وقف الشريط في وضع ثابت

من تشييع الشهيدة شيرين أبو عاقلة | Getty

 

المشهد الأخير في التقرير

جيفارا تطلّ من سقف الكنيسة تبكي بشموخ، وجدت لنفسها مكانًا يليق بالتغطية ويليق بالشهيدة، كما فعلت هي وزملاؤها طيلة عشرين عامًا، مع كلّ ارتقاء لشهيد يكرّمونه بتغطية تليق به، ويجدون مكانًا يضمن لنا، نحن جموع المشاهدين، صورة تنقل الواقع دون زيادة أو نقصان. لله درّك يا جيفارا! إذ ربطت على الوجع، وأدّيت الأمانة تجاه الشهيدة، كما كنت دائمًا تفعلين.

منذ تشييع شيرين في جنازتها، برز على الألسن وفي الإعلام مصطلح جديد، وهو ’حملة النعش‘، ملحمة نعش شيرين أبو عاقلة البطوليّة مشهد لخّص الحكاية، كأنّ جسد شيرين رفض أن يذهب دون تلخيص الدرس، يحميها شباب القدس كما لو أنّها الوطن، والوطن كما الشهيد لا يسقط. هؤلاء الشبّان الّذين حموا النعش حبًّا وصلابة وتحدّيًا كانوا يعلمون أنّهم يحملون الفكرة عن كلّ وطننا العربيّ، وعن كلّ قلب كان يشاهد قناة «الجزيرة» وارتعب من فكرة سقوط شيرين، وصوت جيفارا يصرخ على الهواء، ويُطَمْئِن الناس من جهة، ويتحدّى من الجهة الأخرى، ويثق بشباب القدس، ويصرّ على أنّ "التابوت لم يسقط".

ملحمة نعش شيرين أبو عاقلة البطوليّة، هي مشهد لخّص الحكاية وكأنّ جسد شيرين رفض أن يذهب دون تلخيص الدرس، يحميها شباب القدس كما لو أنّها الوطن...

 خفنا عليها حتّى وهي مستشهدة. كيف لا وجيل أهالينا يعتبرونها ابنتهم، وجيلنا يعتبرها معلّمته وبطلةً من أبطاله، والأجيال الصغيرة اعتبرتها قدوة وأنّ لذاكرتهم في مشهد استشهادها عزاء؟ قاتلت شيرين في دقائقها الأخيرة؛ فشباب القدس حاملون الأمانة لصحافيّة نطقت باسمهم واسم مآسيهم، دافعت عنهم وعن حقّهم، وكانت قريبة من الإنسان كما قالت. إضافة إلى أنّ أولئك الأبطال لا يقبلون أن يقترب أحد من ابنة مدينتهم حيّة كانت أو ميّتة، هي الّتي قاتلت وحاربت من أجل وعيهم الوطنيّ، وكشفت لهم حجم المكائد الإسرائيليّة الاستعماريّة وطرائقها الّتي تحيط بالقدس. اليوم، يردّون الأمانة ويحفظون للقدس سيادتها، أمام محتلّ غاصب يجنّ من أيّ مظهر أو فعل أو كلمة تثبت السيادة العربيّة في القدس، وشيرين فعلت كلّ هذا في حياتها ومماتها.

بيد أنّها رحلت دون أن تعلم غالبًا أنّها تركت حبًّا منقطع النظير، كما جنازتها الّتي امتدّت بين مدن الوطن، رافعةً حواجزه، محرّرة طرقه بعلمنا؛ علم فلسطين، محمولة على الأكتاف وفي القلوب.

بعد الاعتداء السافر الّذي وضع الاحتلال نفسه من خلاله أمام تابوت، وبعد أن تحمّل شباب القدس الضرب والتنكيل، أجبر الاحتلال شيرين على الخروج وحدها من المستشفى، وحاصرونا بداخله، إلّا أنّ مجموعة أخرى من شباب القدس رفضوا أن تسير بطلتهم وحيدة، وأظهر فيديو صوّروه هم، رغم خطر اعتقالهم، يهتفون: "من القدس لجنين إحنا زفّينا شيرين". يعتقد جنود الاحتلال الأغبياء أنّه بخروج شيرين وحيدة تنتهي القصّة، فتنتظرها الآلاف المؤلّفة في ساحة الكنيسة، ولتزفّها في جنازة تحوّلت إلى مسيرة ضخمة أشبه بيوم التحرير؛ ليكون هذا آخر مشهد في آخر تقرير تقول شيرين كما قالت: شيرين أبو عاقلة، «الجزيرة»، القدس عربيّة فلسطينيّة. 

 

شكرًا شيرين... لأنّك شيرين

في مشهد عزّة صارخ، وقف الأستاذ وليد العمري، مدير مكتب «الجزيرة» في رام الله وكبير مراسليها، كالجبل يسند قلوب الناس الّتي كُسِرَت حزنًا على شيرين، وخوفًا عليه من أن ينكسر أو يضعف، على عكس ما عرفه الناس طيلة حياتهم، وقف مؤدّيًا تحيّته على طريقته؛ بسيطًا متواضعًا كريمًا محبًّا، كلماته واضحة ومباشرة بلا أيّ تنميق لزميلته الغالية، شاكرًا إيّاها ومودّعًا لها، قائلًا: "شكرًا لك لأنّك كنت كما أنتِ، وشكرًا لك لأنّك كنت كما كنتِ، شكرًا لك لأنّك كنت جزءًا أصيلًا من طاقم ’الجزيرة‘ في هذه الديار، وشكرًا لك لأنّك كنت أصيلة كإنسانة وكمهنيّة، وكنت على خلق عظيم، شكرًا لك لأنّك كنت صديقة وزميلة لنا في هذه الديار، وفي هذا العمل الشاقّ والصعب، الّذي استشهدت بسببه ومن أجله. وداعًا شيرين أبو عاقلة، وداعًا لأنّك في استشهادك تجلّت هذه الصورة العظيمة لهذا الشعب العظيم".

حرّرت شيرين درب الآلام والطريق الحرام، طريق جبل صهيون، رفرف علمنا يحمله الناس، وعلى يسارهم سور القدس، وعلى يمينهم أشجار زيتون، كأنْ لا احتلال في المشهد الأخير الّذي وقّعته شيرين باسمها...

شابّة عربيّة أصيلة طيّبة القلب نبيلة المشاعر كثيرة العطاء، حيّا الناس بعضهم بعضًا يوم جنازتها بالترحّم عليها، وساروا وراءها بحرًا؛ لتعيد لباب الخليل أيّام صباه، وتمرّ من تحته حشود الناس رافعين علم ثورتنا. باب الخليل الّذي حُرِمَ من فضائه العربيّ منذ النكبة، وكانت الاحتلالات المتعاقبة تنهش من الحيّز المحيط به، وتستولي عليه رويدًا رويدًا؛ فالباب المفتوح على الجهة الغربيّة للقدس، أطبقت إسرائيل السيطرة عليه مع نكسة عام 1967، وأُوصِدَ أمام المواكب العربيّة المحتفلة في عيد الميلاد من القدس إلى بيت لحم، والقادمين للصلاة والاحتفال في رمضان من مدن الضفّة الغربيّة، يقع عند خطّ الهدنة أو ما كان يُعْرَف مقدسيًّا بـ ’المنطقة الحرام‘، الفاصلة بين دولة الاحتلال وبين بقيّة القدس الّتي أضحت في حينه تحت الإدارة الأردنيّة.

شيرين، الّتي طاف بها شعبها لثلاثة أيّام متواصلة، حرّرت درب الآلام والطريق الحرام، طريق جبل صهيون، رفرف علمنا يحمله الناس، وعلى يسارهم سور القدس، وعلى يمينهم أشجار زيتون، كأنْ لا احتلال في المشهد الأخير الّذي وقّعته شيرين باسمها، بعد أن حرّرته كما حرّرت العقول من قبله.

ستفتقدك التغطيات، سيفتقدك الناس من أمام الشاشات، نعاهدك، يا حبيبتنا، على أن ننقل الحقيقة مهما كان الثمن، وأن تبقى التغطية مستمرّة.

 


 

منى عمري

 

 

 

صحافيّة فلسطينيّة، مهتمّة في تأثير الصورة والعلاقات الاستراتيجيّة الدوليّة.