النكبة بوصفها صدمة نفسيّة

 

أجلس في غرفة انتظار العائلات أمام غرفة العمليّات، في الوقت الّذي تخضع فيه أمّي لعمليّة جراحيّة لتبديل ركبتها. أخبرها الأطبّاء أنّ ركبتها مهترئة جدًّا، وأنّه بسبب عمرها لن يكون لديها فرصة أخرى مستقبلًا لإجراء هذه العمليّة. رفضت أمّي لسنوات طويلة الخضوع لهذه العمليّة وتظاهرت أنّ بإمكانها تحمّل الوجع دون اللجوء إلى الجراحة الطبّيّة.

أمّي من مواليد النكبة، لا تعرف تاريخ ميلادها بشكل دقيق، حيث أنّ العائلة أخبرتها أنّها وُلِدَت مع بداية الحرب، سُمِّيَتْ ’نصرة‘، أملًا بالنصر في الحرب. عندما كان عمرها ما يقارب الشهر، غادر أجدادي وأقرباؤهم بيوتهم وبلداتهم وذهبوا إلى البلدات المجاورة الّتي فيها تجمّعات سكّانيّة كثيفة، وذلك بعد أن هدّدتهم العصابات الصهيونيّة بالقتل إن لم يتركوا منازلهم، وبعد أن اشتدّ لديهم الخوف من أن تقتلهم العصابات الصهيونيّة دون أن يعرف أحد ذلك ودون أن يأتي أحد لنجدتهم.

كانوا يسكنون منطقة تسمّى ’بصّة الفالق‘ قضاء طولكرم، قريبًا من مركز ومعتقل للشرطة البريطانيّة. جزء منهم قرّر الذهاب إلى بلدة الطيرة في ما يُعْرَف اليوم بـ ’المثلّث‘، أمّا الجزء الآخر فذهب إلى ما بات يُعْرَف بـ ’الضفّة الغربيّة‘. كان جدّي وجدّتي ممّن ذهبوا برفقة بناتهم الخمسة إلى الطيرة، وبعد خروجهم من البيت ومشيهم مسافة ليست بالطويلة تذكّرت إحدى خالاتي أنّهم لم يُحْضِروا أختهنّ الرضيعة، فعادوا إلى البيت مسرعين وأخذوها معهم.

كان جدّي وجدّتي ممّن ذهبوا برفقة بناتهم الخمسة إلى الطيرة، وبعد خروجهم من البيت ومشيهم مسافة ليست بالطويلة تذكّرت إحدى خالاتي أنّهم لم يُحْضِروا أختهنّ الرضيعة...

يخرج الممرّض بين الحين والآخر في غرفة انتظار العائلات ويعلن كلّ مرّة عن اسم مريض انتهت عمليّته ونُقِلَ إلى غرفة الإنعاش. بعد مرور بضع ساعات قرّرت التوجّه إليه وسؤاله إذا ما نُقِلَتْ أمّي أيضًا إلى غرفة الإنعاش، فقال لي إنّها لا تزال في العمليّة. بقيت وحدي في غرفة انتظار العائلات بعد أن نادى الممرّض على جميع مَنْ في الغرفة للقاء أقربائهم المرضى.

في هذه الأثناء بدأت بقراءة كتاب عن النكبة. الهدوء وحقيقة عدم قدرتي على مغادرة المكان إلى أن يناديني الممرّض أتاحا لي فرصة القراءة. استوقفتني فقرة امتزجت جيّدًا مع ما شعرت حينها من حزن واستسلام: "يجد الفلسطينيّون غياب الجمهور مؤلمًا؛ ولعدم قدرتهم على اكتشاف العيوب الجوهريّة في موقفهم الأخلاقيّ، فهم غير قادرين على فهم السبب وراء انعدام تحقّق العدالة. لقد طال أمد انتظار العودة من المنفى بينما هم مجبَرون على العيش في ما تبقّى من تخيّلات تقريبيّة رخيصة ومنسوخة عن فلسطين. أدّى غياب العقل الأخلاقيّ واللا مبالاة الظاهرة لأولئك الّذين يمكنهم إحداث بعض الحلول السياسيّة إلى إخراج الفلسطينيّين عن مسارهم في بحثهم عن معنى كارثتهم وتطلّعهم لأن يكونوا ’شعبًا كالآخرين‘[1].

 

ركبة أمّي

أعود إلى التفكير بأمّي وبركبتها المهترئة الّتي يحاول الأطبّاء جاهدين السيطرة على حدود اهترائها، ومن ثمّ تبديلها بأخرى اصطناعيّة جديدة. تقول أمّي، في تقبّل وتفهّم، إنّها تلقّت عبر السنين ومنذ طفولتها الكثير من الضربات على ركبتها هذه؛ إذ اعتادت في طفولتها قضاء الكثير من الوقت خارج البيت في الحقل والبيّارات المجاورة واللعب مع إخوتها الصبيان الّذين ولدتهم جدّتي بعد أمّي. تسرد قصص بعض هذه الضربات الّتي تدلّ على شجاعة وإبداع في اللعب إلى جانب التزام صارم بالوظائف المعطاة لها داخل العائلة، مثل أن تقوم بحماية إخوتها، وذلك يأتي قبل التزاماتها تجاه ذاتها أو حتّى وعيها بنفسها. يمكن ملاحظة تعابير حزن ووجع بادية في ملامها عند حديثها عن ذلك. تلقّت الضربات على ركبتها كالغدر المفاجئ، حيث لم تملك فرصة للتهيّؤ أو الاحتماء، ومثلما يحدث مع الكثيرين ممّن يعانون الصدمات، حاولت أمّي جاهدة العودة إلى حياتها ووظائفها المعتادة كما لو لم تتلقّ أيّ ضربة على ركبتها من قبل.

عندما وصلتُ إلى غرفتها في الصباح الباكر كانت ممرّضة تقف إلى جانب سريرها تُجْري لها بعض الفحوصات. أشارت أمّي إليّ وقالت هذه ابنتي، فأجابتها الممرّضة ممازحة بالعبريّة: "إنّها تشبهك، لذلك لا أشكّ أنّك سرقتها، فهي تبدو فعلًا ابنتك". نظرت أمّي إليها حائرة كمَنْ فوجئت بكلام لا تعرف كيف تردّ عليه.

بعد ذهاب الممرّضة، وخلال الوقت الّذي انتظرنا فيه نقلها إلى غرفة العمليّات، تحدّثنا عن أمور كثيرة. بدت لي ودودة ومستسلمة للقدر، على خلاف عادتها حيث تمتلك جوابًا وردّ فعل سريع لكلّ كلام أو خبر يوجّه إليها. قلت لها إنّ والدة صديقتي، وضمن التأمين الصحّيّ الخاصّ، اختارت الجرّاح الّذي أجرى لها العمليّة، وسألتني إن كانت أمّي فعلت ذلك أيضًا. قالت أمّي إنّها لا ترى داعٍ إلى ذلك، بل ترى فيه تبذيرًا غير مبرّر... فكلّ الأطبّاء جيّدون.

أمّي الّتي عاشت النكبة منذ أن وُلِدَت، ومنذ أن كانت طفلة مجتهدة تعلّمت وذوّتت في داخلها إدراكًا وجوديًّا بأن تعيش الحياة من منطلق صراع البقاء، وهي تعرف جيّدًا من خلال ذاكرة الجسد، ومنذ أن أُجْهِضَتْ من ذاكرة العائلة عندما نُسِيَت بداية التهجير، أنّ الإجهاض/ الإخفاق، هو إمكانيّة وإرادة في كلّ مواجهة، وأنّه حتّى أفضل الجرّاحين معرّض لأن يخفق في عمله ولو لمرّة واحدة. وحيث أن لا ضمان مؤكّد أو مطئمن أن لا يحصل ذلك هذه المرّة أيضًا، فأن تدفع مبلغًا إضافيًّا مقابل اختيار الجرّاح الّذي سيُجري لها العمليّة سيعدّ مخاطرة وتبذيرًا؛ فمسألة الثمن دائمة الحضور في ذهنها، وكي لا تقع في حالة لا يكون بيدها ثمن ما تحتاجه، هيّأت نفسها دائمًا للأسوأ وتبنّت نمط حياة بسيطًا، مكتفية باقتناء ما يلزمها ويحفظ كرامتها أمام الآخرين. ذلك ما مكّنها من أن تكون أوّل مَنْ يقدّم المساعدة المادّيّة لأقربائها حين يواجهون أزمة ما، وأظنّها في طبعها هذا أرادت أن تضمن أن تكون حاضرة في الأوقات الصعبة.

 

سنة الهجيج

يشير الفلسطينيّون إلى عام 1948، عام النكبة، بـ ’سنة الهجيج‘، وهي مفردة عامّيّة فلسطينيّة تعني الهرب من الخطر المؤكّد[2]. فور انتهاء الحرب، وبعد أن هجّرت العصابات الصهيونيّة أغلب السكّان الفلسطينيّين من مدنهم وقراهم، وأُعْلِنَ عن قيام الدولة الاستعماريّة الجديدة – إسرائيل – تسبّب ذلك في انقطاع العلاقات بين الفلسطينيّين الّذين لم يغادروا حدود الكيان الاستعماريّ وبين ذويهم الّذين هُجِّروا إلى خارج تلك الحدود، وكذلك انقطاع العلاقات مع الدول العربيّة المجاورة.

تتطرّق أريج صبّاغ- خوري في دراسة عن مصير المهجّرين الفلسطينيّين الّذين ظلّوا في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، إلى ثلاث فترات زمنيّة تلت انتهاء الحرب، وهي: (1) السنوات ما بين عامي 1948-1951، الّتي تنقّل فيها المهجّرون من قرية إلى قرية بحثًا عن مكان آمن من القتل والترحيل، ومن ثمّ (2) السنوات ما بين عامي 1951-1956، حيث كان المهجّرون في حالة انتظار، وقد تعاملوا مع واقعهم بوصفه مؤقّتًا إلى حين يتمكّنون من العودة إلى مدنهم وقراهم الأصليّة، ومن ثمّ (3) عام 1957 وما بعده، حيث بدأ المهجّرون يستوعبون واقع أنّ ’إسرائيل‘ ليست حالة مؤقّتة وقريبة الزوال كما اعتقدوا، إذ زادت هزيمة مصر في حرب عام 1956 من شعور اليأس والهزيمة، وهنا بدأ كثيرون بشراء الأراضي والبيوت في المدن والقرى الّتي مكثوا فيها بعد التهجير[3].

لم تنته النكبة وما شهدته من أحداث قاسية مع انتهاء الحرب، بل تتابعت الأحداث وعاش الفلسطينيّون بعدها تجارب قاسية أخرى هدّدت كيانهم، ما جعلهم في حالة ترقّب مستمرّ وخوف من المستقبل...

لم تتعامل السلطات الاستعماريّة مع مسألة المهجّرين واللاجئين الفلسطينيّين داخل حدودها بأيّ طريقة، إذ لم تعلن عن مخطّطها لمنعهم من العودة إلى أماكن سكنهم قبل الحرب، ولم تقم بإحصائهم بصفتهم لاجئين أو مجموعةً في حدّ ذاتها، تختلف عن بقيّة السكّان الفلسطينيّين الّذين ظلّوا في مدنهم وقراهم. أبقت السلطات الاستعماريّة اللاجئين في حالة ترقّب وخوف دائمة، دون أن يعرفوا ما سيحلّ بهم في المستقبل، وما إن كان سيُتاح لهم العودة إلى بيوتهم أم سيطردون خارج حدود الدولة الاستعماريّة. أُضِيفَ إلى ذلك فرض السلطات الاستعماريّة الحكم العسكريّ على الفلسطينيّين بعد النكبة، ما زاد من معاناتهم في عيشهم اليوميّ، وفاقم شعورهم بانعدام الطمأنينة وعدم القدرة على اتّخاذ قرار يتعلّق بمستقبلهم، كما أكّد على شعورهم بأنّ السلطات الاستعماريّة تنظر إليهم كما فعلت قبل الحرب، بوصفهم يشكّلون خطرًا وتهديدًا، ولا ترغب في وجودهم أو التعامل معهم.

في الفترة الزمنيّة الّتي فُرِضَ فيها الحكم العسكريّ على الفلسطينيّين الباقين في بلادهم، استقبلت السلطات الاستعماريّة ووطّنت المستوطنين اليهود الجدد في المدن والقرى المُفْرَغَة من أهلها؛ لتزدهر فيها حياة جديدة تتجاهل تاريخ المكان وأصحابه، في محاولة لصبغه بألوان وحضارات جديدة تخفي ما شهده المكان إبّان الحرب، وما كان عليه قبل ذلك.

لم تنته النكبة وما شهدته من أحداث قاسية مع انتهاء العمليّات العسكريّة خلال شهور النكبة، بل تتابعت الأحداث وعاش الفلسطينيّون بعدها تجارب قاسية أخرى هدّدت كيانهم، ما جعلهم في حالة ترقّب مستمرّ وخوف من المستقبل وما سيحمل من كوارث أخرى. ذلك ما جعل عمليّة اتّخاذهم لقرار توطين أنفسهم والاستقرار في أماكنهم الجديدة، بما يشمل امتلاكهم بيوتًا أو أراض جديدة، عمليّة بطيئة مركّبة وصعبة في الآن نفسه، وفي أغلب الأحيان لم تحدث تلك العمليّة إلى أن انتهى الحكم العسكريّ عام 1966[4].

 

النكبة بوصفها صدمةً نفسيّة

تُعَرَّفُ الصدمة (Trauma) في علم النفس بالتجربة الّتي يعيشها الفرد ولا يقدر على استيعابها، إذ تُشْعِرُه بذعر شديد من موت أو بتر لأعضاء جسمه يبدوان له شبه مؤكّدين، حيث يدخل الجسد والنفس في حالة من التجمّد والترقّب المستمرّة المكثّفة، في مواجهة ذلك الخطر للاحتماء منه.

بعد انتهاء الحدث/ التجربة الصادمة، وبعد التأكّد من زوال الخطر والوصول إلى حالة من الأمان، يبدأ الفرد بالاسترخاء ومحاولة استيعاب ما جرى والبحث عن وصف/ صياغة للصدمة الّتي عاشها، وذلك وصولًا إلى رموز تمثّل الصدمة خارج النفس؛ رموز يمكنها أن تكون كلاميّة من خلال سرد الأحداث وتدوين ما جرى أثناء الصدمة، أو من خلال الكتابة والشعر، كما يمكنها أن تكون رموزًا فنّيّة إبداعيّة، مثل رسم لوحة أو بناء نصب تذكاريّ يذكّر بصدمة جماعيّة.

في دراسة طويلة الأمد أجرتها بروفيسور نهاية داوود وزملاؤها[5] حول الآثار الصحّيّة الناتجة عن التهجير والعنف الّذي تعرّض له المهجّرون الفلسطينيّون الّذين بقوا في بلادهم، أكّدت الدراسة على وجود آثار صحّيّة ونفسيّة طويلة الأمد، تعود إلى ما عايشوه خلال النكبة من أحداث صادمة وعنف، وبدرجات أعلى وبشكل ملحوظ عن بقيّة المجموعات الّتي شملتها الدراسة. إنّ ما عايشه فلسطينيّو الأراضي المحتلّة عام 1948 المهجّرون خلال النكبة لم يُمْحَ، بل استمرّ حضوره من خلال الجسد والنفس، ومن خلال الأعراض الجسديّة والنفسيّة المستعصية الّتي تحمل في طيّاتها شهادة حيّة على ما جرى لها خلال النكبة، إلى جانب الأمل أن تجد مَنْ يستمع لتلك الشهادات ويصدّقها والتأكّد من أنّ إخفاقاتها المتكرّرة في مواجهة الحياة لم تكن نتيجة خلل أو جنون بنيويّ عرقيّ تعاني منه، بل كان نتيجة تعرّضها لأحداث صادمة مترسّبة في وعيها.

تعرّف النكبة أيضًا بصفتها صدمة مستعصية مستمرّة، كونها لا تزال حاضرة من خلال ما يعيشه الفلسطينيّون من سياق استعماريّ عنصريّ عنيف يرفض الاعتراف بجرائمه، ويعمل على المحو الدائم لسجلّات النكبة ورواياتها والتشكيك في وقائعها، في سعي إلى إنكار الوجود الفلسطينيّ، والتعامل معه بوصفه كذبة وُجِدَت من العدم لا تاريخ ولا جذور لوجوده[6].

تعرّف النكبة أيضًا بصفتها صدمة مستعصية مستمرّة، كونها لا تزال حاضرة من خلال ما يعيشه الفلسطينيّون من سياق استعماريّ عنصريّ عنيف يرفض الاعتراف بجرائمه...

كذلك يُفَكَّر بالنكبة على أنّها بداية التاريخ الفلسطينيّ المعاصر، تاريخ من التغيّرات الكارثيّة والقمع العنيف ورفض الزوال. النكبة هي النقطة المرجعيّة للأحداث الأخرى في الماضي أو في المستقبل. فـ ’وعد بلفور‘ (1917) يكتسب أهمّيّته من إتباعه بالنكبة، وكذلك الأحداث البارزة في التاريخ الفلسطينيّ مثل احتلال قطاع غزّة والضفّة الغربيّة عام 1967، حرب أيلول الأسود على الفلسطينيّين في الأردنّ (1970- 1971)، مجزرة صبرا وشاتيلا (1982)، يوم الأرض (1976)، انتفاضة الحجارة (1987) انتفاضة القدس والأقصى (2000)، حصار قطاع غزّة والحروب الاستعماريّة المتتالية عليه منذ عام 2008 حتّى الآن. كلّ ذلك ما كان ليحدث لو لم تسبقه النكبة؛ فالنكبة تشكّل حدثًا رئيسيًّا في التقويم الفلسطينيّ، وهي خطّ الأساس للتاريخ الشخصيّ وفرز الأجيال.

 

تمازج الجمعيّ مع الشخصيّ 

رغم انتظاري حتّى ساعة متأخّرة في غرفة انتظار العائلات، إلّا أنّني لم أتمكّن من رؤية أمّي بعد خروجها من غرفة العمليّات في ذلك اليوم. أخبرني الممرّض أنّها تمكث في غرفة الإنعاش، طلبت منه الدخول لرؤيتها قبل أن أذهب إلى موعد مهمّ، لكنّه رفض وقال إنّهم يبدّلون الورديّات الآن ولا يمكنهم السماح لأحد بالدخول إلى غرفة الإنعاش.

اضطررت في النهاية إلى أن أذهب دون رؤيتها، وبقي أبي وحده في انتظار خروجها إلى قسم العظام الّذي ستمكث فيه. عدت إليها صباح اليوم التالي فوجدتها متألّمة، تتحدّث عن التخدير ومدى صعوبة ما شعرت به عندما خُدِّر النصف الأسفل من جسمها. كان التخدير أكثر ما يزعجها، على الرغم من إدراكها لما تتسبّب به هذه العمليّة من آلام شديدة، وأنّ الآلام في الأيّام الأولى اللاحقة للجراحة هي الجزء الأصعب لدى أغلب مَنْ أُجْرِيَت لهم العمليّة؛ إذ يبدو أنّ الغياب عن الوعي وفقدان السيطرة على ما يجري من حولها كان أشدّ صعوبة عليها من الشعور بالألم الشديد. كذلك أخبرتني أنّها ذهبت إلى المرحاض وحدها تلك الليلة، دون أن تطلب مساعدة من أحد. استغربت كيف فعلت ذلك وتحمّلت الألم، لكنّني أيضًا أعرفها جيّدًا، فهي لن تهدأ إلّا إذا تأكّدت بنفسها أنّها تستطيع المشي على قدميها.

النكبة، وعلى الرغم من كونها حدثًا مفصليًّا في التقويم الفلسطينيّ، تركت أثرًا في شتّى مجالات الحياة، إلّا أنّ دراساتها، وحتّى يومنا هذا، اقتصرت على جوانبها الاجتماعيّة والتاريخيّة، وثمّة القليل من الدراسات الّتي عالجت آثار النكبة على الصحّة النفسيّة[7]، وقد أجمعت تلك الدراسات على أنّ ثمّة رابطًا قويًّا بين إتاحة المجال لاسترجاع وتدوين ذكريات النكبة، وبين التأقلم مع الواقع والتخفيف من حدّة الأعراض النفسيّة المرتبطة بالنكبة.

لم يكن سهلًا إقناع أمّي أن تشرب الأدوية المسكّنة الموصى بها، رغم أنّها كانت تصرخ من شدّة الألم. كذلك لم تنجح في النوم بسبب الألم الشديد. كان صبرها نافذًا وفظّة التعامل مع الطاقم الطبّيّ وجميع مَنْ حولها. نجحتُ في إقناعها بتناول الأدوية المسكّنة عندما أشرت إلى أنّه لا ذنب للطاقم الطبّيّ بأوجاعها، لذا لا يجدر بها معاملتهم بهذه الطريقة، وأن تتحمّل المسؤوليّة عن رفضها تناول الأدوية المسكّنة الموصى بها وما يسبّبه الأمر من معاناة شديدة. كنت أعرف أنّ كلامي هذا سيؤثّر في سلوكها؛ فتجربة الوقوع تحت ظلم ما وتهرّب الظالم من الاعتراف بفعله الظالم وتحمّل المسؤوليّة، هي تجربة معروفة ومؤلمة في الآن ذاته، وأمّي لم تكن ترضى بذلك، وبالطبع لم تكن تقبل أن تكون هي مَنْ يأتي بالظلم، ولا تقبل أن تأخذ حقًّا على حساب غيرها.

بعد ذلك، تعاونت أمّي راضية مع الطاقم الطبّيّ والممرّضين الّذين كانوا في أغلبيّتهم من فلسطينيّي أراضي 48، ودَعَتْ لهم عند مغادرتها القسم أن يكونوا دائمًا سبّاقين لفعل الخير وما يجلب الفخر لكلّ العرب.

 

بين المُعالَجِ والمُعالِجْ

تقول المحلّلة النفسيّة النسويّة العلائقيّة كارن مارودا، إنّه من ضمن الأسباب الّتي تحرّكنا للعمل في التحليل النفسيّ، أن نثبت أنّنا لسنا هدّامات (Destructive)، وأنّ الوجع النفسيّ الّذي تعيشه عائلاتنا لم يكن بسببنا، وأنّه يجب ألّا نتحمّل ذنبه. نقضي سنينًا طويلة في العمل من خلال التواصل العاطفيّ مع الآخرين؛ من أجل النجاة ومن أجل تخفيف مشاعر الذنب الّتي نحملها.

ثمّة رابطًا قويًّا بين إتاحة المجال لاسترجاع وتدوين ذكريات النكبة، وبين التأقلم مع الواقع والتخفيف من حدّة الأعراض النفسيّة المرتبطة بالنكبة...

تفترض مارودا أيضًا أنّ تحوّلنا إلى معالجات/ ين ومحلّلات/ ين نفسيّات/ ين، ويشمل ذلك اقتناعنا وتبنّينا النظريّات والتوجّهات المرتبطة بالنفس وكيفيّة معالجتها، تتشكّل بشكل كبير جدًّا من خلال تجاربنا ومواجهاتنا الذاتيّة؛ تلك التجارب الأكثر هشاشة والأكثر حميميّة المتجذّرة عميقًا في النفس. كذلك إنّ الدافع وراء تقديم العلاج والتحليل النفسيّ للآخرين هو الحاجة إلى خلق بقعة عمياء دائمة الحضور داخل النفس، للشروع برحلة طويلة حول تلك البقعة، تحمل أشكالًا مختلفة من الفشل أثناء استكشافها، وفي الوصول إلى ما نبحث عنه، ويشمل ذلك الحاجة إلى إنقاذ الآخرين، وحاجة الذات إلى أن تُنْقَذ هي أيضًا: "نعيد عيش ماضينا بينما نعالج مرضانا".

إنّ ممارسة تقديم العلاج/ التحليل النفسيّ تجري من خلال إفساح المجال للاستماع والانتباه الحسّيّ لما سيأتي به المعالَج للساعة العلاجيّة، وليس من خلالها فقط؛ فوعي وانتباه المعالَج مرتبط بالأساس بمبنى النفس لديه. أقصد بذلك المباني النفسيّة الّتي كتب عنها سيغموند فرويد (1865 -1939)، وتحدّث عنها جاك لاكان Jacques Lacan (1901-1981) بشكل أوسع من خلال سميناراته.

يؤكّد ذلك أنّ السيرورة العلاجيّة سيرورة وُجِدَتْ وكُرِّسَتْ لخدمة المُعالَجْ، وهي أيضًا مركّبة، تتداخل وتختلط فيها عدّة عوامل ترتبط بمبنى نفس المُعالَج ومبنى نفس المُعالِج، ولكي لا تفقد هذه السيرورة بوصلتها الدقيقة، أو تقع في خطر سوء استعمالها، يجدر بالمعالِج/ المحلِّل أن يمرّ هو نفسه بسيرورة علاج/ تحليل نفسيّ يعمل من خلالها على توسيع وعيه الذاتيّ وانكشافه على الأسباب والدوافع الخاصّة بها/ به، تلك الآتية من تجاربه الذاتيّة الحسّاسة والهشّة.

 

الماضي الخالق للحاضر 

دائمًا ما كنت أكثر ميلًا خلال عملي ودراستي إلى التحليل النفسيّ، رغم دراستي لتوجّهات ونظريّات أخرى عملتُ بموجبها في بداية مسيرتي المهنيّة، حيث يرتكز التحليل النفسيّ بالأساس على الإيمان بوجود ’لا وعي‘ يؤثّر في النفس وفي تشكيل الذات. يحمل اللا وعي كلّ ما لا يمكن أن يكون حاضرًا من خلال الوعي، وفي ذلك اعتراف مبدئيّ بالغائبين والمستَغابين عن الوعي، واعتراف بدورهم في تشكيل الذات حتّى قبل الوصول إليهم وقبل حضورهم من خلال الوعي.

كذلك فإنّ بوصلة السيرورة العلاجيّة/ التحليليّة الّتي ترتكز على العوامل الأساسيّة الثلاث: اللا وعي، والتحويل، والدافع[8] وكان جاك لاكان قد أضاف لاحقًا عاملًا رابعًا هو التكرار، متمركزة في البحث والكشف عمّا يمكن للوعي أن يلمّ شمله إليه، ويشمل ذلك النظر في الثمن/ التنازل المطلوب من النفس كي تتمكّن من ذلك.

ما لم يكن حاضرًا من خلال وعيي أنا، لمدّة طويلة، أنّ اهتمامي والتزامي بما هو مغيَّب وغير حاضر من خلال الوعي يعود إلى النكبة والتماهي مع مشهد أمّي الطفلة الرضيعة الّتي سقطت من الذاكرة لفترة زمنيّة ما. تجربة تحمل مشاعر من قلّة الحيلة والتعلّق التامّ بالآخر، إلى جانب الخوف والوجع الشديدين من الخذلان والموت.

ما لم يكن حاضرًا من خلال وعيي أنا، لمدّة طويلة، أنّ اهتمامي والتزامي بما هو مغيَّب وغير حاضر من خلال الوعي يعود إلى النكبة والتماهي مع مشهد أمّي الطفلة الرضيعة الّتي سقطت من الذاكرة لفترة زمنيّة ما...

لذا فإنّ مسألة إنقاذ الغائبين وإحضارهم من خلال الوعي، تُعَدّ مسألة طارئة وحاجة ضروريّة وذات أولويّة أولى تسبق التفكير بالثمن أو التنازل المطلوب مقابل ذلك. مع الوقت، وبعد عدّة تجارب فاشلة، تداركت ووعيت حالة التماهي الّتي كنت فيها، وانتبهت إلى أنّني لم أُعِرِ الدافع، وهو العامل الأساسيّ الثالث، الاهتمام الكافي مثل العاملين الآخرين – اللا وعي والتحويل – وتعاملت معه كأنّه حاجة ضروريّة يجدر أن أتذكّرها من أجل المُعالَج، إلى أن تصل إلى ما يشبعها، وذلك عكس ما كان عليّ فعله لو لم يكن الدافع غائبًا من خلال وعيي التحليليّ، وذلك ما كان يمكنه أن يتيح استمرار السيرورة التحليليّة.

مشهد الطفلة الرضيعة ذاك يعتبر أيضًا دافعًا رئيسيًّا وراء نشاطي السياسيّ التطوّعيّ المرتبط بالهويّة المهنيّة، بصفتي أخصّائيّة في الصحّة النفسيّة والهويّة الفلسطينيّة، المتمثّل في العمل من أجل منح الصوت والحيّز للغائبين، مثل مشاركتي قبل أحد عشر عامًا مع مجموعة متطوّعات أخريات في مشروع كان الأوّل من نوعه، يهدف إلى مساعدة الأطفال الفلسطينيّين المعتقلين في السجون الإسرائيليّة، للدفاع عنهم والمطالبة بإطلاق سراحهم، وتحدّي ما تفعله المحكمة العسكريّة من تغييب لصفاتهم الإنسانيّة والتعامل معهم من منظور أمنيّ يسقِط الصفة الإنسانيّة عنهم، ما يتيح لها ودون تردّد تمديد فترات اعتقالهم.

كذلك رافقتُ مجموعة نساء من الحارة المحاذية للحرم الإبراهيميّ في الخليل برفقة زميلتي، ممّن يتعرّضن وعائلاتهنّ إلى عنف المستوطنين اليوميّ وقوّات الاستعمار، في ظلّ إهمال من المؤسّسات الحقوقيّة ومؤسّسات السلطة الفلسطينيّة لأوضاعهنّ. كما نشطتُ في مبادرات ومؤسّسات «الشبكة الفلسطينيّة العالميّة للصحّة النفسيّة» الّتي عملَت على مواجهة محاولات وإجراءات عديدة لتغييب وتهميش الصوت المهنيّ الفلسطينيّ، الّذي يطالب بالالتزام بمبادئ حقوق الإنسان والتضامن مع الحراك الفلسطينيّ المنادي بوجوب إنهاء الاستعمار.

تلك تجارب كان يمكن أن تعاش بحكمة أكبر وسذاجة أقلّ لو أخذتُ بالحسبان الدوافع المحرّكة عند الذوات الأخرى، وانتبهت إلى مؤشّرات تدلّ على غياب الحبّ والتمركز حول الذات؛ فالحقيقة قد تكون ضروريّة ومهمّة، لكنّها لا تطاق عند غياب الحبّ.

 


إحالات

 [1] Sa`di, A.& Abu-Loghod, L.(2007). NAKBA: Palestine, 1948, and the Claims of Memory.  Columbia University press, Mew York.

[2] Ibid.

[3]  Sabbagh- Khory, A. (2011). The Internally Displaced Palestinians In Israel. Palestinians  In Israel, Mada Al Carmel, Arab Center  for Applied Social Studies.26 ( 2011), 27-45.

[4] Ibid

[5] Daod, N. Shankardass, K. O`campo, & Et All, (2012). Internal Displacement And Health Among The Palestinian Minority In Israel. Social Science & Medicine. 74 no. 8. 1163- 1171.

[6] أبو حق, منال. (2020) . النكب كصدمة مستعصية مستمرة, صدمات اجتماعية في المجال العلاجي بتحرير د.ايفي زيف. بتيبولنت, العدد 46\ 20( بالعبرية).

[7] Ghnadre- Naser, S. & Somer, A. (2016). The Wound is Still  Open: The Nakba Experience  Among Internally Displaced  Palestinians In Israel. International Journal Of Migration, Health And Social Care.m 12(4), 238-251.

[8] Maroda, K. (2021). The Analyst’s Vulnerability: Impact  On Theory And Practice. New York.

 


 

منال أبو حق

 

 

 

معالجة نفسيّة. ناشطة في مؤسّسات حقوقيّة تُعنى بحقوق الأطفال والحياة تحت الاحتلال الإسرائيليّ، تحاضر وتبحث في موضوع العلاقة بين النفسيّ والسياسيّ، وهي عضو مؤسّس في «الشبكة الفلسطينيّة العالميّة للصحّة النفسيّة».