الفقدان، البيت، الأداة

تصميم: علاء سلامة.

 

تتحدّث هذه المقالة القصيرة عن طبيعة العلاقات بين الإنسان وعمّا حوله من بيئات ذات المادّة والمعنى. ثمّة مجادلات نظريّة واسعة حول العلائقيّة في ما بينهما. هل الثقافة والمادّة امتداد للإنسان؟ أم أنّ محيط الإنسان وحدة متكاملة، فيه مجموعات متناسقة ذات معانٍ اجتماعيّة؟ أم أنّ هذه الإشكاليّة هي عبارة عن ظواهر اجتماعيّة مختلفة يصعب وضعها في بنًى اجتماعيّة مقولبة؟ تنظر هذه المقالة في بعضٍ من تأويلات فهم الإنسان لما حوله؛ فتتناول الفقد الثقافيّ، البيت، الأداة، وهو ما ستحاول أن تناقشه هذه المقالة؛ اعتمادًا على مرجعيّات نظريّة تأصيليّة في هذا الميدان.

 

الفقدان الثقافيّ

يروي جونيشيرو تانيزاكي في كتابه «مديح الظلّ» علاقة المواطن اليابانيّ بالظلّ، ويخالف أفلاطون بأنّ الظلّ مزيّف، بل يعتقد أنّه الحقيقة ذاتها، وهو أحد مواطن الجماليّة في الثقافة اليابانيّة. يكثّف النصّ من الوصف في جماليّة الأضواء في البيت اليابانيّ، ويكيل لها المدح، بينما يعتبر أنّ الأشياء الدخيلة من الحداثة الغربيّة، خرّبت الأبعاد الجماليّة في الثقافة اليابانيّة، لكنّ الكاتب ذاته عندما بنى بيتًا، بناه على النموذج الغربيّ، ولم يبنه على التراث اليابانيّ بأضوائه الخافتة. لا ينحصر هذا التناقض في الأفكار والسلوك على المثال اليابانيّ، بل نجده في مجتمعاتنا العربيّة المعاصرة بشكل واضح وجليّ. على سبيل المثال، أغنية شعبيّة من التراث القطريّ تقول "الناقة ولا السيّارة ... الخيمة ولا العمارة"، على الرغم من ذلك، يمتلك الكثير من القطريّين أفخم أنواع السيّارات في العالم، بل هي من مصادر التباهي في المجتمع القطريّ، ويتسابقون في بناء أفخم الفلل السكنيّة، حتّى أنّ الخيم انقرضت مسكنًا لهم، وأصبحت ملحقًا على هامش البيت.

هي أزمة العلاقة بين الثقافات المحلّيّة والحداثة الغربيّة. إذ ينخرط مواطنو هذه الثقافات في تشعّبات الحداثة الغربيّة، ويلجون لها بكلّ أشكالها، لكنّهم يشعرون بالغربة وعقدة الذنب بالتخلّي عن ثقافاتهم واستبدال الثقافة الغربيّة بها...

هي أزمة العلاقة بين الثقافات المحلّيّة والحداثة الغربيّة. إذ ينخرط مواطنو هذه الثقافات في تشعّبات الحداثة الغربيّة، ويلجون لها بكلّ أشكالها، لكنّهم يشعرون بالغربة وعقدة الذنب بالتخلّي عن ثقافاتهم واستبدال الثقافة الغربيّة بها؛ فتعلق ذاكرتهم في يوميّات حياتهم القديمة أو روايات أجدادهم الجميلة؛ للتكفير عن الذنب بالتنكّر لتراثهم، فيتمسّكون بثقافتهم المحلّيّة على سبيل الشعارات أو الحنين والعواطف أو الكتابة، وليس فعلًا وممارسة. بلغة فرويديّة، يدخل الشخص في حالة ميلانخوليّة Melancholy، وإذا ما حاول الشخص التملّص من هذا التناقض، والولوج في ممارسات القطع الثقافيّ الكامل، ينتقل إلى حالة الحداد Mourning الأبديّ بالتنكّر للماضي الّذي لا قطيعة معه بالمطلق.

لم تقبل الحداثة الغربيّة وعي الثقافات المحلّيّة بذاتها، فمن لا يتماشَ مع شروطها تسمه بالمتخلّف أو التقليديّ. بمعنى أنّ هذه الأزمة الّتي يعيشها الإنسان في الثقافات الّتي لا تنتمي إلى الحداثة الغربيّة، نابعة من إقصاء الحداثة الغربيّة للثقافات المحلّيّة، وهي لا تقبل حتّى المشاركة معها، أو ما يسمّى ’تفاعل الثقافات‘. لذلك؛ نجد أنّ الأعمال الفنّيّة الّتي تعيد إحياء التراث الشعبيّ، وتتحدّى إلى حدّ ما قواعد الحداثة الغربيّة المتأخّرة، من أمثال مكادي نحّاس ولينا شماميان ومي نصر، تلقى استحسانًا عند بعضٍ من فئات المجتمعات العربيّة.

هذا لا يعني القطيعة مع الحداثة والعودة إلى تقاليد بالية عفا عليها الزمن، إنّما هي دعوة صريحة إلى تقديس حرّيّة الإنسان والولوج في ما بعد الحداثة؛ بلغتها "الاعتراف بالآخر المختلف" ثقافيًّا؛ جندريًّا؛ هامشيًّا، أو أيًّا كان شكله ونوعه التحرّريّ. حرّيّة الإنسان؛ الّتي لم تتحقّق في أيّ يوم من الأيّام في العالم العربيّ، هي القادرة على بناء المشاريع السياسيّة وتحرير المكان.

 

 البيت

يربط غاستون باشلار في كتاب «جماليّات المكان»، بين الذاكرة والوعي والخيال وفهم التصوّرات للعالم؛ من خلال البيت الّذي يتربّى فيه الإنسان. المفهوم المفتاحيّ لدى باشلار هو ’التكثيف‘، وهو حالة قصوى من الذاكرة يتجمّد بها الزمن في لحظة معيّنة، فتتشكّل طاقة شعوريّة عالية للتكثيف في زمن معيّن، فيحصل تثبيت للذاكرة. تشكّل هذه الذاكرة شخصيّة الإنسان، وفهمه للعالم. يعتبر باشلار أنّ هذا التكثيف للذاكرة يحدث في البيت الأوّل للإنسان، كذلك أنّ الإنسان الّذي يعيش في عمارة ذات طوابق متعدّدة، يفقد الارتباط بالطبيعة، ويخسر جماليّات من الحياة.

يندرج النصّ ضمن المنهج الفينومينولوجيّ في فهم العالم، الّذي يقوم على وجوب قراءة العالم من خلال الظواهر في الحياة؛ فهو لا يقوم على البنى الاجتماعيّة كما تذهب النظريّات العقلانيّة. لذلك؛ فإنّ إدراك العالم من خلال الحواسّ والمشاعر والعواطف، بعيدًا عن هيمنة العقل ومركزيّته، فهناك معرفة خارج حدود العقل لا يمكن قراءتها بدون المشاعر والعواطف؛ فجسد الإنسان مركزيّ في تجربته للعالم، وله ذاكرة يعرف من خلالها العالم. من تجربتي الشخصيّة، نشأت في بيت أفقيّ يتكوّن من طابق واحد لا قبو فيه. احتوى البيت على ’علّيّة‘ أو ’سقيفة‘ صغيرة لحفظ بعض الأغراض المنزليّة، لا أصعد إليها إلّا نادرًا لصغر حجمها، بقصد ترتيب أشيائها أو إحضار أغراض منها. يجاور بيتنا منازل تماثله في الحجم والتصميم؛ أي هي أفقيّة أيضًا ضمن طبيعة ريفيّة جميلة.

 في مراحل حياتي التعليميّة من المدرسة والجامعة، كانت نظرتي إلى الحياة أنّ الأفراد فيها متساوون وغير مختلفين عن بعضهم بعضًا كدرجات اجتماعيّة، ولم أكن أصنّف نفسي طبقيًّا على الرغم من ميلي الشعوريّ إلى الابتعاد عن الأفراد الأغنياء. شكّلت حياتي في بيت أفقيّ، نظرة أفقيّة في فهم العالم يتساوى فيها الأفراد، لذلك؛ لم أكن ودودًا مع الأشخاص الّذين يعطون إيماءات وحركات جسد تُشعر الآخرين بأنّهم أعلى مستوًى من الآخرين. كانت نظرتي إلى الحياة قائمة على الرومانسيّة في النظر إلى سلوك البشر وعشق الطبيعة. البيت أحد الأمكنة الّتي تشكّل وعينا للعالم؛ من خلال ذاكرتنا وخيالاتنا.

 

الأداة

يبحث كتاب «ضرورة الفنّ» لإرنست فيشر، في العلاقة بين الإنسان والأداة؛ إذ قدّمها بأجمل طريقة وأسلوب؛ بتوضيحه أنّ اللحظة الّتي تعلّم فيها ذلك الكائن الحيّ المتطوّر نسبيًّا كيفيّة استخدام الأشياء الموجودة في الطبيعة؛ فقد تحوّل بها إلى إنسان، وهذه الأشياء عندما استُخدمت بهذا الشكل، أصبحت أدوات. كما أنّ شكل الأداة موجود في اللاوعي عند العامل الصانع قبل تنفيذ العمل؛ فالعامل لا يُحدث تغييرًا في شكل الأشياء الطبيعيّة فحسب، بل ينفّذ في العالم الموجود خارجه أشياء كانت موجودة في ذهنه. لكنّ المفهوم المفتاحيّ في الدراسة في توليد الأدوات وتحويل الحيوان إلى إنسان هو العمل. من ثَمّ يعالج فيشر التراكم في العمل؛ من خلال اللغة والمحاكاة والسحر.

للزمن والمكان أدوار أساسيّة في فهم الإنسان للعالم، والزمن هنا بمعنى التمرحل الزمنيّ لتقسيماته البيولوجيّة، مترافقًا مع الدور الاجتماعيّ الّذي يقوم به الإنسان في الأماكن الّتي يعيش فيها...

تقوم الدراسة على فكر ماركسيّ في تحليل العلاقة بين الأدوات والإنسان، بتركيزها على دور العمل وتقسيماته في عمليّة إنتاج المعنى للأشياء الّتي لم تعُد أشياء ما دام الإنسان بدأ باستعمالها، فأصبحت أدوات؛ بمعنى أنّ البيئة المادّيّة المحيطة بالإنسان لا تعبّر عنه فقط، بل هي امتداد له، بل ذاته نفسها. لكنّ ما يحصل أنّ هذه الأداة يتراكم التاريخ المعرفيّ والعمل فيها، وتصبح جزءًا من ملك جماعيّ وتتراكم أشكالها، وتصبح الأداة مستقلّة عن الإنسان.

لعلّ هذه المقاربة الماركسيّة الأكثر قدرة على تأويلات العلاقة بين الإنسان والبيئة المادّيّة المحيطة به؛ حيث تتميّز بتحليلها للتخيّلات الإنسانيّة، وانتقالها إلى تنفيذ العمل بالمادّة الطبيعيّة، وتحويلها إلى شكل معيّن، وفق صور مرتبطة بخبرة الإنسان وذاكرته؛ لتتحوّل إلى أداة. من ثَمّ يتراكم العمل بهذه الأداة، وتنتشر في الوعي الجمعيّ الإنسانيّ برمز يُشير إليها، أداة لها معيّنة. على الرغم من ذلك، تبقى المقاربة الماركسيّة غير قادرة على تأويل الأدوات غير المرتبطة بالعمل. مثلًا ’اللهّاية‘ الّتي يرضعها الطفل بغرض التسلية، كيف يمكن تأويل علاقتها بالطفل، وهو بلا عمل، ولم تكن حاجة أساسيّة في التاريخ الإنسانيّ؟ فهناك أدوات أخرى قد تقوم بمهمّة تسلية الطفل. كما أنّ منتجيها ليسوا من مستخدميها. كيف تفسّر ظهور أدوات لا تتعلّق مباشرة بالإنسان العامل، كذلك هناك أدوات ترتبط بنزعات سيكولوجيّة غريزيّة عاطفيّة نفسيّة رغبويّة، من الصحيح أنّ العمل يتراكم بها، لكنّها لم تنشأ من العمل، بل تتعلّق بطبيعة النفس البشريّة. وهو ما يبقى سؤالًا مفتوحًا لدى المقاربة الماركسيّة؟

للزمن والمكان أدوار أساسيّة في فهم الإنسان للعالم، والزمن هنا بمعنى التمرحل الزمنيّ لتقسيماته البيولوجيّة، مترافقًا مع الدور الاجتماعيّ الّذي يقوم به الإنسان في الأماكن الّتي يعيش فيها. إنّ فهم الإنسان للعالم مستقًى من تشكّل الجسد للعوامل الثقافيّة المحيطة به؛ هذا لا يعني أنّ الجسد – وسلوكه - أسير هذه العوامل. الجسد قادر على التحرّر من عوامل تشكّله، والانطلاق نحو تغيير نفسه، وتشكيل عوالم جديدة مختلفة عمّا سبقه من عصور وأزمنة.

 

* تستند هذه المقالة إلى شروحات إسماعيل الناشف في محاضرات ألقيت له في مقرّر «الثقافة والتكنولوجيا» في «معهد الدوحة للدراسات العليا».

 


 

نيروز ساتيك

 

 

 

طالب دكتوراه في قسم الأنثروبوجيا الاجتماعيّة في «كلّيّة الدراسات العالميّة»، «جامعة سَسِكْس» في بريطانيا. ينشر أبحاثه ومقالاته في دوريّات ومنابر عربيّة مختلفة.