كيف كان رمضان الفلسطينيّين أيّام زمان؟

فلّاحات وفلّاحون فلسطينيّون قبل النكبة | أرشيف

 

في هذه المقالة، أسلّط الضوء على جانب من ملامح شهر رمضان في فلسطين، القرن الماضي، وتحديدًا في زمنٍ لم تجتح فيه التكنولوجيا والصناعة كلّ شيء، وغدت تدير كلّ تفاصيل حياتنا، معتمدةً في ذلك على قصص جمعتها من أناس فلسطينيّين مخضرمين، عاصروا زمن عيون الماء واعتاشوا من الفلاحة، ثمّ شهدوا الانقلاب الحضاريّ - التكنولوجيّ والقيميّ. الأسئلة الّتي شغلتني هي: كيف عرف الناس ببدء شهر رمضان وبموعد الإفطار والسحور في القرن الماضي؟ كيف كانوا يقضون أوقاتهم خلال الشهر؟ ماذا كان الناس يفعلون أثناء الإفطار، في عصر لم تتوفّر فيه مساحة إلكترونيّة لمشاركة صور المائدة و’سيلفيّات‘ الجمعات العائليّة؟ ما الطعام الّذي تناولوه؟ ما الحلويات الّتي صنعوها؟ هل احتفلوا بتزيين بيوتهم؟ وكيف كانت طبيعة العلاقات الاجتماعيّة آنذاك؟ للحصول على إجابات، توجّهت إلى فلسطينيّات وفلسطينيّين، من قرية كفركنّا وقرية عبلّين ومدينة الناصرة، الواقعات في الجليل الأسفل، وقرية مصمص ومدينة أمّ الفحم الواقعتين في منطقة بلاد الروحة.

 

الصعود إلى الجبل لرؤية القمر

في أيّامنا، يعلن المفتي في مدينة القدس موعد حلول شهر رمضان بعد تحرّي رؤية الهلال، فتتناقل القنوات والإذاعات وصفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ الخبر ليصل إلى بيوت جميع القرى والمدن. أمّا في الماضي، وقبل دخول جهاز الراديو إلى بيوت الفلسطينيّين، فيقول الناس إنّهم عرفوا بحلول شهر رمضان إمّا من خلال مراقبة القمر من المناطق العالية وإمّا بالصدفة.

أمّا بالنسبة إلى موعد الإفطار، فبسبب عدم وجود ساعات ومكبّرات صوت، كان الناس يرسلون أولادهم كلّ يوم خلال شهر رمضان للانتظار بالقرب من الجامع حتّى يسمعوا الأذان...

في مدينة أمّ الفحم، بحسب قول الحاجّة وجدان أحمد جبر الّتي وُلِدَت في سنة 1946 (76 عامًا)، كان بعض الرجال يخرجون فيها إلى «جبل إسكندر» لمراقبة القمر ليومين، إلى أن يتأكّدوا من رؤية الهلال، فيُخبروا أهل القرية بذلك. تتذكّر الحاجّة وجدان أنّ خبر الصيام كان يأتي أحيانًا متأخّرًا، بعد انقضاء جزء من النهار، فيبدأ الناس بالصوم على الفور. أمّا الحاجّ فريد حسن إغباريّة (96 عامًا) ابن قرية مصمص، فيتذكّر أنّ الناس كانوا يتناقلون خبر ابتداء رمضان ومجيء العيد حتّى يصل إلى الجميع. وممّا روى من ذكرياته، أنّه كان في طريقه إلى العمل في ورشة بناء في شبابه، فصادف شخصًا أخبره أنّ العيد قد بدأ و"اليوم فشّ شغلل"، فعاد إلى بيته يبشّر أهله بحلول العيد. وهل أجمل من يوم عطلة مفاجئ؟

أمّا بالنسبة إلى موعد الإفطار، فبسبب عدم وجود ساعات ومكبّرات صوت، كان الناس يرسلون أولادهم كلّ يوم خلال شهر رمضان للانتظار بالقرب من الجامع حتّى يسمعوا الأذان، ليخبروا بدورهم عائلاتهم ببدء موعد الإفطار، فينطلق الخبر من بيت إلى آخر، ويبدأ الجيران بإرسال صحون الطعام إلى بعضهم بعضًا كما اعتادوا أن يفعلوا.

وبما يخصّ الاستيقاظ للتسحّر، فقد تكرّر ذكر وجود مسحّراتي في القرى، يبدأ بالتجوّل قبل أذان الفجر حتّى انطلاقه. تذكر الحاجّة أمّ عامر ابنة قرية كفركنّا (72 عامًا) مسحّراتي القرية، فالح. كان بالأصل من قرية قومية المهجّرة الواقعة في الشمال الغربيّ من مدينة بيسان، وقد سكن في كفركنّا، وتطوّع ليكون المسحّراتي فيها، فحمل ’تنكة‘ وعصا، وتجوّل ليوقظ الناس للتسحّر طيلة أيّام الشهر. تتذكّر الحاجّة أمّ عامر أنّ فالحًا كان ينادي: "قومْ يا نايِمْ وَحِّدِ الدايِمْ، قومْ تْسَحَّرْ يا صايِمْ"، ولم يكن يطلب أجرًا، وفي نهاية الشهر "بسّ يْقَرِّبِ الْعيدْ، كانوا الناس يِعْطوه شِلِنْ أَوْ رُبِعْ ليرَة، وْكُلِّ الشَّهَرْ كانوا يِبْعَتوا إِلُه وْلَعيلْتُه أَكِلْ".

 

البالْ مِرْتاحْ

في جميع القصص الّتي جمعتها، كان ارتباط الناس بالأرض والمواشي واضحًا، وْهذا بَديهي وْمُشْ بْحاجِة يِحْكوا فيهْ ثْنينْ، فقد اعتمدوا في أكلهم على المحصولات الزراعيّة، وعلى منتوجات الحليب الّتي صنعوها بأنفسهم من الماشية الّتي امتلكوها. حين سألت الحاجّ محمّد سعيد من قرية كفركنّا (94 عامًا) "لَشو أَكْتَرْ إِشي بْتِشْتاق؟"، أجابني: "بَشْتاقْ لَلِفْلاحَة يا خالي". قضى الناس معظم أوقاتهم في أراضيهم، فلم يمرّ يوم إلّا زاروها للاطمئنان عليها وعلى مزروعاتهم.

"مَبَقاشْ في لَحِمْ"، يقول الحاجّ فريد إغباريّة، "أَكَلْنا بَطاطا ورُزّ وِمْلوخِيِّة"؛ فلم يتعوّد الناس على أكل اللحوم إلّا القليل جدًّا. أمّا المواشي فاستخدمها الفلّاحون للزراعة والحراثة، وحمل المحاصيل والبضائع، وإنتاج الحليب وصنع مشتقّاته. يضحك الحاجّ أبو عامر ابن قرية كفركنّا ويقول: "كانْ عِنّا كَرِمْ عِنِبْ في منطقة كَبْشانِة، كُلُّه دَوالي. كُنّا في النهارِ نْروح نْحَوِّشْ، وْفي اللّيلْ بَعْدِ الصلاة نْروحْ عَ الناصْرِة عَ الِحْمارْ لَنْبيعْ. نْروحْ مَشي للناصْرِة وِنْحُطّ عَ الِحْمارْ الِبْضاعَة، وْنِرْجَعْ راكبين". نرى أنّ الماشية قد كانت ’الإيدْ اليمين‘ للناس قديمًا، فتعلّقوا بها حتّى صَعُبَ عليهم ذبحها والأكل من لحمها. يتجلّى هذا التعلّق في قصيدة «حبل صبحة» للشاعر الفلسطينيّ طه محمّد علي (1931 – 2011) الّذي هُجِّر من قرية صفّورية؛ إذ يصف فيها ذكرى موت البقرة الّتي أكلت حبلًا واختنقت؛ فاضطرّت العائلة إلى ذبحها وتوزيع لحمها؛ فلم يقوَ أهل الحارة على أكله.

يقول الحاجّ محمّد سعيد: "ما كُنّا نِمْرَض، كانِ الأَكِلْ نَباتي وْطَبيعي وِشْوَيِّةْ لَحْمِة، وْكانَتِ الْبَطّيخَة تِقْعُدْ عِنّا سَنِة كامْلِة ما تِخْرَب".

كثيرًا ما نسمع أنّ الطعام الّذي تناوله أجدادنا كان أفضل من طعام اليوم، فطعامنا اليوم يعتمد في معظمه على اللحوم، وما عدنا نعرف للخضراوات موسمًا، حتّى بتنا نصدّق أنّنا في حاجة إلى أكل اللحوم صباحًا ومساء، وأنّ ثمار البطيخ تنمو في الخريف. يقول الحاجّ محمّد سعيد: "ما كُنّا نِمْرَض، كانِ الأَكِلْ نَباتي وْطَبيعي وِشْوَيِّةْ لَحْمِة، وْكانَتِ الْبَطّيخَة تِقْعُدْ عِنّا سَنِة كامْلِة ما تِخْرَب". سألته: "وماذا كنتم تتناولون وقت الإفطار والسحور؟"، وقد كانت إجابته شبيهة بإجابات الجميع: "الْمَوْجودْ". والموجود هذا، قد كان إمّا من المزروعات الّتي نبتت في موسمها وإمّا من بقايا طعام حفظوه من اليوم السابق. أمّا الطبخة الفاخرة الّتي تكرّر ذكرها فهي المجدّرة، الّتي يسمّيها البعض اليوم ’أكلة الفقراء‘، لأنّها قد كانت بالفعل كذلك.

قبل الكهرباء والمخابز والملاحم، استيقظت النساء باكرًا، أشعلن النار ووضعن عليها الصاج وعجنّ الخبز وخبزنه تحضيرًا للفطور في المساء. وبالنسبة إلى طعام السحور، فبعد التمرة وشرب الماء، يتناول معظم الناس الجبن أو اللبن أو الحلاوة والخبز، أو ممّا تبقّى من طعام الإفطار. يتابع الحاجّ محمّد سعيد: "الْيومْ المَرَة بْتِطْبُخْ ثَلاثْ أَوْ أَرْبَعْ طَبْخاتْ، وْحَتّى الْأَوْلادْ مَبِعْجِبْهِنِّشْ، مَبِقْبَلوشْ بِالْمَوْجودْ"، وبعد صمت قصير أضاف: "زَمانْ كُنّا نِقْعُدْ عَ صَحِنْ واحَدْ، كُنّا فُقَرا بَسّ كانْ بالْنا مِرْتاح، الْيومِ النّاس بِجْتِمْعوا وْبِعْمَلوا كْتيرْ أَكِلْ بَسّ بالْهِنْ مِشْ مِرْتاح".

 

فطرة المحبّة

كانت العائلات الّتي تربطها صلة قربى تسكن في نفس البيت أو نفس الغرفة، وحتّى الآن كثيرًا ما نسمع أجدادنا وآباءنا يقولون: "كُنّا كُلّْنا نْنام في نَفْسِ الْغُرْفِة". لذا؛ نراهم اليوم يفتقدون اللمّات العائليّة اليوميّة الّتي اعتادوا عليها سابقًا. يقول الحاجّ أبو عامر: "كانوا الناسْ عايْشينْ عَ الْبَساطَة وْراحْةِ الْبالْ. شُغْلِ الْفَلّاحينْ كانْ 5 أو 6 أَشْهُرْ، وْباقي السنِة في الشِّتا قْعادْ. تِطْلَعْ الناسْ تِسْهَرْ مَعْ بَعَضْها، يِلْعَبوا أَلْعابْ مِتْلِ الصينِيِّة وِالْمِنْقَلِة".

اليوم، ننتظر الأعياد والمناسبات حتّى يجتمع أفراد العائلة، وفي شهر رمضان، لا يتمكّن الجميع من الانضمام إلى الإفطار مع عائلته. أمّا في الماضي، فكان أفراد العائلة يلتمّون وقت الإفطار حول ’طَبْخَة وَحْدِة‘. تقول الحاجّة أمّ عامر: "في رَمَضان كُنّا نُطْبُخْ طَبْخَة وَحْدِة، كُلّْ حَدا مْنِ الْقَرايِبْ يُطْبُخْ طَبْخَة شِكِل وِنْوَدّي لَبَعَضِ صْحونْ، الْكُلّْ يوكِلْ مِنِ الْكُلّْ". ويؤكّد ذلك الحاجّ فريد إغباريّة: "كُنّا نوكِلْ جاجِة مْنِ اللّي بَقينا نْرَبّيهِنْ، نوكِلْ مِنْها سَبِعْ أَو ثَمانْ أَفْرادْ"، ويقول الحاجّ محمّد سعيد: "الْجيرانْ كانوا يْفَرّْقوا عَ بَعَضْ طَبيخْ، نوكِلْ مِنْ خَمِسْ أَوْ سِتِّ بْيوتْ".

جميع الناس في البلدان متعدّدة الطوائف، الّتي يعيش فيها المسلمون والمسيحيّون، وأحيانًا الدروز، معًا، أكّدوا فطرة الشعور بالمحبّة دون تمييز. وتكرّرت في كلامهم كلمات مثل: التعايش، والألفة، والصداقة، والتقدير. يقول الحاجّ أحمد علي عفيفي ابن مدينة الناصرة، المهجّر من قرية صفّورية مذ كان في الرابعة، يقول إنّ قلوب الناس قد كانت أكثر صفاء، كانوا يعيشون حياة متواضعة، يقدّرون النعم ويحترمون بعضهم بعضًا. ويقول الحاجّ أبو عامر: "كانَتِ الناسْ عايْشِة عَ الْفِطْرَة مِتِلْ ما رَبّْنا خَلَقْنا، ما كانْ في مُسْلِمْ وْمَسيحي، كانْ لِبِسْنا بِشْبَهْ بَعَضْ، وْكانْ جاري حَبيبِ الْحَنّا حافِظِ الْقُرْآنْ وِيْصومْ مَعْنا رَمَضانْ". نعم، هذه المعلومة الأخيرة فاجأتني حتّى أنّني فغرت فاهي ورفعت حاجبيّ استغرابًا، وقلت: "عن جدّ؟ وأين يسكن حبيب حنّا اليوم؟"، فأجابني: "هاجرَ لَلِبْنان بْسَنواتِ السِّتّينْ، أَجوا اوْلادُه يَلّي كانوا مْهاجْرينْ لَيِشْتِغْلوا هُناكْ، وْأَخدوه مَعْهِنْ".

"بَتْذَكَّرْ كُنِتْ مَعَ صْحابي كْتيرِ نْفوتْ عَ الْجامِعِ الْأَبْيَضْ في السوقْ، وْمَنُشْعُرِشْ إِنُّه فايْتينْ عَ مَحَلّْ مُشْ إِلْنا، وْكُنّا نْحِسّْ إِنُّه رَمَضان لَلْكُلّْ، الْكُلّْ يِنِبْسِطْ".

مع نهاية شهر رمضان وحلول عيد الفطر، كانت العائلات المسيحيّة تذهب لزيارة العائلات المسلمة، كما تفعل العائلات المسلمة ذات الأمر في الأعياد المسيحيّة. وهذه الزيارات والصداقات لم تقتصر على أيّام الأعياد، فكما قال جرجورة إيليا قنازع ابن مدينة الناصرة، إنّ الناس لم تشعر قديمًا بأنّها تختلف عن بعضها بسبب الديانة، "بَتْذَكَّرْ كُنِتْ مَعَ صْحابي كْتيرِ نْفوتْ عَ الْجامِعِ الْأَبْيَضْ في السوقْ، وْمَنُشْعُرِشْ إِنُّه فايْتينْ عَ مَحَلّْ مُشْ إِلْنا، وْكُنّا نْحِسّْ إِنُّه رَمَضان لَلْكُلّْ، الْكُلّْ يِنِبْسِطْ".

 

القطايف بْجوزْ وِلّا بجبنة؟

هريسة، زَلابية، قمر دين، راحة، حلاوة، بحتة، ملبّس ع لوز، كُلّاج، كنافة، قطايف، هذه هي الحلويات الّتي كانت شائعة في الماضي، وقد صنعوا معظمها في البيوت. يذكر الحاجّ أبو عامر أنّه اشترى الراحة وملبّس ع لوز في طفولته بالمقايضة: "كُنّا نوخِدْ بيضَة نْروحْ عَ الدكّانِة وْيِعْطونا فيها شْوَيِّةْ مْلَبَّسْ عَ لوز، أَوْ نوخِدْ قَمِحْ وِيْزَيِّنْهِنِ الْبَيّاعْ وْيِعْطينا مَحَلّْهِنْ راحَة أَوِ مْلَبَّسْ". أمّا القطايف فقد أصبحت من الحلويّات الخاصّة بشهر رمضان مع الوقت. ما أثار اهتمامي هو اختلاف مكوّنات الحشوة الّتي صنعها الناس للقطايف مع اختلاف المناطق، وأنّ بعض الناس لم يعرفوا القطايف بتاتًا.

يقول الحاجّ حسن حيدر ابن قرية عبلّين (70 عامًا): "كُنّا نِعْمَلْ كَعْكِ بْعَجْوِة، مَكُنّاشْ حَتّى نِعْرِفِ الْقَطايِفْ، كُنّا نوكِلْ قَمَرْ دينْ وْتَمِرْ". وتقول الحاجّة وجدان أحمد جبر إنّهم لم يعرفوا سوى الهريسة قديمًا، ومع الوقت قد وصلت القطايف إلى بلدهم أمّ الفحم وتعلّموا صنعها، ولحشوها استخدموا إمّا الفول السودانيّ لزهد ثمنه، وإمّا الجبن لتمكّن الناس من صنعه من حليب المواشي الّتي امتلكوها. أمّا اللوز فلم يستخدمه إلّا مَنْ كان لديه بعض الأشجار.

في قرية كفركنّا، كان النساء يصنعن حشوة القطايف من اللوز أو السمسم، فقبل أن تصبح أراضي القرية مليئة بأشجار اللوز في سنوات الثمانينات، ويتحوّل قطف اللوز إلى موسم يشبه موسم قطف الزيتون، كان بعض عائلات القرية يضمّنون أراضي من خارجها في سنوات الستّين، فيجتمعون في تلك الأراضي ’لِتَحْويشْ‘ ثمار اللوز. المثير للعجب والسخرية، أنّ أصحاب تلك الأراضي كانوا من غير الفلسطينيّين العرب، وإنّما من المستوطنين الصهاينة المدعومين من الاستعمار الإنجليزيّ.

تتذكّر جدّتي، سعاد عبد أبو داهود، المولودة عام 1948، حين كانت تذهب مع عائلتها لقطف اللوز خارج القرية، وعند عودتهم إليها كان الأولاد يجتمعون في ساحة بيتهم؛ لتقشير اللوز والحصول على ليرة مقابل ’السَّطْلِ الْواحِدْ‘. لاحقًا، بدأ أهل القرية بزراعة شجر اللوز وقطفه، وما عادوا بحاجة إلى ضمان أراضٍ خارجيّة. تقول الحاجّة أمّ عامر ابنة قرية كفركنّا: "كُنّا نْحُطّْ عَ الِبْريموسْ بَلاطَة وِنْصُبّْ عَليها الْعَجينِة.

 "كُنّا نِعْمَلْ كَعْكِ بْعَجْوِة، مَكُنّاشْ حَتّى نِعْرِفِ الْقَطايِفْ، كُنّا نوكِلْ قَمَرْ دينْ وْتَمِرْ". وتقول الحاجّة وجدان أحمد جبر إنّهم لم يعرفوا سوى الهريسة قديمًا.

كُنّا نِعْمَلِ الْقطايِفْ بْسِمْسِمْ أَوْ لوزْ، نْدُقِّ السِّمْسِمْ عَ الْإيدْ وْنُخُلْطُه بْقِرْفِة وِبْسُكَّرْ، وْما كُنّا نِعْرِفِ الْجوزْ". في الحقيقة، منذ صغري، عرفت القطايف بالمكسّرات لأنّ جدّتي تصنع الحشوة منها. اعتقدت أنّ هذه هي ’النسخة الأصليّة‘ من القطايف، وأنّ القطايف بالجبن هي ’نسخة محدثة‘. وأنا أستنتج الآن، أنّ لهذا علاقة بتوفّر اللوز لأهل قريتي كفركنّا، واعتيادهم على صنع القطايف بالمكسّرات منذ ذلك الوقت.

 

الثقافة المتجانسة

نهاية، أرى أنّ تاريخنا الاجتماعيّ أقرب إلى الواقع من التاريخ السياسيّ، الّذي يلقّنوننا إيّاه في المدارس، وتكون نتيجته أن يكتشف الطفل هويّته الفلسطينيّة صدفة حين يكبر. تفتح لنا ذكريات أجدادنا مجال التأمّل بالماضي لا بصفتها حقبة زمنيّة منفصلة عن حاضرنا، بل بصفتها جزءًا منه ومن هويّتنا الفرديّة والجمعيّة؛ فتلك الذكريات تكشف لنا عن الجذور الّتي ما زلنا ننمو منها.

كانت الاختلافات بين الناس في الماضي أقلّ منها اليوم، فلم يستخدموا مصطلحات مثل ’الثقافة المسيحيّة‘ و’الثقافة الإسلاميّة‘؛ لأنّهم عاشوا ثقافة فلسطينيّة واحدة، فيها عادات وتقاليد مشتركة تتجلّى في الأفراح والأتراح والحياة اليوميّة. ملامح شهر رمضان قديمًا، تعكس بكلّ تفاصيلها هذه الثقافة التجانسيّة، من حيث العلاقات بين الناس، ووجبات الإفطار الّتي تعتمد على المزروعات، والحلويات وطرق صنعها وشراؤها، ووجود المسحّراتي، وطريقة معرفة موعد حلول شهر رمضان وموعد الإفطار.

 


 

يارا أبو داهود

 

 

 

معلّمة للّغة الإنجليزيّة وطالبة ماجستير في اللغة العربيّة.