ما بعد الكارثة: الذهول، الصدمة، الاقتلاع

حيفا، 12 أيّار (مايو) 1948 | جنود ’الهاغاه‘ يجبرون الفلسطينيّين على مغادرة المدينة مع أمتعتهم

 

النكبة: الذهول وما قبل الكارثة

في مساء الأوّل من تمّوز (يوليو) 1948، دُعِيَ كبار مدينة حيفا – الّذين كانوا يمثّلون بضعة آلاف من بين 70 ألف فلسطينيّ هجّرتهم العصابات الصهيونيّة خلال التطهير العرقيّ الصهيونيّ للفلسطينيّين بين الأعوام (1947 – 1949) – لمقابلة حاكم المدينة العسكريّ اليهوديّ، في مقابلة كانت الغاية من ورائها توجيه الأوامر العسكريّة الصهيونيّة لهم بالإشراف على عمليّة نقل العرب في المدينة إلى حيّ وادي النسناس، أفقر الأحياء في المدينة. بعض أولئك الّذين أُمِروا بالمغادرة، بحسب ما يروي المؤرّخ اليهوديّ إيلان بابيه كانوا قد عاشوا لزمن طويل في منحدرات جبل الكرمل، أو على الجبل نفسه. أُمِرَ المواطنون بإتمام مغادرتهم بحلول الخامس من تمّوز (1948)، أي خلال أقلّ من خمسة أيّام على صدور الأمر العسكريّ. كان الأمر صادمًا، وقد كان بعض الّذين تلقّوا الأمر بالمغادرة، بحسب بابيه، أعضاءً في الحزب الشيوعيّ ممّن دعموا قرار التقسيم، وقد كانوا يأملون مع انتهاء الحرب أن تعود الحياة إلى طبيعتها في المدينة. يورد بابيه قول أحدهم: "لا أفهم، هل هذا أمر عسكريّ؟"، في حين احتجّ من سيكون عضو كنيست لاحقًا عن الحزب الشيوعيّ، توفيق طوبي، قائلًا: "لننظر إلى أوضاع هؤلاء الناس، لا أستطيع أن أجد سببًا، حتّى ولو كان سببًا عسكريًّا، يبرّر مثل هكذا أمر"، وأنهى كلامه قائلًا: "نطالب بأن يظلّ الناس في منازلهم". في ما احتجّ آخر قائلًا: "هذه عنصريّة"، واصفًا الأمر بأنّه خلق لـ"غيتو" للفلسطينيّين"[1].

يصف بابيه، الّذي يعتمد في روايته هذه على وثائق عسكريّة صهيونيّة تعود إلى فترة الحكم العسكريّ الاستعماريّ الّذي امتدّ بين عاميّ 1948 – 1966، يصف ردّة فعل القائد العسكريّ بالفاترة الصلبة: "أرى أنّكم تجلسون هنا وتنصحونني في ما عليّ فعله، في حين أنّكم قد دُعيتُم إلى هنا لتتلقّوا أوامر القيادة العليا وتنفّذوها! لست سياسيًّا ولا علاقة لي بالسياسة، أنا أُطيع الأوامر فحسب.... أنا فقط أتبع الأوامر وأن أحرص على أن ينفّذ هذا الأمر بحلول الخامس من تمّوز... وإن لم يتحقّق ذلك، فسأحرص على تنفيذه بنفسي. أنا جنديّ". عندما انتهى القائد من كلامه، سأله أحد الحاضرين:"وإن كان الشخص يملك المنزل، هل عليه المغادرة أيضًا؟"، فردّ القائد قائلًا: "الجميع عليهم المغادرة"[2].

التصادم ما بين قائد عسكريّ يهوديّ وما بين سكّان مدينة حيفا، يشكّل لحظة تحوّل جذريّة في العلاقة ما بين الفلسطينيّ الأصلانيّ واليهوديّ المستعمِر (...) كانت في طور التشكّل لتظهر في انتظار التحققّ لكامل لعمليّة ترابط وتكامل الجزيئيّات الجنينيّة للمشروع الاستعماريّ الصهيونيّ... 

ثمّة في هذه الحادثة – التصادم ما بين مستعمِر ومستعمَر - ما هو أكثر من مجرّد أمر من سلسلة أوامر عمليّة التطهير العرقيّة الصهيونيّة الممنهجة للفلسطينيّين. لا يمكن القول أنّ هذا التصادم يشكّل نهاية لسلسلة من الأفعال وردود الأفعال داخل سياق التصادم ما بين بنية استعماريّة صهيونيّة حاولت لعقود قبل عام 1948 إحلال نفسها محلّ بنية أصلانيّة فلسطينيّة؛ فحدث التطهير العرقيّ، الّذي يمثّل ذروة تحقّق البنية الاستعماريّة، استُكْمِلَ ما بعد عام 1948 واستمرّت مفاعيله في الظهور والتشكّل وإعادة إنتاج ظهوراتها ودوافعها إلى يومنا هذا. لكنّه، أي هذا التصادم ما بين قائد عسكريّ يهوديّ وما بين سكّان مدينة حيفا، يشكّل لحظة تحوّل جذريّة في العلاقة ما بين الفلسطينيّ الأصلانيّ واليهوديّ المستعمِر؛ لحظة لم تولَدْ نتيجة لسلسلة أحداث الحرب، ولا نتيجة خطّة تطهير عرقيّ صهيونيّة معدّة مسبقًا؛ بل كانت في طور التشكّل لتظهر في انتظار التحققّ لكامل لعمليّة ترابط وتكامل الجزيئيّات الجنينيّة للمشروع الاستعماريّ الصهيونيّ الّتي كانت قد بدأت بالانتشار والتجذّر والنموّ مع وصول أولى موجات الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين ما بين عاميّ 1882-1903.

في ذلك الحين، ومع شروع أولى موجات الهجرة اليهوديّة في تشكيل مجتمع استيطانيّ يهوديّ في فلسطين، وُلِدَت مشكلة التصادم الثقافيّ ما بين جماعة أوروبيّة في طور تشكيل نفسها بوصفها أمّة أوروبيّة، أي اليهود، وما بين سكّان أصلانيّين هم الفلسطينيّون، وكما يصف باتون، عادة ما يُحَلُّ التصادم المتكرّر بين الأمم الأوروبيّة والسكّان الأصلانيّين من خلال نمط معتاد من "أشكال الاستيلاء السياسيّ والقانونيّ المختلفة"[3]. هنا، يكون الاستعمار حلًّا للمشكلة الناشئة عن التصادم كما يعتقد الباحث مارسيلو سفيرسكي، لا في الحالة الفلسطينيّة فحسب؛ بل كان الاستعمار – بما يتضمّنه من فعليّ الإزاحة والإحلال – حلًّا دائمًا لمشكلة تصادم الأوروبيّ بالأصلانيّ. إذ يفكّر المستعمِر بالتصادم الثقافيّ "من وجهة نظر الجوازيّة الكونيّة الممنوحة ذاتيًّا، الّتي تمنحه بدورها امتيازًا مطلقًا للتصرّف وفقًا لتقديره في جزء معيّن من العالم"[4]. لكنّ وجهة نظر الجوازيّة الكونيّة تلك لم يكن ممكنًا تحقّقها على الفور في حالة الاستعمار الصهيونيّ؛ فلم يكن الاستعمار الصهيونيّ نفسه شكلًا كلاسيكيًّا من الاستعمار الأوروبيّ الباحث عن الذهب والعمالة الرخيصة في بقاع العالم غير الأوروبيّ، ليشيّد فيها بنية رأسماليّة تحتيّة تسبقها حرب إبادة تبقي على مَنْ يمكن التعويل عليهم كعمالة رخيصة[5]، بل جاء ظهور الدافع الاستعماريّ للصهيونيّة بحسب سفيرسكي "بوصفه ردًّا على ’المسألة اليهوديّة’"[6]، ولم تكن فلسطين صحراء قاحلةً، بل كان فيها مجتمعًا زراعيًّا مستقرًّا، إضافة إلى اضطرار المستوطنين اليهود "الانخراط في صراع مع سوق حديث للأراضي يستند إلى ملكيّة الأرض التقليديّة"[7].

فرضت تلك الظروف سمة اختلاف أساسيّة ما بين الاستعمار الصهيونيّ والاستعمار الأوروبيّ الكلاسيكيّ؛ فعَمَدَت الصهيونيّة إلى "استنزاف تدريجيّ لكلّ موجودات الأرض الثقافيّة والبشريّة وتعبئتها بأخرى جديدة" – أي عمليّة إزاحة وإحلال اصطناعيّة Displacement-replacement، على النقيض من الاستعمار الأوروبيّ الّذي عادة ما يميل إلى محاولة تطعيم الثقافة الأصلانيّة بـ "بنية فوقيّة استعماريّة تمكّن من الوصول إلى السيطرة غير المباشرة، وتجميد الثقافة الأصلانيّة عن طريق تحويلها إلى موضوع للتحليل الأكاديميّ مع فرض شكل جديد من الثقافة الإمبرياليّة"[8].

يحلّل سفيرسكي هذه الاستراتيجيّة الصهيونيّة من خلال مفهوم ’الأرض الفارغة – Terra Nullius‘، بوصف "عمليّات الأرض الفارغة تجميعًا وترتيبًا صلبًا للأشياء الّتي تنفّذ حركتيّ الاقتلاع الإقليميّ Deterritorialization، والّتي تعني تحويل طبيعة الأشياء وعلاقاتها الداخليّة، وكذلك حركة إعادة الأقلمة Reterritorializaton الّتي تميل إلى تثبيت عناصر الأشياء وترسيخها"، بعد أن تتمكّن ما يسمّيه سفيرسكي بـ "آلات الأرض الفارغة الراغبة Terra Nullius Desiring-Machines"، وهي، أي الآلات الراغبة، مفهوم دولوزيّ يشير إلى "الكيانات غير المرئيّة أو الجزيئيّة"[9] الّتي تعمل على (1) تشكيل الحسّ الجمعيّ لجماعة ما، (2) تخليق دوافعه ورغباته وتجميعها على هيئة تجمّع خامّ تتركّز فيه الرغبة إلى حين ظهورها عند اتّصالها مع الكيانات الكلّيّة أو المرئيّة. لكنّ هذا الظهور لا يحدث مرّة واحدة ولا يجري على مستويات الوعي والإدراك الجمعيّ بوضوح يمكن ملاحظته؛ بل تعمل هذه الآلات على توجيه دفقات تعبّر عن الحسّ الجمعيّ؛ إذ تصنع ’آخر‘ الجماعة القوميّة وتوجّه دفقات من التغريب والإقصاء له في أحيازها المكانيّة والزمانيّة، العامّة والخاصّة، وتستمرّ في الدفع نحو الاستيلاء والإزاحة والإحلال مركّزة على "بقعة أرض تاريخيّة متحضّرة، لتجعلها موضعًا للإلغاء الثقافيّ والإنسانيّ من أجل تحويلها إلى أرض متحضّرة من نوع آخر"؛ أرض صهيونيّة، بدلًا من أرض عربيّة.

لكنّ مفهوم ’الأرض الفارغة‘ لا يشير إلى اعتقاد صهيونيّ سابق على أحداث النكبة يفيد بفراغ الأرض/ فلسطين من سكّانها؛ فالوثائق التاريخيّة الصهيونيّة الخاصّة باستخبارات ميليشيا ’الهاغاناه‘ مثلًا، تشير إلى معرفة يهوديّة صهيونيّة عميقة بكلّ قرية من القرى الفلسطينيّة الألف، وقد بدأت عمليّة مراكمة المعرفة تلك عام 1940 واستمرّت سبع سنوات، وقد حوت الملفّات معلومات شديدة التفصيل من أسماء العائلات الكبرى، إلى مهن معظم القرويّين وانتماءاتهم السياسيّة، تاريخ الأفراد والعائلات وكذلك خصوبة الأراضي، المباني العامّة وحتّى أنواع أشجار البساتين الّتي عادة ما أحاطت بالقرى الفلسطينيّة[10]. ذلك على الرغم من حضور الشعارات الصهيونيّة التاريخيّة مثل: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"؛ والّتي تعبّر، إلى جانب مفهوم ’الأرض الفارغة‘، عن الرغبة في اختفاء الآخر، وفي إفراغ الأرض من ساكنيها وتجريدها من عربيّتها؛ بذلك تصبح الأرض فارغةً، ولا يتوقّف المفهوم على أن يكون مفهومًا دافعًا للإزاحة والإحلال، بل سيشتغل لاحقًا على أن يكون مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات ممارسة إبادة الذاكرة (Memoricide) ليمكّن المجتمع الاستعماريّ الصهيونيّ من دفن/ محو ذاكرة لحظة ولادة/ موت شعبٍ وآخر.

في لحظة الولادة/ الموت تلك الّتي امتدّت بين الأعوام (1947-1949)، شرعت العصابات الصهيونيّة في عمليّة تطهير عرقيّ للسكّان الفلسطينيّين لتطرد نصف سكّان فلسطين التاريخيّة وتحوّلهم إلى لاجئين في الدول العربيّة المجاورة،  في ما لجأ بقيّة السكّان إلى الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وتبقّت أقلّيّة فلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948، أو ما بات يعرف بـ ’إسرائيل‘[11]. لسنوات ثلاث، أمعنت العصابات الصهيونيّة في ارتكاب المجازر الدمويّة وتدمير مئات القرى الفلسطينيّة (532 قرية وبلدة) تدميرًا كاملًا، وعملت على تفريغ سكّان خمس مدن فلسطينيّة تفريغًا كاملًا من سكّانها وهي صفد وبيسان وطبريّا وبئر السبع والمجدل، كما أفرغت الأحياء الغنيّة في مدينة القدس كالقاطمون والبقعة والطالبيّة[12]، وطردت معظم السكّان الفلسطينيّين من خمس مدن هي يافا وحيفا وعكّا واللدّ والرملة، ولم تنج من الدمار والترحيل غير مدينة فلسطينيّة واحدة كانت الناصرة. في حين قَدَّر البعض عدد المهجّرين الفلسطينيّين، ممّن هُجِّروا من قراهم ولجأوا إلى قرى ومدن فلسطينيّة مجاورة داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، بـ 46 ألف نسمة، أي ما يقارب 30% من المواطنين العرب (156 ألف نسمة) ممّن بقوا في ’إسرائيل‘ بعد حرب عام 1948[13].

 

تهويد المكان، أو اقتلاع عربيّته

مع نهاية عام 1949، أصبح الفلسطينيّون الّذين بقوا في ’إسرائيل‘: "الأقلّيّة العربيّة في إسرائيل". وبدلًا من كتابة قوميّتهم في خانة ’الجنسيّة‘ في هويّاتهم، كُتِبَت انتماءاتهم الدينيّة[14]. وفقًا لهذه البطاقات الشخصيّة، لم يكن ثمّة فلسطينيّين أو ملحدين بين مواطني الدولة اليهوديّة هؤلاء، بل أصبحوا أعضاء أقلّيات Minorities، ويشدّد بابيه على جمع كلمة أقلّيّة، متسائلًا عمّا إن كان هناك ثمّة أقلّيّة غير الأقلّية الفلسطينيّة في إسرائيل[15]. لكنّهم كانوا عربًا في نظر الدولة، فالهويّة العربيّة كما يرى بابيه كانت المؤشّر الأكثر وضوحًا على الهويّة اليهوديّة[16]، فالآخر "يشكّل عنصرًا مؤسّسًا وحيويًّا في تشكّل الهويّة الفعليّة للأنا"[17]. ففي الدولة اليهوديّة أصبحت اليهوديّة هويّة إثنيّة، وأصبح اليهوديّ من ليس عربيًّا، ولكن ليس أيّ عربيّ، بل من ليس فلسطينيًّا – فكان ثمّة يهود عربًا أُخْضِعوا لعمليّة لا عَربَنة/ تجريد من عربيّتهم، طوعًا، ودُرِّبوا على عبرنة أسمائهم والنأي بأنفسهم عن لغتهم وتاريخهم وجذورهم العربيّة، وأن يتبنّوا موقفًا صلبًا معاديًا للعرب كأفضل طريقة للاندماج في مجتمع الجنود الأشكنازيّ الأوروبيّ[18].

لم يكن المستوطن اليهوديّ، ما قبل عام 1949، قادرًا على العيش خارج ’الكيبوتس‘، وعلى الحركة المحصورة داخل سوق العمل والأرض اليهوديّين حصرًا؛ في حين كان المجتمع الفلسطينيّ في حالة استقرار ويظهر إشارات على توسّع اقتصاديّ واستقرار اجتماعيّ؛ فتقريبًا كان ثمّة مدرسة في كلّ قرية، مياه جارية ونظام صرف صحّيّ ملائم، إضافة إلى ازدهار الزراعة وزوال العداءات العائليّة[19]. في حين كانت المدن تكوّن طبقة وسطى جديدة، يشكّلها خرّيجو الجامعات العربيّة من «الجامعة الأمريكيّة» في كلّ من بيروت والقاهرة وغيرها من الجامعات، وكان هذا التحوّل ضروريًّا للمجتمعات الزراعيّة لتحقيق الانتقال إلى العالم الرأسماليّ الجديد الّذي أنشأه الاستعمار الأوروبيّ والإمبرياليّة الأوروبيّة. كما كان الترف ظاهرًا من خلال التوسّع العمرانيّ والأحياء السكنيّة الجديدة، كما كان واضحًا وجود بنية تحتّيّة وشوارع حديثة في كلّ مكان[20].

في الأوّل من تمّوز (يوليو) عام 1948، أصبح المستوطن اليهوديّ الصهيونيّ مستعمِرًا قادرًا على الإفناء والتكوين، أصبح (...) قوّة تدمير وخلق انتشاريّة تمكّنت من استكمال المرحلة الأولى من عمليّة الاقتلاع الإقليميّ والتطهير العرقيّ للفلسطينيّين...

لكن، في الأوّل من تمّوز (يوليو) عام 1948، أصبح المستوطن اليهوديّ الصهيونيّ مستعمِرًا قادرًا على الإفناء والتكوين، أصبح هو نفسه قوّة تدمير وخلق انتشاريّة تمكّنت من استكمال المرحلة الأولى من عمليّة الاقتلاع الإقليميّ - التطهير العرقيّ للفلسطينيّين - ليشيّد بنيته الاستعماريّة على 78% من مساحة فلسطين الانتدابيّة البالغة نحو 27 ألف كيلور متر مربّع، في حين بقي 22% من هذه المساحة ليخضع للإدارة العربيّة الأردنيّة في الضفّة الغربيّة والمصريّة في قطاع غزّة[21].

كلّ ما كان يبدو عربيًّا توقّف للحظة عن أن يبدو أيّ شيء، كلّ لغة مكتوبة مرئيّة توقّفت للحظة عن أن تكون كذلك، كلّ ما كان استقرارًا يظهر إشارات على توسّع وازدهار اقتصاديّ واجتماعيّ تعرّض لعمليّة ممنهجة من الإهلاك الانتقائيّ – ذلك أنّ عديد المباني والمنازل والمحالّ التجاريّة العربيّة تمّ الاستيلاء عليها؛ ففي داخل حركة الاقتلاع الإقليميّ ثمّة مسار مواز فيه تجري عمليّة الاستيلاء على الموارد الإقليميّة الأصلانيّة الفلسطينيّة لتحوّل صلاحيّات استخدامها أو الانتفاع منها لصالح اليهود حصرًا – وكذلك لعمليّة ممنهجة من التجريد الثقافيّ والهويّاتيّ؛ فالفلسطينيّون أنفسهم للحظة، توقّفوا عن أن يكونوا أيّ شيء، تجمّدوا في لحظة زمنيّة من الصدمة واللا تصديق، إلى حين أتت تلك اللحظة في حيفا، اللحظة الّتي أعلن فيها الضابط العسكريّ الصهيونيّ أمر إخلاء منازل الفلسطينيّين الباقين في حيفا وتجميعهم في وادي النسناس، معلنًا بداية مرحلة التهويد، أي إعادة أقلمة الموارد والمكان، إعادة تكوينه ليكون يهوديًّا وترسيخ حقّ الانتفاع اليهوديّ الحصريّ بالأرض والمواطنة وسوق العمل. إذ تعمل سياسات الاقتلاع الإقليميّ على "تدمير أنماط الحياة الموجودة وإزالة البنى من على الأرض"، وفي ذلك تمهّد للتأسيس العنيف لتركيبات إثنيّة جديدة يتبعها الاستيلاء السياسيّ على المكان "وتفريعه إلى شبكات إثنيّة جديدة"[22].

 

استعمار العقل 

في مكان ما من سماء غزّة من عام 1980، كان يجلس الجنرال الإسرائيليّ الدمويّ آرييل شارون في طائرة هيلوكبتر برفقة قائد عسكريّ بينما يمسحان المنطقة تحتهما. كان القائد قلقًا من الدفاع عن مستوطنة ’نتساريم‘ الّتي كانت أقيمت عام 1972 على بعد أميال قليلة من مدينة غزّة، محاطة بمنطقة ملأى بالفقر والأوضاع المتردّية. كان الحفاظ على أمن هذه ’المنطرة‘ بمثابة كابوس لوجستيّ، وأراد القائد العسكريّ أن يعرف ما الفائدة من وراء الإبقاء عليها. كانت إجابة شارون بلهجة حازمة: "أريد أن يرى العرب الأضواء اليهوديّة في كلّ ليلة على بعد 500 متر منهم"[23]

يرى غريغ بوريس أنّ الغاية من وراء المستوطنات كانت واضحة بالنسبة لشارون، إذ لم تكن مجرّد استعمار للأراضي الفلسطينيّة، بل هي استعمار للعقول الفلسطينيّة كذلك[24]. بعض الفلسطينيّون كانوا قد أدركوا هذا الجانب الخبيث من البنية التحتيّة الاستعماريّة؛ ففي عام 1970 أَقالت السلطات الإسرائيليّة عمدة مدينة غزّة لرفضه وصل شبكة غزّة الكهربائيّة بالشبكة الإسرائيليّة. أراد الإسرائيليّون من خلال إضاءة السماء تحجيم الآمال الفلسطينيّة، وبإضاءته لـ ’الأضواء اليهوديّة‘، أراد شارون أن يطفئ الأحلام الفلسطينيّة[25]. هكذا تصبح الكهربة بمثابة جراحة دماغيّة فصّيّة Lobotomization للوعي الفلسطينيّ، تدخل الفلسطينيّ في حالة من الاختلال العقليّ، وتصبح الإضاءة بمثابة خنق[26].

نعرف الفلسطينيّين من خلال ما نعرفه عن محاولات ضبطهم وإعادة إنتاجهم كأقلّيّة مجزّأة تابعة وخاضعة تتحرّك في وعلى الهامش من الاقتصاد الإسرائيليّ والفضاء العامّ اليهوديّ...

إنّ معظم ما هو متوفّر من أدبيّات حول عشرين عامًا من الحياة الفلسطينيّة كأقلّيّة في الدولة اليهوديّة ما بين عاميّ 1949 – 1969، يميل أكثر ليكون ما نعرفه عن السياسات الاستعماريّة الصهيونيّة تجاه الفلسطينيّين؛ أي أنّنا نعرف الفلسطينيّين من خلال ما نعرفه عن محاولات ضبطهم وإعادة إنتاجهم كأقلّيّة مجزّأة تابعة وخاضعة تتحرّك في وعلى الهامش من الاقتصاد الإسرائيليّ والفضاء العامّ اليهوديّ. وهنا تكون الإجابة عن سؤال الورقة الأساسيّ؛ ألا وهو التساؤل عن تمكّن الفلسطينيّين من إعادة أقلمة reterritoralization وجودهم على المساحات الأرضيّة الّتي هُجِّروا إليها أو حُجِزوا فيها داخل غيتوهات صهيونيّة، بعد تهجيرهم خلال حرب 1947-1948 أو بعد ذلك في خمسينيّات القرن الماضي، وذلك يشمل التساؤل عن قدرة الفلسطينيّين على إعادة خلق/ إنتاج عمليّاتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة الجمعيّة الّتي يمكن أن تنبني من حولها ترتيبات اجتماعيّة صلبة.

والافتراض أنّ الفلسطينيّين لم يتمكّنوا من فعل ذلك، ذلك أنّهم وجدوا أنفسهم عالقين في المنتصف من عمليّتي اقتلاع إقليميّ صهيونيّة وأخرى إعادة أقلمة دائمتيّ الحركة ومنهمكتان في تشكيل وترسيخ المشروع الصهيونيّ وعلاقاته الاقتصاديّة والإنتاجيّة والثقافيّة والمعرفيّة والفكريّة داخليًّا وخارجيًّا. قد يعتقد البعض، أنّ قراءةً في سياسات الاقتلاع الإقليميّة الصهيونيّة للفلسطينيّين تعكِسُ انشغالًا دائمًا بالمسألة العربيّة في إسرائيل منذ نشوء الدولة وحتّى نهاية الحكم العسكريّ عام 1969؛ لكنّ ذلك لا يشير إلى انشغال بقدر ما يشير إلى ترسّخ منهجيّة ثابتة في التعامل مع الأقلّيّة العربيّة تألّفت من عدّة عناصر؛ أوّلها، التعامل معهم بوصفهم طابورًا خامسًا، أو أعداءً للدولة بحيث يخضعون للرقابة بشكل دائم كما عبّر عن ذلك أحمد سعدي في كتابه «الرقابة الشاملة» (2020)، وثانيًا، الإقصاء الدائم للفلسطينيّين من سوق العمل والأرض وحرمان الجماعة الفلسطينيّة من امتلاك الموارد اللازمة لتمكينها من الانخراط في سوقيّ العمل والأرض، وبذلك حرمانها من القدرة على تشكيل فضاءاتها الاجتماعيّة والمدينيّة، وثالثًا، احتجازهم في لحظة زمنيّة فيها هم عالقون في المنتصف من فكّيّ كمّاشة حركتيّ الاقتلاع الإقليميّ وإعادة الأقلمة لمواردهم الإقليميّة ما حدّ من قدرتهم، وبشكل دائم، على التشكيل والخلق الاجتماعيّ والاقتصاديّ والهويّاتي الذاتيّ بوصفهم جزءًا من جماعة قوميّة.

 


إحالات

[1] Ilan Pappé. The Forgotten Palestinians: A History of Palestinians in Israel, (Yale University Press: 2011) PP. 22.

[2] Ibid, PP. 23.

[3] Paul Patton, “The world Seen from within: Deleuze and the Philosophy of Events,” Theory and Event, vol. 1, no. 1 1997, p. 4.

[4] Svirsky, M. G. 'The production of Terra Nullius and the Zionist-Palestinian Conflict', in S. Bignall P. Patton (eds), Deleuze and the Postcolonial, (Edinburgh University Press, Edinburgh, 2010), pp. 220

[5] Ibid.

[6] Ibid.

[7] Ibid.

[8] Robert Young, Colonial Desire (London/ New York: Routledge, 1995), p. 174.

[9] Svirsky, M. G. 'The production of Terra Nullius and the Zionist-Palestinian Conflict'.

[10] Ilan Pappé. The Forgotten Palestinians: A History of Palestinians in Israel, PP. 22. 

[11] هنيدة غانم، النكبة، في الفلسطينيّون في إسرائيل: قراءات في التاريخ، والسياسة، والمجتمع، تحرير: نديم روحانا وأريج صبّاغ – خوري (حيفا: مدى الكرمل – المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة، 2011)، ص. 16-26.

[12] مرجع سابق، ص. 16-26.

[13] أريج صبّاغ - خوري ، المهجّرون الفلسطينيّون في إسرائيل، في الفلسطينيّون في إسرائيل: قراءات في التاريخ، والسياسة، والمجتمع، تحرير: نديم روحانا وأريج صبّاغ – خوري (حيفا: مدى الكرمل – المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة، 2011)، ص. 26-47.

[14] Ilan Pappé. The Forgotten Palestinians: A History of Palestinians in Israel, PP. 24.

[15] Ibid, PP. 24-26.

[16] Ibid, PP. 24-26.

[17] Svirsky, M. G. 'The production of Terra Nullius and the Zionist-Palestinian Conflict'.

[18] Ilan Pappé. The Forgotten Palestinians: A History of Palestinians in Israel, PP. 24-27.

[19] Ibid, PP. 16.

[20] Ibid, PP. 16.

[21] هنيدة غانم، النكبة، ص. 16-26.

[22] Svirsky, M. G. 'The production of Terra Nullius and the Zionist-Palestinian Conflict'.

[23] Quoted in Emmanuel Sivan, “The Lights of Netzarim,” Ha’aretz, November 7, 2003.

[24] Greg Burris, The Palestinian Idea: Film, Media, and The Radical Imagination, (Temple University Press, Pennsylvania, 2019) PP. 20-23.

[25] Ibid, PP. 20-23.

[26] Ibid, PP. 20-23.

 


 

أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة»، والماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» من «جامعة بير زيت». ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.