التاريخ... الكذبة الّتي تعيد نفسها

تمثال صلاح الدين الأيوبيّ في دمشق للفنّان عبد الله السيّد

 

 

بعد أن بدأت الثورة العلميّة إبّان عصر النهضة الأوروبيّة والتنوير، ذهب الباحثون في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة إلى محاولة إيجاد قواعد عامّة تستند إليها البشريّة. وقد نشأت مدارس عدّة ابتعدت في كيفيّة دراستها الإنسان، بصفته كائنًا عاقلًا، عن البحث النوعيّ متّجهةً إلى الكمّيّ وربّما بغرض إدخال الرياضيّات - الإحصاء تحديدًا - إلى العلوم الإنسانيّة أو بغرض إيجاد القوانين الّتي يسير عليها البشر.

لم يسلم علم التاريخ من هذه المحاولات، فالبعض قال بدائريّة التاريخ وسعى لإيجاد قواعد له تثبت أنّ البشريّة تسير في دائرة تجعل التاريخ يعيد نفسه، مقابل آخرين قالوا بسير التاريخ إلى الأمام بشكل مستقيم، وبذلك لا فائدة من النظر إلى الخلف لأنّ ما مضى قد مضى، وآخرون قالوا بالشكل الحلزونيّ، الشكل الّذي يمكّننا من الاستفادة من الماضي دون القول إنّه يعيد نفسه بشكل حتميّ.

إعطاء التاريخ أشكالًا هندسيّة لا يخرج من إطار محاولة عقلنة التاريخ الّذي مضى، بشكل يمكّننا من فهمه ووضع قواعد له واستخراج القوانين منه بهدف الاستفادة منه...

إعطاء التاريخ أشكالًا هندسيّة لا يخرج من إطار محاولة عقلنة التاريخ الّذي مضى، بشكل يمكّننا من فهمه ووضع قواعد له واستخراج القوانين منه بهدف الاستفادة منه. قد تفيد دراسة التاريخ في فهم البشريّة أكثر، في فهم طباعها وفهم أسباب حصول ما يحصل في الحاضر وتفسير كيفيّة ما وصل إليه، ولكن هل يمكن إحاطته بالكامل؟

 

مؤرّخ التاريخ

لن نسعى هنا إلى إعطاء طروحات فوائد التاريخ ولا إلى تبريره بين العلوم. صحيح أنّ العقل البشريّ لم يُثبِت نفسه إلى الآن بأنّه قادر على استيعاب الماضي بكلّيّته حتّى يدّعي صحّة إمكان أيّ فرضيّة من الّتي سبقت. لكنّ هذا التوجّه أخذنا إلى القول بأنّ التاريخ كذبة.

إنّه أكثر من عاديّ افتراض الكذب الآتي من سلطات احتلاليّة أو استبداديّة بداعي السيطرة. لكن ماذا عن ’الكذب‘ الناتج من بحث لم يسعَ إلى الكذب؟ يطرح شيخ المؤرّخين العرب عبد العزيز الدوريّ في محاضرة عامّة عام 1969 في «الجامعة الأردنيّة» بعنوان «نظرة إلى التاريخ»، موضوع إعادة التاريخ لنفسه. ويقول إنّ مدارس التاريخ مقسومة إلى قسمين؛ فريق يقول إنّ التاريخ لا علاقة له بالماضي إنّما بمؤثّرات الحاضر الّتي تحيط بالمؤرّخ وبناءً عليه قال كروجيه: "التاريخ كلّه تاريخ معاصر." هذا يعني أنّه لفهم التاريخ المكتوب علينا دراسة المؤرّخ وزمنه.

الفريق الثاني يذهب إلى القول بفقدان أهمّيّة المؤرّخ بغياب الحقائق الّتي يقوم بدراستها، والمؤرّخ بلا حقائق "لا جذور له"، وأنّ المؤرّخ هو من يبثّ الحياة في تلك الحقائق بغضّ النظر عن المؤثّرات الّتي تعرّض لها أثناء العمل على دراسته، وهو من ثمّ حوار متّصل بين الماضي والحاضر.

يعرّج الدوريّ في بقيّة محاضرته على التأريخ العربيّ وما فيه وما ينقصه ويعطي بعض الأمثلة سريعًا من بينها الحروب الصليبيّة، لكنّه لا يذكر التفاصيل. إلّا أنّ هذا المثال هو الأنسب لقياس عبارتي "التاريخ يعيد نفسه" و"التاريخ كذبة".

 

تاريخ يلائم الحاضر

يؤكّد المؤرّخ خالد زيادة في كتابه «المسلمون والحداثة الأوروبيّة» (2017) الصادر عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» أنّ التأريخ العربيّ أهمل تمامًا الوجود الصليبيّ الّذي استمرّ مئتي عام، حتّى إنّ العرب خلال تلك الفترة لم ينتج عنهم أبحاث أو سفارات تحاول الاستفسار عن هؤلاء المحتلّين الّذين استطاعوا الدخول إلى أرض الخلافة الإسلاميّة وفرض سطوتهم عليها. بالنسبة للمسلمين في تلك المرحلة كانت حضارتهم هي الأرقى والوحيدة الّتي كانت تستحقّ الاهتمام، أمّا الصليبيّين فلم يكونوا سوى محتلّين أتوا تحت راية الصليب وجرى التخلّص منهم ورميهم في البحر وانتهى الأمر بعد ذلك. لم يكن لدى المسلمين في العالم أيّ منافس حضاريّ، بالنسبة لهم لم يتعدّ ذلك الاحتلال سوى كونه بعض المنافسة العسكريّة الممكنة الّتي انتهت بانتصارهم.

لم يهتمّ العرب أو المسلمون فعليًّا بالحروب الصليبيّة إلّا بعد الاستعمار الأوروبيّ الحديث، أي بعد ستّمئة عام تقريبًا، وتحديدًا بعد استعمار الجزائر في بدايات القرن التاسع عشر، وأخذوا سرديّتها من السرديّات الأوروبيّة لغيابها في السرديّات العربيّة. وكان جمال الدين الأفغانيّ، حسب زيادة، أوّل من حاول التذكير بها مطلِقًا على الاستعمار الأوروبيّ اسم ’الحروب الصليبيّة الثانية‘.

لم يهتمّ العرب أو المسلمون فعليًّا بالحروب الصليبيّة إلّا بعد الاستعمار الأوروبيّ الحديث، أي بعد ستمئة عام تقريبًا، وتحديدًا بعد استعمار الجزائر في بدايات القرن التاسع عشر...

هنا، وبعد إيقاظ الذاكرة، تبرز أسطوريّة صلاح الدين الأيوبيّ؛ فهو البطل الّذي نأمُل عودته لتحرير القدس، له تمثال في وسط دمشق ومحافظة باسمه في العراق وأفلام ومسلسلات عنه، بعضها كان مموّلًا من الحكومات العربيّة. هنا لا أستطيع منع نفسي من السؤال: ماذا كان سيحصل لو أنّ الاستعمار الحديث كان شرقيًّا؟ هل كنّا سنتذكّر احتلال المغول عوضًا عن الصليبيّين؟ هل كان سيف الدين المظفّر قطز ومعركة عين جالوت يشكّلان معًا بطلَ العرب وملحمتهم عوضًا عن صلاح الدين الأيّوبي وحطّين؟ وله سيكون كذلك تماثيل في العواصم العربيّة ومحافظات باسمه؟ ماذا لو أنّ نهضة العرب في القرن التاسع عشر أدّت إلى جعلهم أو جعل قسم منهم صاحب قرار مهمّ على صعيد العالم، من كنّا سنستحضر؟ بالتأكيد لن يكون للمحرّرين أيّ دور في هويّتنا بل سنذهب إلى الفاتحين، أولئك الّذين جعلونا في ما مضى مؤثّرين في خريطة العالم. طارق بن زياد ربّما؟ فاتح الأندلس والّذي لا يزال جبل طارق يحمل اسمه، تلك المنطقة الخاضعة للسلطة الإنكليزيّة حيث وجه ابن زياد مطبوع على الخمسة جنيهات الاستيرلينيّة المتداولة في جبل طارق.

إنّ ثنائيّة المحرّر/ الفاتح تعكس الحال الحاضر الّذي يؤدّي إلى استحضار هذا دون ذاك. كما أنّنا نرى فيها المدى الّتي تذهب إليه الأيديولوجيّات السياسيّة، والقوميّة تحديدًا، بالنظر إلى رموزها العسكريّة الّتي تعيد إنتاج سرديّتها، ومنها يمكننا تقييم المشاريع الّتي كانت تسعى إليها أو تروّجها لرفع أسهمها مستخدمة إيّاها.

 

التاريخ الكذبة

عليه، فإنّ التاريخ لم يُعِد نفسه فعلًا بل نحن من قرّرنا إعادة سرد ماض يناسب حاضرنا، ماض قد ظنّ البعض أنّه يساهم بالحشد بشكل ما أو يلعب دورًا ترويجيًّا ما لفكرة أو عقيدة سادت أو حاولت أن تسود. أمّا فكرة التاريخ الكذبة فلا أظنّها دائمًا تلك الكذبة النابعة من مؤامرة يخيطها البعض. وبقدر ما قد تسعى السلطات إلى بناء السرديّات الرسميّة، إلا أنّ مؤرّخًا مهتمًّا بصلاح الدين بسبب احتلال فلسطين وإيمانه بإمكانيّة تحريرها من المحتلّ الأوروبيّ وأدواته بالكاد يُعدّ متآمرًا. قد يكون مؤرّخًا مؤدلجًا انعكس ذلك على اهتماماته دون أخرى. وانطبق ذلك أيضًا على بعض المنتجين والمخرجين والممثّلين الّذين أعادوا سرد تاريخ صلاح الدين أكثر من غيره. فمنهم من ربطها بشكل واضح بالاحتلال الحاليّ. قيمتهم الأكاديميّة أو الفنّيّة هي تحت المساءلة من الوجهة العلميّة والجماليّة دون شكّ، لكن إن حدث وأنتجوا كذبة فهل لأنّهم مارسوا الكذب فعلًا؟

لن أقوم بتبرئة السلطة من محاولة توليف تاريخ يناسبها، لكن خارج هذا الإطار لا بدّ من التعليق بأنّ نقد التأريخ والتاريخ هما ما سيحرّرانه من اجترار الحاضر في دوائر أو إنتاج الكذب، المقصود وغير المقصود. ويبقى السؤال هل ستنفتح الرقابات الثلاث الذاتيّة والاجتماعيّة والحكوميّة في العالم العربي على رؤية نقديّة للتاريخ تسعى للمعرفة دون اتّهامه بهدم رؤيتنا لأنفسنا؟

 


 

عمر زكريّا

 

 

 

مؤلّف، روائيّ وكاتب أدب غير تخييليّ يقيم في عمّان، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة وصدرت له رواية «القرطبيّ، يستيقظ في الإسكندريّة» عن «منشورات ضفاف» (2021).