بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

غسّان كنفاني مع طفليه فايز وليلى (1936 - 1972)

 

في كتابات نقديّة ساخرة، وتحت اسم ’فارس فارس‘، خرج غسّان كنفاني (1936 - 1972) عن نهجه الّذي كتب فيه القصّة والمسرح وانطلق إلى مكان آخر في قراءة القصص والروايات والشعر والمقالات، ليقدّم نقده من إعجاب أو غير ذلك بطريقة غير معهود؛ حيث يبني هذه القراءات على السخرية والنقد اللاذع. نُشِرَتْ هذه المقالات في «ملحق الأنوار» و«مجلّة الصيّاد» و«جريدة المحرّر»، ولم يُكْشَفْ عن هويّة فارس فارس إلّا بعد استشهاد غسّان كنفاني.

 

السندويشة

يعتمد كثير من النقّاد، باختلاف مجالات دراساتهم، على أحد الوسائل المحبّبة في التعبير الجارح عن آرائهم وطرح معتقداتهم في المادّة المدروسة، وهي ’السندويشة‘. تتألّف هذه الطريقة من ثلاث مراحل؛ الإيجابيّة ثمّ السلبيّة ثمّ الإيجابيّة، أي أن يمدح الناقد المادّة الأدبيّة أو الفنّيّة أو غيرها في مقدّمة قصيرة، ثمّ يتحوّل إلى نقد لاذع في وسط الكلام ومتنه، حتّى إذا انتهى عاد إلى خاتمة فيها من المدح ما يزيح التوتّر السابق، وقد كان غسّان كنفاني ممّن اعتمدوا هذا الأسلوب في بعض المقالات.

تتألّف طريقة الساندويشة من ثلاث مراحل؛ الإيجابيّة ثمّ السلبيّة ثمّ الإيجابيّة، أي أن يمدح الناقد المادّة الأدبيّة أو الفنّيّة (...) ثمّ يتحوّل إلى نقد لاذع في وسط الكلام ومتنه، حتّى إذا انتهى عاد إلى خاتمة فيها من المدح ما يزيح التوتّر السابق...

على سبيل المثال، كتب مقالًا بعنوان «كاتب عنده عدّة النجاح»، ولو اكتفى لفهم القارئ أنّه طرح أدبيّ يجامل فيه الكاتب ويمدحه بالعدّة الّتي لديه، لكنّه استزاد في العنوان ليصبح: «كاتب عنده عدّة النجاح: الغرور»، وهذه الصفة الإضافيّة في العنوان تنفي إمكانيّة أن يمدح كنفاني الكاتب بشكل كامل، إنّما بشيء من هنا وشيء من هناك. ذلك ما نراه في ما كتبه في المقالة الّتي تحدّث فيها عن المجموعة القصصيّة «السيف والسفينة» للكاتب عبد الرحمن مجيد الربيعيّ الصادرة عن «مطبعة الجاحظ» في بغداد عام 1967. يبدأ (فارس فارس) مقالته: "هذا الشابّ يريد أن يقول شيئًا جديدًا"، وأيّ كاتب لا يرغب أن يصفه غسّان كنفاني بهذه الطريقة؟

 لكنّ كنفاني الناقد بعد سطر واحد أكمل "يشعر بأنّه زائد، يحني رأسه أمام هزائمه" ثمّ يعود إلى لطافة محبّبة "إنّه يعرف نفسه جيًدًا.. مقاتل إلى حدّ الهوس"، لكنّه مرّة أخرى يعود إلى مربّع أسود: "غلاف مريع البشاعة"، ويستمرّ على هذا المنوال في بقيّة المقالة: "إنّه شابّ له عالمه الخاص، سيمفونيّة من الألفاظ لها نغمة على عالم القصّة الصعب، لا يستعير قلمًا من غيره، آفاقه طليقة"، ثمّ يكشف فارس فارس أسلوبه: "ذلك كله كان مديحًا، لكنّ الصحيح.."، هنا ينقلب الأمر من مربّع أبيض إلى أسود كالمعتاد: "إنّ المؤلف مدّعٍ كبير، ليس لديه أكثر ممّا فهمنا، يلجأ إلى الترميز المفتعل، يستعمل عناصر التشبيه بغزارة تبعث على الصداع". ولضمان تركيبة السندويشة النقديّة بعد فقرات من اللذع، يعود فارس فارس إلى تحبّب مثلما ابتدأ، فيكتب: "هذا صوت جديد، راقبوه جيًدًا، يعي موهبته ويعرف كيف يعبّر عن ذلك كله".

في مقالة أخرى بعنوان «فنّ القصّة وميكانيك الأسانسير»، يقرأ فيها غسّان كنفاني المجموعة القصصيّة «النافذة المغلقة» للكاتب يوسف جاد الحق، فإنّه يُخْرِجُ لنا سندويشته ليطعمنا من نقده. تبدأ المقالة: "معلّم مدرسة ابتدائيّة محترف"، و"حريص على أن يُفْهِمَنا"؛ حيث يصف فيها الكاتب بأنّه يحاول جاهدًا تفسير كلّ صغيرة وكبيرة في قصصه، وذلك ما لم يعجب كنفاني ما دفعه إلى الإشارة أنّه يستطيع حذف نصف الكتاب دون أن يتأثّر بذلك، فيقول: "ما الّذي يبقى من النافذة المغلقة؟"، ثمّ يعود لمربّعه الأبيض: "موهبة أصيلة وأسلوب قصصيّ ممتاز"، قبل أن يرجع لمربّعه الأسود: "بحاجة ماسّة إلى صقل متواصل وتعميق وتجديد".

يستمرّ كنفاني في هذا الأسلوب، وأذكر مثالين إضافيّين على ذلك، الأوّل: مقالته «المنطق.. هذا الفخّ القديم» الّتي تتناول رواية «ضباب في الظهيرة» للكاتب برهان الخطيب، حيث يستهلّ مقالته بقوله: "شجاعة نادرة"، و"رواية جيّدة تضيف دبشة إلى الجدار الروائيّ"، و"يبدأ الخطيب روايته بهذه السطور الرائعة"، و"بداية ممتازة تفتح الباب لعمل روائيّ جيّد على مصراعيه"، قبل أن يزيح فارس فارس الستارة عن عينه الناقدة ويصبّ سهامه نحو الرواية بقوله: "المؤلّف لم يستطع أن يضبط خطواته"، ويصف في صفحتين مغالطات الكاتب في الجدل الفكريّ الّذي احتوته والتناقضات الّتي لم ينج منها الخطيب. حتّى إذا انتهى فارس فارس من هذا الخطاب، عاد ليشيد بأنّها لو لم تنصرف إلى هذا الجدال لكانت "عملًا رائعًا حقًا".

 

المخاطبة المباشرة

في أسلوب غير شائع كثيرًا، يخاطب فارس فارس كلًا من القارئ والمؤلّف كأنّه حلقة وصل بينهما؛ فيتراوح بين حديثه مع القارئ مرّة ثمّ ينتقل إلى حديث خاصّ مع المؤلّف مرّة أخرى، ونجد هذا واضحًا في مقالته «شولوخوف والالتزام وأدب صحّ يا رجال».

خاطب فارس فارس كلًا من القارئ والمؤلّف كأنّه حلقة وصل بينهما؛ فيتراوح بين حديثه مع القارئ مرّة ثمّ ينتقل إلى حديث خاصّ مع المؤلّف مرّة أخرى...

 يبدأ كنفاني بمخاطبة القارئ بقوله "لنكن حذرين جدًّا قبل أن نتطاول على هذا الرجل النوبليّ"، هذا يكفي ليفهم القارئ أنّ المقالة ستكون مديحًا مكثّفًا للكاتب وأعماله؛ فكنفاني يحذّر القارئ من محاولة النيل من شولوخوف، كأنه ضمنًا يخبّئ نيّته بحديث غير إيجابيّ عن المؤلّف، لكنّه يحذّر نفسه أوّلًا من ذلك. في هذا كأنّه شقّ زجاج نافذة لإمكانيّة، ولو بسيطة، من التعبير عن رأيه السلبيّ في مكان أو اثنين من مقالته إن أراد. لكنّه لا يفعل. في المقابل، يغدق على شولوخوف بالثناء كقوله "شرط أن يكون هذا الكاتب موهوبًا، مثل ميخائيل شولوخوف"، أو "لا يخون التزامه للفنّ"، أو "هناك قدرة معجزة، هناك لغة جديدة"، حتّى إذا انتهى خاطب مؤّلف القصص "صح يا شولوخوف؟"، في مجاملة برأي فارس فارس أنّها في مكانها، وفي نظر القارئ قد تكون محاولة استقواء عليه، وإغلاق باب الرأي الآخر المناقض لكنفاني.

في السياق نفسه، لم يتوان فارس فارس عن المديح إن اقتنع بذلك، بل يفيض على القارئ بأكثر ممّا يتوقّع، إذ رأى من كنفاني ما رأى من أسلوبه النقديّ. أتحدّث هنا عن المجموعة القصصيّة «حكايات من بلدتنا»، للدكتور شاكر خصباك. يقول فارس فارس: "من الّذي يجرؤ على القول إنّ بعض الكتب ليست في الواقع إلّا مخالب تنبثق من المجهول... كأنّها رسالة شخصيّة من رجل يعرفك حقّ المعرفة؟". في هذا انحياز من فارس فارس للوقوف إلى جانب المؤلّف في مواجهة القارئ حيث يخاطبه بلهجة أنّني معه. لكنّ غسان كنفاني استخدم هذا الأسلوب أيضًا في جرّ القارئ إلى موضع يريده، ففي مقالته «عن صادق جلال العظم، إنّه يغطس مشرطه في محبرة دم... ويكتب!»، بدأ بمديح طويل في الكتاب، فيكتب "يحمل الدكتور العظم بدل القلم مشرطًا وعينًا مفتوحة"، و"إنّه قارئ ممتاز، لذلك صار يستطيع أن يكون كاتبًا ممتازًا"، و"هذا الكتاب ضروريّ"، ثمّ انقلب إلى شيء من النقد ووجهة النظر وجرّ القارئ مع فارس فارس إلى موضع يريد أن يقنعه من خلاله أنّ الكتاب يحتمل رأيًا آخر بجدليّة الفوقيّة الّتي اتّخذها الكاتب، وفي هذا ناور كنفاني بين المؤلّف والقارئ بطريقة ذكيّة، حتّى إذا انتهى خاطب كليهما "أليس كذلك؟". وفي مثال آخر أيضًا، أنهى كنفاني مقالته المذكورة سابقًا عن قصص يوسف جاد الحقّ بسؤاله: "فهل يفعل؟"، بعد أن سحب القارئ والكاتب معه إلى موضع وسطيّ.

 

الهجوم

يلجأ فارس فارس إلى مداهمة المؤلّف بشكل مكثّف ومتواصل، يثقل من خلالها على كاهل المؤلّف فقرة بعد فقرة، وسطرًا تلو السطر بما لا يودّ، ويرفع حرارة القارئ من خلال هذا الهجوم إذ يجعله يتّخذ موقفًا من اثنين؛ المسارعة إلى شراء هذا الكتاب ليرى ماهيّة صحّة الهجوم، أو الضحك!

يلجأ فارس فارس إلى مداهمة المؤلّف بشكل مكثّف ومتواصل، يثقل من خلالها على كاهل المؤلّف فقرة بعد فقرة، وسطرًا تلو السطر بما لا يودّ، ويرفع حرارة القارئ من خلال هذا الهجوم...

 نرى هذا جليًّا في مقالة كنفاني «هذا الكتاب، إشارة إلى وعي تافه»، دون أن يشير إلى المؤلّف في الترويسة كما يفعل في بقيّة المقالات، بل يسقطه إلى السطر الأوّل كجزء من النصّ في محاولة لتهميشه. بعد ذلك يفيض علينا فارس فارس بطوفان من التعابير القاسية، مثل: "ليس في الكتاب أكثر من عنوانه"، و"هل يوجد سكران أكثر من هذا ليقول هذا الهراء؟"، و"المدرسة الّتي يريد أبو لبدة أن يقلّدها صارت روبابيكا". لكنّه أيضًا لا يتوقف عند تعابير مثل هذه، إنّما يستزيد على ذلك بأمرين؛ الأول هو تكرار اسم المؤلّف، والثاني استخدام اللغة العامّيّة. في مقالته الّتي لا تزيد عن ثلاث صفحات من القطع المتوسّط، وتتضمّن أقلّ من ثمانين سطرًا، يذكر فارس فارس اسم المؤلّف مصطفى أبو لبدة أكثر من عشر مرّات، كما تتضمّن تنوّعًا أيضًا في أساليب تموضعه في المقالة، فمرّة هو مصطفى أبو لبدة، ومرّة أبو لبدة، ومرّة السيّد مصطفى، ومرّة أبو مصطفى، وهكذا دواليك. أمّا الأمر الأهمّ فهو استخدام اللغة العامّيّة أو اللغة المحكيّة الّتي لا ينتبه الناس إلى أنّها فصحى بالأساس. من الأمثلة على ذلك: "بطحة عرق أبو سعدي"، و"مدعوس دعسًا"، و"طقّ حنك وهذيان"، و"أوف"، و"شرشف"، وغيرها. من خلال هذه الأساليب الّتي تنوّعت بين التعابير القاسية واستخدام اللغة المحكيّة وذكر المؤلّف بالاسم في النصّ، يدفع كنفاني القارئ ليستشعر كمّ التهجّم على الكتاب والكاتب، كأنّه يشخصن الأمر، وهذا أشدّ النقد، وربّما يزيحه إلى خانة غير الموضوعيّة.

حتّى إذا أراد فارس فارس لملمة المقالة وإنهائها، وصف المستوى الفنّيّ للكتاب بالراقصة كواكب، وإسهال، واستفراغ، وفواتير، ومحاشش، إلخ. ثمّ انتهى: "هيك كتاب، يحتاج لهيك نقد". من خلال هذه الطريقة، كتب فارس فارس مقالته «عن كتاب مزعج اسمه: المزعجون!». فيها يبدأ الهجوم منذ ما قبل السطر الأوّل، أي في العنوان. ويكمل مباشرة هجومه كما اعتاد: "يرجمنا بكتاب آخر"، وبالمحكيّة "وإذا كانت الكتب الّتي يعدنا بها المؤلّف في المستقبل من مستوى هذا الكتاب فيلعن.. ها!"، و"80 بالمئة من الكتاب هو لتّ وعجن وطقّ حنك وتكرار"، و"شلة من النكتجيّة الّذين يريدون فرض غلاظتهم علينا مدّعين أنّهم كتّاب ساخرون"، وفوق ذلك يذكره بالاسم اثتي عشر مرّة في النصّ كما عادة فارس فارس إن لم يُعْجَبْ بكتاب ما وكتب فيه ما كتب.

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ لمناسبة مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


 

أحمد جابر

 

 

 

قاصّ وكاتب من فلسطين. حاصل على الماجستير في «هندسة الطرق والمواصلات». حائز على جائزة مؤسّسة «عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ» (2017)، عن مجموعته القصصيّة «السيّد أزرق في السينما».