العنف والكرامة: عن تجربة فلسطينيّي أراضي 48

 

"نحن ننظر إليهم كأنّهم حمير. هم لا يكترثون، إنّهم يتقبّلون هذا بمحبّة".

- دافيد بن غوريون، جلسة الأمانة العامّة لحزب الـ «ماباي»، 1 كانون الثاني (يناير) 1962.

"ثمّة فرصة لبدء عهد جديد لنا جميعًا، إنّها فرصة لبدء عهد جديد في العلاقات بين اليهود والعرب، والمواطنين العرب. عهد من الاحترام، عهد من المساواة، وعهد الأمان؛ عهد الازدهار، عهد الفرص، عهد القوّة".

- بنيامين نتنياهو، خطاب بلديّة الناصرة، 13 كانون الثاني (يناير) 2021. 

 

مرّت الجماعة الفلسطينيّة الواقعة تحت ’المواطنة الكولونياليّة‘ بأنماط وبنًى قمعيّة عديدة، منذ عام 1948، ترتكز أساسًا على العنصريّة في مختلف أشكالها. بدايةً نلاحظ مثلًا في كلمات بن غوريون، إهانة واضحة وتحقير للفلسطينيّين داخل حدود الدولة الاستعماريّة الناشئة حديثًا، وقيلت في سياق معارضة حاسمة لإلغاء الحكم العسكريّ.  

بالنسبة إلى الأجهزة الاستعماريّة في مرحلة نشأتها؛ أي فترة ’الحكم العسكريّ‘، هذه المجموعة الفلسطينيّة لا تحمل شعورًا باحترام ذاتها، نعاملهم، إذن، على أنّهم أقلّ من بشر، ولا يملكون المساحة الحقوقيّة والامتيازات الّتي أعدّت إلى ’المواطن‘ ضمن التشكيلات الاجتماعيّة/ الاقتصاديّة، كونهم فلسطينيّين. باقتضاب، ساد هذا المنظور على الأقلّ حتّى نهاية السبعينات، حينما بدأت السياسات النيوليبراليّة الّتي رافقتها تغيّرات على مستوى المنظومة الاستعماريّة تتغلغل؛ التحوّل الإستراتيجيّ في تلك الفترة هو نشوء نظرة اقتصاديّة إلى الفلسطينيّين؛ إذ إنّ الدولة خصخصت غالبيّة المرافق، وقلّصت الخدمات الاجتماعيّة، وصاعدت اقتصاد التقنيّة العالية ’هاي-تك‘، وزادت الحاجة إلى الفلسطينيّ لتغطية حاجات السوق في المهن الأوّليّة وغيرها، ناتجًا عن ذلك خطاب آخر، يعيد صياغة علاقة الفلسطينيّ في الدولة كفرد، وليس جزءًا من مجموعة – شعب.

’العنصريّة‘ (...) تمثّل عَطْبًا لمفهوم الدولة، فهي لن تضمن لك مساحةً أو اعترافًا، وهذا نراه في تجربة الفلسطينيّ منذ الحكم العسكريّ، فأنت عربيّ فلسطينيّ تُعرّف على هذا الأساس...

يوضّح الأنثروبولوجيّ غسّان حاجّ* أنّ ممارسة العنصريّة في هذا السياق اختلفت عمّا كانت في الماضي، إذ إنّ تأثيرها في السابق يعبّر عن نفي حاسم لمن هو موضوع العنصريّة - مثال على ذلك العربيّ الفلسطينيّ في الدولة اليهوديّة - لنتخيّل ذلك وفقًا لتفسير الدولة عند لوي ألتوسير (1918 - 1990)، فهي كما نعلم تتداخل في حياة المواطن منذ الولادة، تعطيه اسمًا وشهادة ميلاد ووثائق، تضمن له مساحة لينمو فيها من بيت وتعليم وعمل، وكذلك تتأسّس العلاقة على الاعتراف كونه إنسانًا، ومن ثمّ، فإنّ ’العنصريّة‘ في هذا السياق، هي عَطْبٌ لمفهوم الدولة، فهي لن تضمن لك مساحةً أو اعترافًا، وهذا نراه في تجربة الفلسطينيّ منذ الحكم العسكريّ، فأنت عربيّ فلسطينيّ تُعرّف على هذا الأساس، لكنّ تعريفك في ذاته سلبيّ لا يضمن لك مساحة، أجهزة الدولة ليست معنيّة بك، ولا ترى فيك إنسانًا، بل على العكس تراك موضوعًا للمحو والرقابة الدائمة[1].

بالمقابل، تحمل العنصريّة الّتي تعانيها الأجيال الراهنة في ظلّ السياسة النيوليبراليّة أبعادًا أكثر حدّة من ذلك في الجانب النفسيّ كما يرى غسّان حاجّ؛ إذ إنّ المؤسّسة تتبنّى علاقات وخطابًا مغايرًا، كما يتّضح في خطاب نتنياهو (انظر إلى الاقتباس أعلاه نموذجًا). بدايةً، مخاطبتها لنا بإيحاءات الاهتمام في مستقبلنا وضمان مساحة لنا، ممّا يخلق وعيًا كاملًا يتمحور حول هذه الإمكانيّة والمسار الّذي تعدنا به الدولة - على عكس الأجيال السابقة الّتي لم يعدها أحد بشيء - لكنّنا حينما نحضر إليها، ترفضنا، كأنّها تقول "نعتذر، اغرب عن وجهنا، لم نقصدك أنت". هذه درجات من الإهانة لم تمارَس على الأجيال الأولى، لكنّ الجيل الشابّ ينمو على أساس إمكانيّة الاندماج وتحقيق ذاته في مسار المواطنة الكولونياليّة، وسرعان ما يدرك أنّه فاقد للأرض والبيت والتعليم.

إحدى الآثار الّتي يتحدّث عنها حاجّ في دراسته؛ تفكّك وهشاشة الشخصيّة والهويّة الّتي تولّد كرامة ضائعة، والمحاولة الدائمة لاستعادتها، ولملمة مركّباتها المتناثرة، لذا؛ قد نجد ارتباطًا بين ما يسمّيه البحث الصادر مؤخّرًا عن «جمعيّة الشباب العرب - بلدنا»: «البحث عن المكانة» عند الشباب المنخرط في الجريمة والعنف، وبين أثر العنصريّة الراهنة في إطار مواطنة الدولة الكولونياليّة. ما يمرّ به الجيل الشابّ تحت المنظومة العنصريّة - النيوليبراليّة، هو اختراق للشخصيّة وتمزيقها داخليًّا، وما يحاولون فعله مجرّد لملمة لهويّتهم وكرامتهم المنثورة بمختلف الطرق؛ فهي تريد أن تحمي ذاتها من الممارسات العنصريّة المستحدثة.

أمّا المسارات الّتي تنتجها المنظومة العنصريّة - النيوليبراليّة، فهي أيضًا تنعكس في ما نسمّيه ’الفرص السريعة‘ للعمل والاستهلاك وربح المال، وقد ارتبطت تحديدًا بدوائر الجريمة والعنف في مَنْ يقعون تحت ’المواطنة الكولونياليّة‘. لذا؛ تفسيرًا لما رصدناه في التحاق الشباب الهائل بأحداث «هبّة أيّار» عام 2021، سواءً المرتبط منهم فعليًّا في الجريمة والعنف، أو ممّن نسمّيهم عادةً ’دوديم‘، حيث قدّمت الهبّة مساحة لاستعادة الكرامة والشخصيّة والمكانة عند هؤلاء الشباب، دون الاضطرار إلى استعادتها استعماريًّا؛ أي وفقًا للمسارات الّتي تقدّمها لنا الدولة اليهوديّة.

 

أسئلة العنف، العنصريّة والمكانة الراهنة

يتّضح أثر العنصريّة الراهنة في قدرتها على بعثرة هويّتك وشخصيّتك وكرامتك، ثمّ صياغتها وفقًا لترتيبات أخرى تظنّ أنّها تودّ إدماجك وضمان مساحة لك، لكنّها فقط حينما تراك على ما أنت عليه - أي عربيّ - تقصيك من هذا الحيّز. هذه المقاربة لغسّان حاجّ تقترب من مقاربة نعومي كلاين في مفهوم الصدمة؛ إذ إنّ الفرد في مسار نفيه من الحيّز، يفقد تسلسل الأحداث والرواية التاريخيّة والمسار الّذي وُعد به. خاصّة حينما نلاحظ التماثل بين أيمن عودة ونتنياهو في حديثهما حول ’خطّة 922‘ والتبجّح بها، ممّا يجعلك كشابّ فلسطينيّ في موقع محيّر، ومشتّت إزاء المستقبل؛ إذ إنّك تدرك فعليًّا أنّها لم تعمل على تنمية حاجاتك وتطويرها.

يتّضح أثر العنصريّة في قدرتها على بعثرة هويّتك وشخصيّتك وكرامتك، ثمّ صياغتها وفقًا لترتيبات أخرى [...] تظنّ أنّها تودّ إدماجك لكنّها فقط حينما تراك على ما أنت عليه [عربيّ] تقصيك في الحال  من هذا الحيّز...

ارتبط العنف بسيرورة نزع الهويّة وضرب الشخصيّة والرواية التاريخيّة، كما لاحظ فرانز فانون (1925 - 1961)؛ إذ إنّ العنف الّذي تولّد عند الشعب المستعمَر، كجزء من النظم الاستعماريّة، إذ يقول في مداخلة عنوانها «لماذا نعتمد العنف؟» في سؤال أبعاد العنف الزمنيّة، كالتالي: "العنف في السلوك اليوميّ، والعنف ضدّ الماضي وإفراغه من كلّ جوهر، والعنف ضدّ المستقبل؛ لأنّ النظام الاستعماريّ يقدّم نفسه على أنّه أبديّ بالضرورة"[2].

فقدان الماضي، والحاضر والمستقبل، والتسلسل بينها، ومن ثمّ الحصار الّذي تفرضه عليك الأجهزة الاستعماريّة مادّيًّا لفرض النزع والسلب، يُفقدك الكرامة والمكانة، وكما سنرى انهيار الشخصيّة، لذا؛ أصبحت المكانة والكلمات المعبّرة عنها مثل ’زلمة‘ و’شخصيّة‘ و’هيبة‘ هي المهيمنة في كلمات واقتباسات الشباب والتربويّين الّذين يعملون مع الشباب الذّين في ضائقة. ومحاولة ترميم الكرامة والمكانة من جديد، وإعادة لملمتها تأتي ليس من خلال توجيه الغضب إلى السبب الرئيسيّ، بل إلى مساحات داخليّة طائفيّة، عائليّة، ومنظّمات إجراميّة؛ إذ إنّ هذه المساحات هي المتاحة الوحيدة من قِبَل الأجهزة الاستعماريّة.

تساءل فرانز فانون في مقدّمة كتاب «معذّبو الأرض» (1961)، حول معاني ’نظرة عدائيّة‘ واحدة قد تثير الاقتتال بين أبناء شعب واحد مستعمَر، لماذا؟ يحيل ذلك إلى الفقدان الشامل وسيرورة السلب الاستعماريّة عند المستعمَر والإهانة البنيويّة الدائمة الّتي يعانيها من قِبَل منظومات القمع الاستعماريّة المتعدّدة، لذا؛ يُقحم الرجل المستعمَر تصوّرات ومعاني تخصّ المكانة والكرامة في سياقات اعتياديّة أو يوميّة مثل ’نظرة عدائيّة‘ أو ’زمّور السيّارة‘، يرى فيها تهديدًا على مكانته الفرديّة. يصف فانون ظاهرة العنف الداخليّ في المجتمعات المستعمَرة على أنّها "سلوك هروبيّ"، فيها يتحرّر المرء المستعمَر من توتّر عضلاته على إثر الغليان والغضب الكامن اليوميّ، نتيجة أغلال الاستعمار[3].

بالنسبة إلى ولادة نمط العنف الداخليّ، طرحها فانون على النحو الآتي: "إنّ عنف النظام الاستعماريّ هذا لا يعاش على مستويات الروح فحسب، بل على مستوى عضلات، الدم أيضًا. هذا العنف الّذي يُدْرِك ذاته، وفيه إرادة تتّجه إلى العنف، والّذي يصبح أكثر فأكثر، ثمّ يصبح بلا حدود، ويؤدّي بشكل حتميّ وبدون إمكانيّة للعودة إلى الوراء؛ إلى ولادة عنف داخليّ في الشعب المستعمَر، ويولّد غضبًا عادلًا يسعى إلى التعبير عن نفسه"[4]. فهي ليست موجات عنف تنبع من ثقافة أو تاريخ ساكن وثابت لهذا الشعب، أو المجموعة السكّانيّة المستعمَرة، أو اشتهاء للعنف متأصّل في الطبيعة البشريّة، بل تكوّن للعنف المضبوط في عنف يوميّ نعايشه كمجموعة فلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948، أضف إلى أنّ فانون يفهم هذا العنف الداخليّ من جانب بيولوجيّ، على أنّه عنف للحفاظ على الذات والشخصيّة؛ فهي حاجة بيولوجيّة في مثل هذه الظروف والسياقات.

 

السلاح والجريمة … صناعة ’كرامة استعماريّة‘

"الطريق الوحيد الّتي وجدها الشباب الفلسطينيّ هي دخول عالم الإجرام حتّى يكون الشابّ منهم رجلًا، حتّى يصبح لديه شخصيّة وهيبة في أوساط مجايليه. نحن نتكلّم عن شباب أعمارهم تسعة عشر عامًا، يبحثون عن الاحترام، وهم كثيرون"[5].

هذا ما نقصده في صكّ مصطلح ’كرامة استعماريّة‘، الخيار أن ترمّم شخصيّتك وكرامتك المُهانة في السياق والتشكيلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي خلقها المستعمِر، عبر أدوات ومساحات ومسارات كما أتيحت لك من المستعمِر ذاته.

كذلك القيم الّتي يودّ الشابّ أن يجمعها من جديد، ويكوّنها ليصلح من ذاته المتناثرة متوجّهًا إلى ممارسة العنف في دوائر الجريمة المنظّمة داخل القرى والمدن العربيّة، وهذا أيضًا ينطبق على الشابّ الّذي يجد في مفاهيم العائلة والحمولة إجابة عن العنف المتراكم في داخله، وينفجر بالتالي داخل دوائر العنف والجريمة الّتي تعزّز القتال بين أطراف المجتمع العربيّ الفلسطينيّ. أيضًا، ترى في هذه الدوائر إجابة لبناء ذاتك وكرامتك المتناثرة، ممّا يتيح لك تكوين شخصيّة متكاملة، إلّا أنّها لا تتعرّض للأجهزة المولّدة للعنف في هذه الجغرافيا؛ بل على العكس من ذلك تسير في حلولها وضمن ضوابطها.

في كلمات أكثر وضوحًا: "كنت دايمًا بدّي أثبت حالي، مش مهمّ إذا كان غلط أو صحّ، إذا بتقولي روح طُخ هداك، بعرف الإشي صعب بس أنا عشان أكبر بعينك بعملها، عمري 20 سنة، بدّي أثبت حالي". يتبيّن أمامنا أنّ المكانة الّتي يبحث عنها الشباب مرتبطة أيضًا بالهرميّة للمنظّمة الّتي ينبثق منها تقدير واحترام وفرص تطوير إمكانيّاتك، وبناء احترام لذاتك، وتشير التحليلات في البحث إلى أنّ مثل هذه التقديرات وُجدت بتفاوت في الهرميّات التقليديّة لدى المجتمع الفلسطينيّ، مثل العائلة والحمولة، خاصّة في ارتباطها الحديث مع انتشار السلاح أو الأحزاب كتنظيمات سياسيّة حديثة، قد تعطيك أيضًا إجابة، لكن في ظلّ الانهيار الكامل للمجتمع الفلسطينيّ، لم يتبقّ إلّا مساحة الجريمة المنظّمة الّتي تفتح لك أبوابها، وتعطيك تقديرًا وفرصًا[6].

السلاح أيضًا في هذا السياق أصبح جزءًا من تشكيل هذه المكانة والكرامة والشخصيّة، إذ إنّنا نرى أنّ الحيازة على السلاح، وتثبيت ذلك في صور لإبراز ’القوّة‘ ومحاولة ترويع الآخرين، ونشر الصور على وسائل التواصل أصبحت عادةً لكي يتحوّل الشابّ إلى ’زلمة‘ ويفرض ’هيبته‘ أمام المجتمع، ووصل ذلك إلى حدّ أن يدفع الشابّ مثلًا 50 شيقل فقط ليتيح له البعض التقاط صورة مع السلاح، ممّا يبيّن لنا زخم هذه الثقافة في الجيل الشابّ[7].

ثمّة مظاهر احتفاء مجتمعيّة إضافيّة بالمنخرطين في الجريمة المنظّمة؛ أوّلًا احتفاء النخب السياسيّة والقيادة الحزبيّة - الّتي من المهمّ أن نشير إلى أنّ أحزابها تعيش في حالة تراجع شديدة، ولا سيّما مع تراجع «القائمة المشتركة» وصعود «القائمة الموحّدة» - بالمجرمين الّذين أصبحوا جزءًا من لجان الإصلاح في البلدات والمدن العربيّة، وأصبحوا جزءًا من البلديّات والمجالس المحلّيّة، أو داعمين لمرشّحين، يجلسون في المقرّات الانتخابيّة فمثلًا: "حتّى مرشّح الانتخابات زمان لما كان يكون عنده بالعيلة مُجرم (עבריין) كان يخبّيه، اليوم بقعدوه بصدر المقرّ الانتخابيّ"[8]، إذ إنّه يوفّر لهم مكانة وقدرًا وإحساسًا بالأمان، وأيضًا وجوده تهديد للأطراف الأخرى، بمعنى القيمة الّتي يحملها هؤلاء تعيد تشكيل المجموعة، وتجمع أطرافها المتناثرة، لكن على أساسات التفتيت الاستعماريّة، بمعنى محاولة لجلب الكرامة والمكانة، من خلال الطرق والمسارات الّتي أحدثها الاستعمار؛ أي الجريمة المنظّمة[9].

’القيمة الأصيلة‘ كما تسمّيها أسرار كيّال، هي الأكثر جذريّة، وفقط حين المواجهة مع المستعمَر تطفو وتعود إلى مكانها وموقعها، ولو بشكل مؤقّت لأنّ الصراع مستمرّ...

ثانيًا، العائلة الّتي أصبحت مساحة لتعزيز هذه الشخصيّة، فهي إحدى الوحدات الاجتماعيّة الّتي تثير وتحفّز وتشكّل هذا المشهد؛ العنف الداخليّ، ونذكّر أنّ تعاظم ذلك يجري في ظلّ نظم تعمل على تدفّق السلاح والفقر والإهانة. يجد الشابّ هذا الباب مفتوحًا أمامه، ويتقبّله ويعطيه احترامًا وتقديرًا، ممّا يثير انتباهنا حول مضمون القيم الّتي تتبنّاها المجموعة الفلسطينيّة ومنها الكرامة؛ إذ إنّها ارتبطت بشكل مباشر بالعنف الداخليّ. في بحث مختصر للباحثة أسرار كيّال، لفتت إلى نموذج أمّ الفحم الاحتجاجيّ، في تعاملها مع مضامين القيم والاحتفاء في العنف الداخليّ في السنة الماضية، وأقتبس: "قد يكون ذلك [أسابيع الاحتجاج منذ نهاية كانون الأوّل (ديسمبر) 2020 حتّى أوائل نيسان (إبريل) 2021]، انعكاسًا لاستعادة القيم والأعراف الأصيلة للمجتمع الفحماويّ الفلسطينيّ العربيّ، ولإعادة تعريفها: فبعد أن شُوِّهت وطغت مكانها قيم دخيلة، أدّت إلى الخوف من صاحب السلطة والنفوذ وحامل السلاح، والسكوت عنه، يُعاد اليوم تعريفه بالخائن"[10]. هنا نلاحظ أمرين؛ أوّلًا، هيمنة ’الكرامة الاستعماريّة‘؛ أي تلك القيمة الّتي أُنتجت في ظلّ المتاح استعماريًّا، والشباب المتّجه نحو هذه القيمة لمعالجة الاضطهاد والقهر والإهانة اليوميّة. ثانيًا، البديل قائم دائمًا، وبالإمكان استعادته؛ إذ إنّ ’القيمة الأصيلة‘ كما تسمّيها أسرار كيّال، هي الأكثر جذريّة، وفقط حين المواجهة مع المستعمَر تطفو وتعود إلى مكانها وموقعها، ولو بشكل مؤقّت لأنّ الصراع مستمرّ.

 

الكرامة بوصفها هاجسًا نفسيًّا

في أحد استنتاجات بحث كيّال، جاء: "تقع المشاكل على خلفيّات مختلفة، منها ماليّة، ومنها أمور بالأراضي، وأخرى بعلاقات غراميّة وخلافات في إطار الحيّز، مثل الخلافات على ’صفّات‘ السيّارات وغيرها، بيد أنّ ما نشير إليه أنّ المسّ بالمكانة، وإحساس الشابّ بالإهانة، والمسّ بالكرامة، وإحساسه بضرورة الردّ على هذه الإهانة، كان له دور أساسيّ، إن لم يكن الأكثر مركزيّة، في تطوّر المشاكل بين الشباب، وتشعّبها"[11].

يتّضح أمامنا أنّ مسألة الكرامة وفقدانها، أو للدقّة تفكيكها وتشتيتها وبعثرتها، تمثّل هاجسًا نفسانيًّا اجتماعيًّا عند الشباب، والبحث الدائم عنها، ولا سيّما في ظلّ غياب البدائل الوطنيّة السياسيّة، ونقصد في ذلك التنظيمات والأحزاب والاتّحادات والنقابات والمؤسّسات والجمعيّات، فهي التجسيد المادّيّ لمسارات بديلة لهؤلاء الشباب، ولملمة الكرامة والهويّة الّتي تفرّقت على إثر العنف البنيويّ للاستعمار.

 


إحالات

[1] انظر إلى: أحمد، سعدي. الرقابة الشاملة - نشأة السياسات الإسرائيليّة في إدارة السكّان ومراقبتهم والسيطرة السياسيّة تجاه الفلسطينيّين. المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات. 2014.

[2] Frantz, Fanon. “Why we use violence?”. Address to the Accra Positive Action Conference, April 1960.

[3] فرانز، فانون. معذّبو الأرض. مدارات للأبحاث والنشر، نقله إلى العربيّة سامي دروبي وجمال الأتاسي، الطبعة الأولى 2014. ص53.

[4] المصدر نفسه.

[5] جمعيّة الشباب العرب - بلدنا. العنف والجريمة لدى الشباب في الداخل الفلسطينيّ - عوامل وسياقات. 2022، ص 61.

[6] المصدر نفسه. ص 62.

[7] المصدر نفسه. ص 64.

[8] المصدر نفسه. ص 70.

[9] انظر إلى: محمّد، قعدان. سلسلة النيوليبراليّة الإسرائيليّة (4): تصاعد الجريمة المنظّمة والعنف داخل الخطّ الأخضر في سياق تشابك النيوليبراليّة والاستعمار الاستيطانيّ. المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة - مدى الكرمل. 2020 | وأيضًا انظر إلى: محمّد، قعدان. الجريمة المنظّمة في الداخل المحتلّ: وسيلة للإنتاج والمحو الاستعماريّ. نُشر في موقع «باب الواد» التابع لـ دائرة سليمان الحلبيّ للدراسات الاستعماريّة والتحرّر المعرفيّ. 01/04/2021.

[10] أسرار، كيّال. الضبط المجتمعيّ والجريمة المجتمعيّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة سنة 1948. مدوّنة مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة. 01/04/2021، شوهد في تاريخ 11/04/2022، الرابط التالي: https://www.palestine-studies.org/ar/node/1651125.

[11] المصدر نفسه. ص 74.

* Hage, G. (2011). Multiculturalism and the Ungovernable Muslim. In Gaita, R. (Eds.) Essays on Muslims & Multiculturalism (1 ed., pp. 155-186) Text Publishing

 


 

محمّد قعدان

 

 

 

خرّيج جامعة تل أبيب ضمن برنامج متعدّد التخصّصات؛ سوسيولوجيا، أنثروبولوجيا، تاريخ الشرق الأوسط، دراسات بيئيّة. يكتب المقالة الفكريّة والسياسيّة في عدد من المنابر العربيّة.