نبرات مؤثّرة ونغم حزين[10].

’التوحيشة‘ (...) يمكن تعريفها على أنّها: أنشودة دينيّة يردّدها مؤذّن مدينة نابلس، ويبثّها عبر شبكة الأذان الموحّد في العشر الأواخر من رمضان، قُبيل وقت السحور بعد ترانيم وصلوات على النبيّ...

ورغم أنّ عادة ’التوحيش‘ في رمضان منتشرة في غير ثقافة عربيّة، حيث يكون إنشاد توحيشات رمضان في العشر الأواخر منه عبر المساجد أو في التجمّعات الدينيّة[11]، إلّا أنّه يمكن القول إنّ لفظة ’التوحيشة‘ قد اكتسبت، في ضوء وجودها ضمن السياق الثقافيّ والاجتماعيّ لمدينة نابلس، معنًى جديدًا ومغايرًا عمّا هو موجود في المعاجم اللغويّة، حيث يمكن تعريفها على أنّها: أنشودة دينيّة يردّدها مؤذّن مدينة نابلس، ويبثّها عبر شبكة الأذان الموحّد في العشر الأواخر من رمضان، قُبيل وقت السحور بعد ترانيم وصلوات على النبيّ، حين تأتي كلماتها تحمل طابعًا حزينًا ومؤثّرًا، وتجيء كَمَنْ يعبّر عن حزن أهالي المدينة الجماعيّ على رحيل رمضان ووداعه، ومن أبرز كلماتها:

"لا أَوْحَشَ اللهُ مِنْكَ يا رَمَضانا ... يا مَعْدِنَ الْخَيراتِ وَالْإِحْسانا

أَسَفًا عَلى أَيّامِهِ وَلَياليهِ ... كانَتْ لَيالي الذكْرِ وَالْقُرْآنا

يا هَلْ تَرى؟ هَلْ نَعودُ فَنَلْتَقي ... في مِثْلِ هذا الشَّهْرِ يا إِخْوانا؟"[12].

 

أخيرًا، يمكن القول إنّ سؤال "خَشْخَشِ الشيخْ وِلا لسّا؟"، الّذي يسأله أفراد العائلة النابلسيّة لبعضهم بعضًا، ضمن إطار استفسارهم عن موعد وجوب الإمساك عن الطعام، وعبارة "تعال/ ي اسمعي توحيشة رمضان" الّتي ينادي بها أفراد العائلة النابلسيّة على بعضهم بعضًا، ضمن إطار دعوة جماعيّة للاستمتاع بالجماليّات البكائيّة للتوحيشة الحزينة وكلماتها؛ يمكن القول إنّ هذا السؤال وتلك العبارة لم يكن لهما أن يُفْهَما من أفراد المجتمع النابلسيّ على هذه الشاكلة، لولا وجود لفظتَي ’الخشخشة‘ و’التوحيشة‘، ضمن سياق اجتماعيّ وثقافيّ معيّن، ساهم في إكسابهما معناهما، وقادهما نحو الحضور في أذهان أهالي المدينة كلفظتين مرتبطتين بشهر رمضان وعاداته.

 


إحالات

[1] هدسون، علم اللغة الاجتماعيّ، ترجمة محمود عيّاد (مصر: عالم الكتب، 2002)، ص 12.

[2] حسن كزار جادر، اللسانيّات الاجتماعيّة... المصطلح والمفهوم، ص13.

[3] خديجة زبار عنيزان وسلمى داود سلمان، «السياق وأثره في الدلالة اللغويّة»، مجلّة التراث العلميّ العربيّ، عدد 40، 2019، ص 21.

[4] «معنى استوحش في معاجم اللغة العربيّة»، معاجم، شوهد في 05/04/2022، https://bit.ly/3JuekL7

[5] المرجع نفسه.

[6] المرجع نفسه.

[7] «خشخشة الفجر... شيفرة نابلسيّة للإمساك عن الطعام»، وكالة الصحافة الفلسطينيّة صفا، 20/05/2019، https://bit.ly/3jaJKv5

[8] المرجع نفسه.

[9] «معنى استوحش في معاجم اللغة العربيّة»، معاجم، شوهد في 05/04/2022، في: https://bit.ly/3LS3b8p

[10] سارة عبد الخالق، «توحيش رمضان... عادة قديمة في وداع الشهر الفضيل»، موقع مصراوي، 03/6/2019، شوهد في 05/04/2022، في: https://bit.ly/3LPwfNU

[11] عاطف دغلس، «رمضان زمان في نابلس... من ’السوق نازل‘ إلى ’التوحيشة‘ بالفيديو - هكذا تحيي نابلس الشهر الفضيل»، الجزيرة نت، 10/05/2021، شوهد في 05/04/2022، في:https://bit.ly/3ugCnZr

[12] المرجع نفسه.

 


 

إسراء عرفات

 

 

كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.