يوم في السنة... الكتاب بين كاتبه وقارئه

شارع المتنبّي - بغداد

 

الثالث والعشرون من نيسان في كلّ عام هو اليوم العالميّ للكتاب وحقوق المؤلّف. عيّنت مؤسّسة «اليونسكو» هذا التاريخ عام 1995 لمصادفته يوم وفاة ويليام شيكسبير وميغيل دي ثيربانتيس. المُفارقة أنّهما ماتا في نفس التاريخ من العام نفسه، لكن ليس في نفس اليوم، لأنّ التقويم الّذي كان مُعتمدًا في إنكلترا كان اليوليانيّ، بينما في إسبانيا كان التقويم الميلاديّ الغريغوريّ ممّا يعني أنّ شيكسبير توفيّ بعد عشرة أيام من ثيربانتيس، وحسب التقويم الميلادي المعتمد الآن فستكون وفاته قد حدثت في الثالث من أيّار [مايو).

 

العواصم العالميّة للكتاب

قد يكون التركيز يقع على هذين الكاتبين في إرجاع السبب في تسمية هذا اليوم، لكن رسميًّا تسمّي «اليونيسكو» مجموعة أوسع من الكُتّاب الّذين صادف وفاتهم في ذلك التاريخ أو تلك الفترة كالشاعر غارثيلاسو دي لا فيغا. لكنّ أساس الفكرة ظلّ مرتبطًا بهما لأنّهما فخر أمّتيهما الأدبيّين وسفيرا الأدب فيهما إلى الآن[1]. حتّى إنّ اقتراح تعيين هذا اليوم أصلًا كان لأنّ الكاتب الإسبانيّ بيثينتيه كلافيل أندريس أراد تشريف ثيربانتيس بتعيين إمّا تاريخ ميلاده في تشرين الأوّل (أكتوبر) أو ذكرى وفاته في نيسان (إبريل) كيوم للكتاب. و«اليونيسكو» ذهبت لتاريخ وفاته بسبب الصدفة الّتي جمعته بالشاعر والمسرحيّ الإنكليزي، ولكي يستمتع الناس أيضًا بنشاطات خارجيّة مرتبطة بالكتب في ربيع نيسان عوضًا عن برد تشرين.

دأ العمل بتسمية مدينة في العالم كعاصمة عالميّة للكتاب حيث يبدأ اللّقب للمدينة المُختارة في اليوم العالميّ للكتاب من السنة المُقرَّرة إلى ذات اليوم في السنة الّتي تليها...

مع انقلاب القرن الحادي والعشرين تحوّل هذا التاريخ إلى رأس سنة كُتُبيّة، فقد بدأ العمل بتسمية مدينة في العالم كعاصمة عالميّة للكتاب حيث يبدأ اللّقب للمدينة المُختارة في اليوم العالميّ للكتاب من السنة المُقرَّرة إلى ذات اليوم في السنة الّتي تليها. تقوم المدن بتقديم الطلب لتنال اللّقب ويجري الاختيار حسب المشاريع والمبادرات الموجودة الّتي تقوم بالتشجيع على القراءة.

قد يستلزم العمل على دراسة هذه المبادرة لفهم آليّات «اليونيسكو» ومعاييرها لتحديد التاريخ والمدينة، وربّما دراسة نقديّة ستكون ضروريّة لفهم طبيعة البرامج الّتي تسعى للتشجيع على القراءة، وما هي الغاية الحقيقيّة من المنافسة السنويّة بين مدن العالم لتكون عاصمة عالميّة للكتاب وماذا يعني أيضًا حصول أيّ مدينة على اللقب.

لكن في الأساس يحيّرني اختيار هذين الكاتبين دون سواهما لتكون وفاتهما مناسبة لتذكّر الكتاب. ليس لأنّهما غربيّان أو أبناء إمبراطوريتيّن احتلّتا رقعة كبيرة من الكوكب. بل لأنّهما شاعران ومسرحيّان وثيربانتيس كان روائيًّا أيضًا.

 

الكتابة لأجل الكتاب

الكتب ليست فقط المؤلفات الأدبية حصرًا، لكن مع هذا فإنّ المؤلّفات الأدبيّة تختصر مفهوم الكتاب في أذهاننا. ما كنّا لنتخيّل أنّ كتب نيوتن أو كتب فيلسوف مثل كانط أو كتابًا للنقد الأدبيّ ككتب الجاحظ ستجعل من البشر يختارون تاريخ وفاة أحدهم يومًا عالميًّا للكتاب. كأنّنا ندرك، بلا أن نعي أنّنا ندرك، أنّ اليوم العالميّ للكتاب يجب أن يرتبط بذكرى كاتب كَتَبَ كتابًا بهدف الكتاب نفسه لا بهدف استخدامه كوسيط فحسب. بمعنى أنّ المؤَلَّف العلميّ يسعى لضمّ العلوم بين طيّات كتاب على أمل فهم أشمل للعالم وإمكانيّة تطويره. بينما الأديب يكتب لأجل الكتابة، ومَنْ يكتب لأجل الكتابة فهو يكتب لأجل الكتاب أيضًا. فالحدثان يقعان معًا[2]. لا أحد يعتبر أنّ كتابًا للتطوير الذاتيّ أو كتب المساعدة الذاتيّة تؤلّف بغرض متعة قراءتها - والمتعة هنا ليست بمعنى تسلية، بل المعنى النقديّ المعنيّ بالإلمام بالتراكيب اللغويّة والأسلوب - بل إنّها مكتوبة بغرض تطبيقها في الحياة اليوميّة سواءً على صعيد الحياة الاجتماعيّة أو الزوجيّة أو في شؤون العمل.

قد نربط بين الأدب والحياة، وقد يعطينا الجيّد منه زوايا مختلفة لاعتبار الحياة والواقع، وقد يكون مهربًا منهما أيضًا. الإنسان الّذي وعى على وجود نفسه لم يقدر أن يقبل أن يحصرها في واقعٍ أُحاديّ رتيب، فبدأ بصنع الأساطير وتطويرها حتّى اضطر إلى استعمال الكتابة لأنّ ذهنه بدأ ينضح بما لا تقوى ذاكرته على استيعابه وحفظه؛ فكان الكتاب. العالم الموازي الذي يُخلِص له الأديب بينما يحاول رجال الأعمال والتجّار وكُتّاب التسلية والمساعدة الذاتيّة تطويعه لخدمة الواقع، تطويعه حتّى استعباده لدرجة أنّه يلزمنا يوم في السنة نتذكّره فيه.

ندرك، بلا أن نعي أنّنا ندرك، أنّ اليوم العالميّ للكتاب يجب أن يرتبط بذكرى كاتب كَتَبَ كتابًا بهدف الكتاب نفسه لا بهدف استخدامه كوسيط فحسب...

ثيربانتيس وشيكسبير يقدّمان نموذجًا متكـرّرًا لدى الأُدباء في السعي إليهما. فالأوّل عُرِف برائعته «دون كيخوتيه دي لا مانتشا» (1605-1615)، أمّا الآخر فاسمه مرتبط بأسلوبه. لا أهمّيّة لثيربانتيس من دون الفارس حزين الهيئة دون كيخوتيه. بل إنّ دون كيخوتيه استطاع أن ينفصل عن كاتبه لدرجة أنّ شخصيّة الفارس الخياليّة تستطيع النجاة بلا كاتبها، أمّا ثيربانتيس فسينهار بلا دون كيخوتيه. كثير من النقّاد يعتبرون أنّ أعماله الأُخرى لا ترتقي لمستوى هذا العمل العبقريّ. في حين أنّ مسرحيّات شيكسبير بقيت مرتبطة به، اسمه ولغته هي ما جعلتها تُعرَف. صحيح أنّ كيليطو اعتبر في الاقتباس الافتتاحيّ من فصل «العرب والكتاب» من كتابه «ترحيل ابن رشد» أنّ مسرحيّة «هاملت» هو الكتاب النموذج للأدب الإنكليزيّ، لكن بحذفها من التاريخ تبقى مسرحيّات «ماكبيث» و«الملك لير» و«عُطيل» و«روميو وجولييت» أعمدة تحول دون انهيار اسم ويليام شيكسبير.

 

بين قراءة الكاتب وقراءة الكتاب

ماذا يعني هذا لقارئ؟ يعني أنّه يقرأ «دون كيخوتيه» لأنّها «دون كيخوتيه» بينما يقرأ «هاملت» لأنّها لشيكسبير. الفارق بين النموذجين ليس حادًّا بالشكل الّذي نصفه؛ فبعض الكُتّاب استطاعوا بناء ملحمة عبقريّة كـ «دون كيخوتيه» فحوّلت أسماءهم إلى شيكسبير جديد. تمامًا كما حصل مع ليف تولستوي بعد كتابته للـ «الحرب والسلم» (1865-1869) الّتي تفرّغ للبحث والعمل عليها قرابة الستّ سنوات حتّى قام بإخراج أسطورة حديثة لا مثيل لها، فحوّلت اسم تولستوي إلى سبب لاقتناء كتبه وقراءتها. يجب القول مع ذلك إنّ أعمال تولستوي الأخرى لا تقلّ أهمّيّة عن «الحرب والسلم».

هذه الحالة تفرز الأدباء، وإن ليس بشكل حادّ، إلى مَنْ نقرأ العوالم الّتي أبدعوها أو من نقرأ أسماءهم. فرغم شخصيّة المحقّق هيركول بوارو الفريدة في روايات أغاثا كريستي، إلّا أنّ كتُبها بيعت لأنّها من تأليفها هي، حتّى تلك الّتي لم يكن بوارو موجودًا فيها. بل وأيضًا في إعادة إنتاج الروايات لاحقًا على الشاشة بقي اسم أغاثا كريستي جزءًا من عنوان العمل الدراميّ. كذلك الأمر بخصوص كاتبة كدانييل ستيل حيث اسمها على مجمل كتبها بشكل الخطّ نفسه وبحجم أكبر من العنوان. الناس تقرأ دانييل وليس كتب دانييل. هذه الممارسة هي تفسير ظهور مجلّدات الأعمال الكاملة للكُتّاب، وهذا لا ينطبق فقط على الأعمال الروائيّة بل يُسحَب على الفكريّة كذلك.

بعض الكُتّاب استطاعوا بناء ملحمة عبقريّة كـ «دون كيخوتيه» فحوّلت أسماءهم إلى شيكسبير جديد. تمامًا كما حصل مع ليف تولستوي بعد كتابته للـ «الحرب والسلم»...

بالمقابل فإنّ كُتّاب الفانتازيا يصنعون عوالم تتعدّى على مؤلّفيها، لا أحد يقرأ «سيّد الخواتم» (1954-1955) لأنّها من تأليف ج. ر. ر. تولكين وكذلك الأمر لا أحد يقرأ سلسلة «هاري بوتر»  (1997-2007) لأنّها من تأليف ج. ك. رولينغ، لكنّ النجاح الّذي أصابته الأخيرة في هاري بوتر جعل الناس تتهافت على كتابها اللاحق الّذي أصدرته تحت اسم مستعار بعد انكشاف الأمر. كتابها الجديد هذا مرتبطٌ بها أمّا السلسلة الأولى انفصلت عنها. وهذا تمامًا ما يفعله بعض الإسبان لثيربانتيس؛ ينبشون أعماله الأُخرى لأنّها له وحسب، أو يطلقون اسمه على مؤسسات عامّة معنيّة باللّغة والثقافة وما شابه، أمّا دون كيخوتيه فهو يتجوّل في طرقات إسبانيا والعالم لوحده بلا حاجة لميغيل دي ثيربانتيس واسمه وصيته.

هل يسأل كلّ كاتب، أو كلّ مَنْ يباشر خوض هذا الغمار، نفسه سؤال "ماذا أريد أن أصنع بقلمي"؟ هل أريد أن أصنع من نفسي شيكسبيرًا جديدًا أم أريد أن أبني بكلماتي دون كيخوتيه آخر؟ لا أفضليّة لأحد النموذجين على الآخر، أمّا أنا ففي كلّ ثالث وعشرين من نيسان فسأتمنّى لكلّ قارئ وكاتب عامًا سعيدًا.

 


إحالات

[1] عمر زكريّا، "الكتاب السفير"، مجلّة رمّان الثقافيّة، 27/07/2021، شوهد في 23/04/2022، في: shorturl.at/gxAEO. 

[2] عمر زكريّا، "مقدّمة في الكتابولوجيا"، المتلمّس، 22/09/2021، شوهد في 23/04/2022، في: shorturl.at/qBDIV. 

 


 

عمر زكريّا

 

 

 

مؤلّف، روائيّ وكاتب أدب غير تخييليّ يقيم في عمّان، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة وصدرت له رواية «القرطبيّ، يستيقظ في الإسكندريّة» عن «منشورات ضفاف» (2021).