«صديقي مزيان البندر»: هل هي أوّل سيرة روائيّة مثليّة في فلسطين؟

 

تمخّضت مجموعة خليل السكاكيني في أرشيف «مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة» عن مخطوطات ثمينة، من ضمنها سيرة ذاتيّة مكتوبة بخطّ اليد بقلم سري السكاكيني – الابن الوحيد لخليل – بدون عنوان، وتعالج فترة صاخبة في حياة المؤلّف، عندما عاد إلى القدس بعد سنوات من الدراسة في الثلاثينات في الولايات المتّحدة.

تبدأ الرواية - السيرة بالإشارة إلى "صديقي مزيان"، الّذي رافق سري في دراسته الجامعيّة:

"صديقي مزيان البندر غريب الأطوار جدًّا، ولكنّه طيّب جدًّا. وُلد في بيت نعيم وعزّ وجاه، واجتاز مراحل دراسته كلّها بتفوّق ملحوظ، حتّى انتهى به الأمر قبل سبع سنوات إلى الخروج من الجامعة مهندسًا معماريًّا. وكان يفتخر لي دائمًا بأنّه تعلّم رغم جاهه وماله، وأنّه يعمل ويكسب عيشه دون أن يلجأ إلى خزائن والده وكرمه. لم يتزوّج، وكان يعيش في قصر والده المنيف، حيث لم يكن يأبه بما يجري فيه من حفلات الأنس الباذخ والسمر البهيج، ولا بمَنْ يزور البيت. وكان إذا ما عاد من عمله في مكتبه صعد إلى سطح الدار بعد عشائه، واستلقى على ظهره ينعم بنسيم النيل الجاري أمام القصر، ونظر إلى النجوم يرقب حركاتها وسكناتها ويحصيها". واضح من بداية الرواية أنّ مزيان يفضّل الخلود إلى العزلة من رفاقه، نجد مثلًا ابتعاده عن حفلات العائلة: "كان إذا أقامت أخته حفلة من حفلاتها تلك، ورأى صحبها يتجمّعون لينعموا بخير البيت وكرمه ومباهجه، ترك القوم في حالهم، وصعد إلى السطح محتاطًا لنفسه ضدّ الأصوات المتصاعدة إليه بأن يملأ أذنيه بالقطن، وبأن يصفّر لنفسه بألحانه الخاصّة، أو ينفخ في الناي ما تعلّمه من المعلّم بكر ناظر الحديقة" (مخطوطة مزيان).

 

ظاهرتان

ما الّذي يجعل من هذه الرواية سيرة مثليّة؟ أنا غير متأكّد، لكنّني سأشير إلى ظاهرتين في الرواية: أوّلًا أنّ معظم النساء في الرواية يتّسمن بشخصيّات مسطّحة ذوات بُعْد واحد، وأغلبهنّ مخادعات يتصيّدن الرجال بهدف إيقاعهم؛ بينما تفترد الصداقات الحميمة والمركّبة بأصحاب المؤلّف الذكور. ثانيًا: نعلم من تفاصيل حياة المؤلّف صراعه مع هويّته الجنسيّة وعلاقته المعذّبة بأبيه الأديب خليل السكاكيني. الأهمّ من ذلك أجواء الرواية ولغتها المفعمة بعلاقة حميميّة بين مزيان بطل الرواية وصديقه ريتشارد. لاحظ على سبيل المثال هذا المقطع من الفصل 23 في المخطوطة:

XXIII

خفايا الغابة يتستّرون بظلامها

ومضى الوقت كأن لا آخر له. تلاحقت الدقائق الكثيرة والموسيقى تلعب، والناس يرقصون، وأصوات الحديث والضحك تملأ الجوّ. لم يستأثر بانتباه ريتشارد شيء ممّا كان يدور في تلك القاعة الصاخبة، بل كان مُطْرِق الرأس ممسكًا بكأسه الفارغ بين إصبعيه يديره ويديره على قاعدته. وأمّا هيلين فلم ترجع إلينا وجوني لم يَعُدْ إلى الباب الّذي خرج منه. وتثاقل علينا الوقت، ولم يكن بدّ من أن يكلّم أحدنا الآخر.

- ريتشارد، فيمَ تفكّر يا أخي؟

- بك يا صق.

- تفكّر فيّ أنا؟ الآن؟

- صق، أنت على حقّ. إنّني مجنون، مجنون. إنّها خبيثة يا صق. ملاعبة، خبيثة، لعينة.

ثمّ انخفض صوته وتكسّر إلى خفقات، وقال:

- وأنا ضعيف.

- ماذا؟ ما الّذي يجعلك تقول هذا؟ لقد أكثرت الشرب يا ريتشارد.

ولكنّ ريتشارد أخذ يهزّ رأسه كأنّه يسخر من نفسه، ومن ظنّي، وهو يقول مستهزئًا:

- ريكي، محبوبي ريكي، معبودي ريكي.

وإذا ما مرّ بنا في تلك اللحظة أحد الخدم، طلب ريتشارد منه أن يحضر زجاجة من البراندي كأنّه يطلب فرجًا لكربته.

- ريتشارد، أنت تقتل نفسك. لقد أكثرت من الشرب. أرجوك أن تكتفي بما شربت.

- الآن، أريد أن أموت. الآن! إنّني أكره نفسي!

- يا سلام! لا بأس عليك. ريتشارد، أرجوك ألّا تشرب.

- إذا أردت، يا صق، أن تتركني أنت أيضًا فافعل.

- لا سمح الله. كيف تقول هذا؟ أتركك؟ أنا؟

- ألا تكرهني؟ وكان صوته كلّه يأسًا وقنوطًا ومرارة.

وقبل أن أجد جوابًا عن سؤاله هذا، جاء البراندي، فملأ ريتشارد كأسه وكأسي، وقال في حرقة:

- اشرب نخبنا نحن الاثنين. كأس المودّة يا صق.

وشربنا جرعة. وأحببت أن أزيل عن ريتشارد كآبته، فطلبت قهوة مرّة. ولمّا شربناها انتعش ريتشارد قليلًا فقلت له:

- ألا تحبّ أن تخرج قليلًا إلى الهواء الطلق؟ تعال.

وقمنا إلى الشرفة، ونزلنا إلى الحديقة ندخّن وننعش أنفسنا بهواء الليل العليل.

- تعال نمشي قليلًا، يا ريتشارد، ونملأ صدرينا من هذا الهواء المنعش النظيف.

مشينا ومررنا على المقاعد والأعشاب، وعليها الّذين يختلسون في الظلام ما لا يجدونه في النور إلى أن وصلنا إلى حافّة الغابة.

- انظر، يا صق، هذه النجوم. لعلّها تضحك منّا، من الّذين في القاعة هناك، ومن الّذين رأيناهم على المقاعد وعلى العشب، ومن الّذين هناك في خفايا الغابة يتستّرون بظلامها ولا نراهم.

- يا ريتشارد، هذا شعر! لو أنّ هذه النجوم ترى، ما تظنّ وأنا أنّها تراه الليلة أو ما رأته أمس وفي الماضي كلّه، لما وجدت الليلة في مواضعها. لا بدّ من أنّها تنهار قبل أن يعود إليها مساء غد.

- يا ليتني نجمة، إذن، لبقيت في موضعي أضحك على كلّ ما أرى.

فوضعت يدي على كتفه وقلت له:

- هذا كلام يقال. هذا ما أريد أن أسمعه منك. اضحك يا ريتشارد، على كلّ ما ترى – على كلّ ما ترى – الليلة، وفي أيّ وقت آخر. هنا أو في أيّ مكان آخر. اضحك على كلّ هذا.

فكلّف ريتشارد نفسه أن يبتسم ثمّ أن يقهقه قليلًا، أن ينطلق في ضحكة عالية كأنّها نذير الشؤم يدوي على حافّة الغابة في تلك الليلة.

 

سيرة ذاتية مستترة

وفي كتاب «فلسطين الواحدة الكاملة»، يكشف المؤرّخ توم سيجيف عن حياة خفيّة لسري في علاقاته المثليّة مع سائق تكسي عربيّ، الّتي كانت مصدر رقابة وابتزاز من قِبَل السلطات الانتدابيّة.

بالطبع هذا في حدّ ذاته لا يجعل من السيرة نفسها رواية مثليّة، خاصّة أنّ الكاتب ابتعد عن الإفصاح عن طبيعة علاقات المؤلّف بأصدقائه وصديقاته إلّا من خلال التلميح، لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الرواية سيرة ذاتيّة مستترة للمؤلّف. يظهر ذلك في رسالة كتبتها أخته هالة السكاكيني في مذكّراتها غير المنشورة:

"هذه قصّة كتبها أخي سري في سنة 1951 (أو 1952) أثناء وجودنا لاجئين في مصر، وكان سري في تلك المدّة حبيس البيت بسبب مرضه، فأخذ يكتب تسليةً وترفيهًا عن النفس. وهذه القصّة ليست خياليّة بل هي وصف لحادث وقع في كلّيّة هافرفورد في أمريكا، عندما كان سري طالبًا في السنة الجامعيّة الأولى هناك... أي في سنة 1931/1932، كانت الولايات المتّحدة لا تزال تعاني من آثار الانهيار الاقتصاديّ الّذي حدث عام 1929، فكثير من الأسر الأمريكيّة فقدت كلّ ما تملك، وأصبحت في ضيق ماليّ شديد، وعلى أثر ذلك تفشّى الإدمان على شرب الخمر حتّى أصبح وباء منتشرًا في طول الولايات وعرضها". (رسالة «سري يتذكّر» لهالة السكاكيني).

تخطئ هالة في تزمين الرواية إلى عام 1951، وذلك أنّ صفحات مرفقة بالرواية كتبها صديق ناقد لسري مؤرّخة عام 1947 - أي قبل لجوء العائلة إلى مصر وقبل مرض سري. كما تخطئ في رأيي في اعتبار هذه الرواية من باب "التسلية والترفيه عن النفس"، كما تقول – ذلك أنّ الكاتب عاد وحرّر الرواية باستفاضة في نسخة مخطوطة ثانية، بناءً – كما يبدو - على تعليقات الصديق، وأعطاها عنوانًا مؤقّتًا «الاثنا عشر صديقًا".

لا شكّ في أنّ هذه المخطوطة ثروة لتاريخ الأدب الفلسطينيّ، تنتظر التحرير والظهور بعد 80 عامًا من اختفائها، فهي من أوائل السير الذاتيّة المكتوبة بشكل روائيّ في فلسطين، وهي أيضًا مخطوطة تتعرّض للتجربة المثليّة لكاتب وأديب، في فترة كان - وما زال - الحديث عنها من المحرّمات.

 

 

وصف الصورتين المرفقتين:

اليُمْنى: سري السكاكينيّ الطفل مع والديه، القدس 1916 | الأرشيف الصوريّ «لمؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة.

اليُسرى: الصفحة الأولى من مخطوطة الرواية السيريّة لسري السكاكينيّ.

 

 


 

سليم تماري

 

 

 

باحث في «مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة» ومدير سابق «لمؤسّسة الدراسات المقدسيّة» التابعة للمؤسّسة، ورئيس تحرير سابق لمجلّة «Jerusalem Quarterly» و«حوليّات القدس» الصادرة عن المؤسّسة.