ما وراء النقاش العقيم... جواز الترحّم من عدمه

من جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة

 

دفنّا الشهيدة شيرين أبو عاقلة قبل أسبوعين، وانتهى نقاش جواز الترحّم عليها لكونها تنتمي لعائلة مسيحيّة الديانة، وكذلك جواز وصفها بـ ’الشهيدة‘ من عدمه. لكنّ النقاش لم ينتهِ، بل سيتجدّد عند ارتقاء شهيد قادم ينتمي بحكم الولادة لطائفة من غير المسلمين، وكذلك عند اعتقال الفتاة ’المتبرّجة‘، والمناضل ‘المثليّ‘، وغيرهم من الأشخاص المصنّفين بأنّهم يخرجون عمّا هو مهيمن اجتماعيًّا وثقافيًّا.

أدّعي في هذا المقال أنّ الجهات المحرّكة لمثل هذه النقاشات ليست بالضرورة ’إسلاميّة‘ على اختلاف توجّهاتها السياسيّة والفكريّة والعقائديّة، بل أيضًا تشمل فاعلين يعبّر خطابهم عن توجّهات ليبراليّة علمانيّة أو يساريّة، ممّن يخترعون وحوشًا شيطانيّة في مخيالهم تمكّنهم من موضعة أنفسهم في موقع ثقافيّ اجتماعيّ فكريّ ’متنوّر‘ في الضدّ من الوحوش الشيطانيّة الظلاميّة.

لا ينفي الادّعاء وجود أصوات فلسطينيّة تدعو إلى التحريم والتكفير، بل هي جزء من المجتمع الفلسطينيّ ولا يمكن إنكار ذلك أو غضّ الطرف عنه، تكون فاعلة فيه أحيانًا ومؤثّرة من خلال ممارسات عنيفة مادّيّة وافتراضيّة. لكنّ تحوّل هذه النقاشات إلى قضيّة في حالة الشهيدة شيرين أبو عاقلة كان نتاج رغبة بعض الفاعلين الاجتماعيّين والثقافيين - الّتي تدلّل على هوس في الردّ على الفئة الأخرى، المتخيّلة والحقيقيّة - والّتي يمكن الادّعاء أنّها في هذه الحالة، أي حالة جواز أو عدم جواز الترحّم على غير المسلم، هي فئة هامشيّة لا تشكّل أيّ تهديد حقيقيّ يستدعي هذه النقاشات. 

 

غضب المعلّقين... على ماذا ومن ماذا؟  

أثناء تصفّحي للفيسبوك في ضوء هذا النقاش، ومن آلاف المنشورات والموادّ الّتي مررت عنها، علق في ذهني شخص كتب في ما معناه: "لديّ 5 آلاف صديق على Facebook  ولا أحد منهم يدعو لعدم الترحّم على المسيحيّين". يلخّص هذا المنشور حيرة الكثيرين حول مصدر هذه الأصوات، فعلى الأغلب أنّ معظمنا مرّ عن ’الردود‘ والغضب تجاه هذه الأصوات، وليس هذه الأصوات نفسها.

على غرار المنشور سابق الذكر، أنا أيضًا لديّ 2000 صديق على Facebook ولا أحد منهم دعا لعدم الترحّم على المسيحيّين، كما أنّني من عائلة - سواءً النوويّة أو الممتدّة - تشتمل على شخصيّات تقليديّة ومتديّنة إلى حدّ ما، وطائفيّة وعنصريّة جدًّا في كثير بعض الحالات، ولم أسمع في حياتي كلّها توجّهًا من هذا القبيل.

سادت في الأيّام ما بين استشهاد شيرين أبو عاقلة ومواراتها مثواها الأخير حالة جمعيّة مهيبة من الحزن والغضب والحداد، اشترك فيها الجميع باختلاف التوجّهات السياسيّة والفكريّة، في مقدّمتها تيّارات ’الإسلام السياسيّ‘ المهيمنة. استنكرت «حركة الجهاد الإسلاميّ» الاغتيال، وشارك وفد من «حركة حَماس» في العزاء، وأصدرت «كتائب عزّ الدين القسّام» بيانًا نعت فيه الشهيدة، وشارك الشيخ رائد صلاح الحزن والغضب والرثاء، وأُقيمَتْ صلوات الجنازة الإسلاميّة وصلوات الغائب على الشهيدة. في وسط هذه الحالة الجمعيّة، لا بدّ من التساؤل عن غضب المعلّقين واستنكارهم؛ على ماذا ولماذا؟

ثمّة دور للأجهزة الاستعماريّة الصهيونيّة في إثارة القضايا المشبوهة الغريبة عن المجتمع الفلسطينيّ، من خلال وسائل المراقبة الرقميّة والممارسات الاستعماريّة الرقميّة مثل التصيّد (trolling)، والذباب الإلكترونيّ...

على الرغم من تركيز المقال على دور بعض الفاعلين الاجتماعيّين والسياسييّن ممّن ينتمون لتيّارات ليبراليّة أو يساريّة في خلق نقاشات دونكيشوتيّة وعديمة القيمة، إلّا أنّه من الضروريّ الإشارة إلى نقطتين أساسيّتين: أوّلًا، دور الأجهزة الاستعماريّة الصهيونيّة في إثارة مثل هذه النقاشات في المجتمع الفلسطينيّ، من خلال وسائل المراقبة الرقميّة والممارسات الاستعماريّة الرقميّة مثل التصيّد (trolling)، والذباب الإلكترونيّ الّذي يؤدّي دورًا أساسيًّا في السجالات الثقافيّة الرقميّة من خلال تشويه الإجماع الوطنيّ وحرف نقاشاته عن حالة الغضب والحزن الجمعيّة الفلسطينيّة. على الرغم من أهمّيّة فحص وتحليل هذه الممارسات الاستعماريّة، إلّا أنّ المقال يهمّه بالأساس الديناميكيّات الفلسطينيّة الداخليّة الّتي ظهرت خلال النقاشات الّتي رافقت استشهاد شيرين أبو عاقلة، ومنحت وزنًا لأصوات هامشيّة متظاهرة بأنّها تحاربها.

المسألة الأخرى تكمن في تركيز المقال على نقاش الترحّم على أتباع الديانات من غير الإسلام، وجواز وصفهم بـ ’الشهيد‘ في السياق الفلسطينيّ، رغم امتداد هذا النقاش عربيًّا، لكنّه في الحالة الفلسطينيّة يعبّر عن خصوصيّة تختلف في عناصرها والقوى الفاعلة فيها عن حالات عربيّة أخرى؛ فمثلًا، ثمّة النقاش المصريّ الّذي يحدث على مستوًى آخر لاختلاف التركيبة السياسيّة والدينيّة، بالإضافة إلى السيرورات التاريخيّة للمؤسّسات الاجتماعيّة الفاعلة.  

 

التنوير ضدّ التخلّف

كان لقائي مع المنشورات الداعية لعدم جواز الترحّم على غير المسلم ووصفه بـ "الشهيد" عن طريق أشخاص يشاركون هذه المنشورات (Share) أو ينشرون صورًا (Screenshots) لتغريدات أو تصريحات أو تعليقات تؤيّدها، مرفقةً بتعقيب يحتجّ على التوجّه ويشيطنه ويعبّر عن الغضب والأسف من الحالة الّتي وصلنا إليها. هذا الفعل – في كثير من الحالات - لا يُراد منه أيّ تغيير ولا يفتح أيّ أفق، بل وظيفته الأساسيّة وضع الشخص المستهجن والمحتجّ في موقع ’المتنوّر‘ نقيضًا للآخر ’الرجعيّ‘ أو ’المتخلّف‘، كجزء من آليّات تعزّز الثنائيّات والتصنيفات الاجتماعيّة، وأهمّ ما تفعله هذه الآليّة أنّها تبرّئ الأشخاص من كلّ ما يتعلّق بالعنف أو ’التخلّف‘، وتصم الآخر به كلّيًّا.

على الرغم من تردّي الأوضاع المجتمعيّة بما يتعلّق بالعنف والكراهية، إضافة إلى العنف الأبويّ المستفحل، إلّا أنّ الإشارة المتطرّفة إلى هذه الظواهر المجتمعيّة ليس إلّا دعوة لكراهية وجلد الذات...

تذكّر هذه المنشورات الغاضبة والمستاءة بأخرى شبيهة تعمل وفق منطق قريب: مع كلّ قضيّة رأي عامّ أو نقاش مجتمعيّ حول قضيّة نسويّة أو تتعلّق بالنساء، تأخذ مجموعة من المتطوّعين على عاتقهم تصوير (Screenshots) تعليقات عنيفة وذكوريّة ومسيئة، ثمّ ينشرونها لتبيان مدى ’تخلّف‘ المجتمع وصعوبة الوضع الّذي نعيشه. على الرغم من تردّي الأوضاع المجتمعيّة في ما يتعلّق بالعنف والكراهية، إضافة إلى العنف البطريركيّ المستفحل في مجتمعنا، إلّا أنّ هذا الفعل – الإشارة المتطرّفة إلى هذه الظواهر المجتمعيّة – ليس إلّا دعوة لكراهية وجلد الذات، إضافة إلى أنّه يعطي الانطباع وكأنّه صادر عن جهات وفاعلين خارجيّين ليسوا جزءًا من مجتمعنا، ويريدون لنا أن ’نكتشف‘ هذا العنف الّذي نعيشه ونشهده ونقاومه ونفاوضه بشكل يوميّ.

 

تنوّر فَتْح وسلطتها

إنْ أردنا التمعّن في خلق ثنائيّة المتنوّر/ المتخلّف على المستوى الجمعيّ السياسيّ الأكبر، يمكن النظر إلى حالة «حركة فَتْح» ومعها السلطة الفلسطينيّة، الّتي تبرع في توظيفها والاستثمار فيها سياسيًّا، وذلك على اعتبار أنّها تطرح نفسها حركة/ سلطة ليبراليّة وعلمانيّة. فقدت «حركة فَتْح» مع «أوسلو»، أو حتّى قبيل ذلك مع إعلان استقلال دولة فلسطين، أيّ مشروع سياسيّ تحرّري فعليّ، وفقدت بوصفها حركة/ سلطة لا تتبنّى أيّ أيديولوجيا، خاصّة بعد استشهاد ياسر عرفات وانتهاء «انتفاضة القدس والأقصى» (2000 - 2005)، وسائلها في كسب التأييد الشعبيّ في ما عدا شبكة علاقاتها المصالحيّة، إضافة إلى خطابات شعبويّة وديماغوجيّة تبقيها بين الحين والآخر في موقع ’أمّ الجماهير‘، أو على الأقلّ قريبة منه.

تتنوّع هذه الخطابات وتتغيّر حسب الحاجة، فتارة قد تكون القبض على مشاتل للمخدّرات أو متعاطيها، وتارة ملاحقة المثليّين و’حماية‘ المجتمع الفلسطينيّ منهم، وفي الوقت نفسه قد تتحوّل في لحظة إلى الانفتاح والتنوّر الّذي يشكّل نقيض منافسها السياسيّ الأكبر – ’الظلاميّ‘ و’المتخلّف‘ بحسب وصف خطاباتها – أي «حَماس». تتقاطع هذه الأدوات مع أنظمة قمعيّة شبيهة في المنطقة تحاول أن تستمدّ شرعيّتها من خلال طرح نفسها نقيضة ومحاربة للإرهاب والقوى الظلاميّة، لتخلق نقيضها بوصفه شيطانًا أكبر تجب محاربته ومحوه.

تكثّف هذا التوجّه في جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، حيث كانت الخطابات ما بعد صلاة الجمعة الّتي أُقيمت في «المستشفى الفرنسيّ» في القدس، حيث بات جثمانها ليلةً في ثلّاجاتها، أشبه بحديث مع أشباح طائرة، الجميع يعلم ضمنًا ماهيّتها. أصبح المشهد مصطنعًا وغير طبيعيّ مع التأكيد الفائض والمبالغ به على الأخوّة الدينيّة في القدس وفلسطين، والتأكيد "على عدم السماح لأيّ أحد، أبو أصبع وغيره والأيادي المدسوسة، أن تمسّ السلم الأخويّ الاجتماعيّ المسيحيّ الإسلاميّ في القدس". في الوقت الّذي كان ممكنًا فيه تشكّل مشهد طبيعيّ غير مبتذل لتلك الوحدة، خاصّة أنّ الحضور الشعبيّ المهيب في الجنازة كان حضورًا صادقًا طبيعيًّا متجاوزًا للتصنيفات والثنائيّات، بعيدًا عن الهرج السياسيّ لأصحاب الخطابات.

يشرح محمّد قعدان كيف تحوّل مصطلح ’الرجعيّة‘ [...] من مفهوم يحيل إلى العلاقة مع الدول الاستعماريّة والإمبرياليّة، إلى مفهوم يحيل إلى مواقف اجتماعيّة دينيّة يمكن وصفها بـ ’الرجعيّة‘، إذ يكون التديّن رجعيًّا، والعلمانيّة تقدّمًا...

في مثال آخر، قريب وبعيد، يعود إلى تجربتي في الحركة الطلّابيّة في «جامعة بير زيت»، يمكن ملاحظة هذا النمط بشكل مستمرّ في الذراع الطلّابيّ لـ «فتح»، أي «الشبيبة الطلّابيّة»، أو «كتلة الشهيد ياسر عرفات». فمع افتقارها لأيّ عمل نقابيّ وتأزّم موقفها السياسيّ الناتج عن ممارسات حزبها وقيادتها السياسيّة، تلجأ «حركة الشبيبة» لأدوات شعبويّة ضيّقة من هذا القبيل؛ إذ يظهر في مضمون دعايتها الانتخابيّة سنويًّا التأكيد المبالغ فيه على الأخوّة الدينيّة وعدم الطائفيّة، مثل مجسّم الصليب الّذي يوضع إلى جانب مجسّم الأقصى، أو الصليب الملفوف بالكوفيّة البيضاء الّتي تُعَدّ في جامعات الضفّة الغربيّة رمزًا من رموز «الشبيبة الطلّابيّة».

في تتبّعه للتاريخ المعاصر لمفهوم ’الرجعيّة‘ والتحوّلات الّتي طرأت عليه، يشرح محمّد قعدان كيف تحوّل المصطلح في النصف الثاني من القرن الماضي من مفهوم يحيل إلى العلاقة مع الدول الاستعماريّة والإمبرياليّة، إلى مفهوم يحيل إلى مواقف اجتماعيّة دينيّة يمكن وصفها بـ ’الرجعيّة‘، إذ يكون التديّن رجعيًّا، والعلمانيّة تقدّمًا. وفقًا لهذا المنطق تستثمر بعض القوى الليبراليّة واليساريّة في المواقف والأحداث العنيفة أو الذكوريّة أو الدينيّة لتصمها بـ ’الشرّ المطلق‘، بعيدًا عن وصم التعاون مع الاستعمار الإسرائيليّ أو تسليم المقاومين بالشرّ المطلق.

ثمّة قول منسوب إلى الخليفة الثاني في عهد الخلافة الراشدة، عمر بن الخطّاب، يقول فيه: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه"، وهي قاعدة بدهيّة عند كثيرين تفيد بعدم منح المساحة والقيمة لأمور ’باطلة‘ وهامشيّة لا يلتفت أحد إليها، حتّى ولو بهدف التحذير منها ونقدها، ذلك أنّ الحديث عنها سيكون بمثابة دعاية لها. رغم إشكاليّة هذه المقولة في مواضع أخرى، إذ ثمّة ضرورة أحيانًا لكشف ’الباطل‘ ومواجهته، إلّا أنّ ما لوحِظَ بالتزامن مع استشهاد شيرين أبو عاقلة، وفي الماضي، كان استثمار بعض الفاعلين الاجتماعيّين في الباطل وترزّقهم منه وافتعال حرب معه تضعهم في موقع ’المتنوّرين‘، في محاولة جاهدة لإبقاء أنفسهم في ذلك الموقع حتّى وإن تطلّب ذلك إشاعة ’باطل‘ لا يجب الالتفات إليه.

 


 

عمر خطيب

 

 

 

طالب في برنامج ماجستير الدراسات الإسرائيليّة في «جامعة بير زيت»، مهتمّ في السياسات الجندريّة والجنسيّة وتقاطعاتها الاستعماريّة في فلسطين.