المعنى الّذي لا صوت له

 

حين يدقّ منبّهك صباحًا، عليك الاستعداد جيّدًا؛ لأنّك منذ هذه اللحظة حتّى لحظة انتهاء يومك وعودتك إلى سريرك، فأنت ستتعرّض إلى كمّ هائل من الصور، فأينما تُولِّ وجهك فهناك صورة تنظر إليك في البيت؛ في الشارع؛ في المواصلات العامّة؛ في مكان عملك؛ في الجرائد أو المجلّات، أو تطالعك في التلفاز، أو عبر هاتفك المحمول، نحن نعيش اليوم في مجتمع الصورة، ولكلّ صورة لغة تخاطبنا بها.

يعود الأصل اللاتينيّ لكلمة ’صورة‘ إلى كلمة (Imago)، والمقصود منها كلّ تمثيل مصوّر مرتبط بالموضوع الممثّل عن طريق التشابه المنظوريّ، فأصلها الاشتقاقيّ يحيل إلى فكرة النسخ والمشابهة والتمثيل، وهي إمّا أن تكون ثنائيّة الأبعاد مثل الرسم والتصوير، أو ثلاثيّة الأبعاد مثل النقوش البارزة والتماثيل، كما أنّها في أصولها الإغريقيّة واللاتينيّة ترادف أيضًا كلمة ’أيقون‘، الّتي يُراد منها أيضًا المشابهة والمماثلة، وعليها بُنيت النظريّة السيميائيّة؛ لتُعتمَد مصطلحًا مركزيًّا لمقاربة الصورة[1]

يعود الأصل اللاتينيّ لكلمة ’صورة‘ إلى كلمة (Imago)، والمقصود منها كلّ تمثيل مصوّر مرتبط بالموضوع الممثّل عن طريق التشابه المنظوريّ، فأصلها الاشتقاقيّ يحيل إلى فكرة النسخ والمشابهة والتمثيل...

هذه الصور تحمل لغة بصريّة مميّزة؛ إذ نجد عالم الاجتماع والناقد السينمائيّ فرنسيك يستيان ميتز، يقول في إحدى مقالاته: إنّ اللغات البصريّة تقيم مع باقي اللغات علاقات نسقيّة متعدّدة ومعقّدة، ولا أهمّيّة لإقامة تعارض ما بين الخطابين اللغويّ والبصريّ، كقطبين كبيرين يحظى كلّ واحد منهما بالتجانس والتماسك في غياب أيّ رابط بينهما، وهذا نابع من خصوصيّة كلّ خطاب، وكلّ رسالة.

هذه اللغات البصريّة تصطنع الدلالات وتقرؤها بترجمة الرموز الّتي تحملها، وهذا ما برزت به السيميائيّة - علمًا - في عصر ما بعد الحداثة؛ بوصفها ردّة فعل على المناهج الحداثيّة وخاصّة البنيويّة[2]

يقول العالم اللغويّ السويسريّ فرديناند دي سوسير، في بحثه في ’الألسُنيّة العامّة‘، إنّ أصل كلمة ’السيميائيّة‘ مأخوذ من الجذر اليونانيّ (سيميون)، الّذي يعني الإشارة أو العلامة، وهو لفظ اصطنعه أفلاطون ليرادف لديه العلامة اللسانيّة.

أمّا في اللغة العربيّة، فورد في لسان العرب أنّ "السيمياء: مشتقّة من الفعل (سام). يدلّ على ذلك قولهم: سوّم فرسه؛ أي جعل عليه السمة، وقيل: الخيل المسوَّمة، هي الّتي عليها السيمة والسومة، وهي العلامة"، هذا في ما يتعلّق بالتعريف المعجميّ - الّذي وجدنا أنّه يعني علامة - ممّا يجعلنا نرى أنّ ثمّة تقاربًا في المفاهيم والمصطلحات بين العرب والأمم الأخرى.

عند قراءة الصور في الحالة الفلسطينيّة الّتي تعاني من ويلات الاحتلال؛ إذ نستخدم الصور لتجسيد ما نمرّ به سواء في حالة الاشتباك أو الأسر أو الاستشهاد، أو ما نتعرّض إليه من تضييقات مختلفة، سواء على الحواجز أو هدم البيوت أو مصادرة الأراضي أو غيرها، وتخرج الصور دومًا وكأنّها توقف اللحظة عند حدث معيّن؛ لنرجع ونعيده مرارًا وتكرارًا.               

                                                                                       

المعنى في صورة ما لا صوت له

في 27 من شهر آذار (مارس) الماضي، وصل شخصان إلى ’شارع هربرت صموئيل‘، في مدينة الخضيرة الواقعة شمال تل أبيب، وشرعا في إطلاق النار على قوّة من الشرطة؛ ممّا أسفر عن مقتل اثنين من عناصر الشرطة الموجودين في المكان، واستشهاد منفّذَي العمليّة - أيمن إغبارية وإبراهيم إغبارية - واتّضح في ما بعد أنّهما من مدينة أمّ الفحم في الداخل المحتلّ.

 

 

تناقلت وسائل الأخبار آنذاك صورًا ومقاطع فيديو لمكان العمليّة، وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعيّ صور يتّضح فيها حجم الهلع والتوتّر والضياع الّذي عاشته شرطة الاحتلال وسكّان تلك المنطقة.

في علم ’السيميائيّة‘ تكون العلامة في سيمياء الصورة ثنائيّة المبنى؛ فالدال يمكن أن يكون مادّيًّا محسوسًا، أو صورة متخيّلة في الذهن تستدعي إلى ذهن الناظر مفهومًا ما أو دلالة ما متعارفًا عليها، ومعلومة لديه هي المدلول، فلا دلالة فعليًّا دون إحالة إلى شيء خارج العلامة نفسها[3].

في الصورة السابقة، نلاحظ كيف يمكن الصورة أن تتحوّل إلى نصوص قابلة للفهم، وأنساق دلاليّة قابلة للتفسير. والوحدة سيميائيّة تقوم على تسلسل الدوال، ووحداتها الّتي تتتابع وتتقاطع لتنتج المعنى؛ إذ نشاهد مجموعة من رجال الشرطة والناس يلتفّون حول مكان الحدث، وتبدو حالات الصدمة على وجوه الجميع ونظراتهم المختلفة، حيث تتّجه إحداها إلى خارج إطار الصورة، وكأنّها تبحث في العدم، وإحداها تبحلق في الأرض، وأخرى تخاطب بعضها وكأنّها تبحث عن إجابة: "هل حدث هذا بالفعل؟ هل هذا كابوس؟"، نحن نجمع وحدات الصورة لنخرج بالمعنى.
 

في النصّ المرئيّ 
بعد ذلك بثلاثة أيّام، انتقلت هذه النظرات من الخضيرة إلى تل أبيب، حين خرج ضياء حمارشة من بلدة يعبد إلى حيّ بني براك، وأفادت تقارير صحافيّة أنّ حمارشة وصل إلى موقع إطلاق النار الأوّل بمركبة خاصّة، وأصاب شرطيًّا، واستولى على درّاجته الناريّة، وتابع إلى الموقع الآخر. أسفرت هذه العمليّة عن مقتل 5 إسرائيليّين.

يمكن القول إنّ المقاربة السيميائيّة هي المعالجة الأكثر عمقًا لتحليل الأنظمة اللونيّة؛ إذ تعتمد على استجلاء الوظيفة السيميائيّة للألوان الّتي تتميّز بتشاكلها أو تباينها، وفق مدلولاتها المتضمّنة فيها؛ فهي علامات قادرة على التعبير أوّلًا؛ لأنّها مقترنة – في الأصل – بفكر المجتمع، ثمّ الإبلاغ ثانيًا، وثقافته[4].

يمكن القول إنّ المقاربة السيميائيّة هي المعالجة الأكثر عمقًا لتحليل الأنظمة اللونيّة؛ إذ تعتمد على استجلاء الوظيفة السيميائيّة للألوان الّتي تتميّز بتشاكلها أو تباينها، وفق مدلولاتها المتضمّنة فيها...

المتمعّن بالصور يلاحظ حالة الاضطراب وسيطرة اللون الأحمر على بعض الصور؛ فقد صنع هذا اللون الصورة وشكّل إطارها. قيمة الألوان تتجسّد في مدى اندراجها في المنظومة والذاكرة، الّتي تنبثق منها وتنتمي إليها، إضافة إلى قدرتها على التمثيل الأيديولوجيّ والتوظيف الرمزيّ؛ فاللون الأحمر يعكس لون الدماء،  وحجم الخوف والذعر الّذي استطعنا استنتاجه بناء على العلامات المنبثقة من المنظومة المجتمعيّة والثقافيّة، مثل الماهيّة اللونيّة، بحيث يرتبط جزء من الرسالة الأيقونيّة بصلة بنيويّة أو علاقة تبادليّة من النظام اللغويّ.

عند التاسعة من مساء يوم الخميس في السابع من أبريل/ نيسان، وقف شابّ عشرينيّ أمام مقهًى ومحالّ تجاريّة في ’شارع ديزنغوف‘ في وسط تل أبيب، متأمّلًا المشهد أمامه، قبل أن يفتح نيران سلاحه على الموجودين هناك؛ ليقتل إسرائيليّين وعددًا من الإصابات، إنّه رعد حازم.

 

 

في مشهد مختلف، انسحب رعد من مكان العمليّة، وفي أثناء البحث عنه أطلقت شرطة الاحتلال نار أسلحتها نحو السماء؛ ظنًّا منها أنّه يختبئ في إحدى العمارات. العشرات من الأسلحة تتّجه نحو الأعلى، نحو الفضاء واللاشيء، "صوّب أسلحتك نحو السماء ... نحن السماء".

 

هي العيون

تُعَدّ إيماءات العين من الإيماءات الّتي يعتمد عليها الإنسان في تواصله مع الآخر، بل قد تكشف العين ما لا يكشفه أيّ عضو آخر من أعضاء الجسد، وما لا يستطيع المرء إخفاءه من أحاسيس ومشاعر إيجابيّة كانت أو سلبيّة؛ فالعين تنتج الإيماءات المختلفة والمتنوّعة؛ إذ تمنح الرضا أو السخط؛ الحبّ أو الكره، وهي حاضرة في كلّ مواقف العاطفة، والعين حاضرة في كلّ مواقف الغضب، هي حاضرة عند الفرح، وحاضرة عند الحزن.

هي العيون حين تنطق حزنًا ووجعًا وعتابًا وقهرًاـ نقف هنا نحدّق بهذه الصور، واتّجاه النظرة حين تنظر تارة إلى الخارج، وتارة إلى الداخل، وكأنّها تحدّق بقلب ابنها الشهيد أو خطيبها الشهيد الّذي رحل مسرعًا، وربّما فقيد القرية الّذي بكته جميع النساء، أو ربّما نظرة العجز رغم القوّة.

تخاطب الصورة الكينونة والمخزون الثقافيّ والذاكرة الفرديّة والجمعيّة؛ لتخرج لنا بدلالة ذات معنى، نستطيع تكوينها بناء على تجميع وحدات الصورة، وحينذاك يستطيع المتلقّي أن يجلب المعنى من ما لا صوت له، وهو الصورة.

 


إحالات

[1] الوادي، خ. م. قراءة سيميائيّة لأنظمة الألوان في نماذج قصصيّة. مجلّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، 2018.

[2] تشاندلر، د. أسس السيميائيّة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2012).

[3] عمّور، ع. ا. سيميائيّات الصورة: بين آليّات القراءة وفتوحات التأويل. مجلّة مقاليد، 2017.

[4] عيد، ع. سيمياء الصورة وتمثّلاتها في الخطاب المرئيّ. مجلّة جامعة النجاح للأبحاث، 2021.

 


 

ولاء عمريّة

 

 

 

صحافيّة فلسطينيّة، حاصلة على البكالوريوس في «اللغة العربيّة والإعلام» من «الجامعة العربيّة الأمريكيّة»، وتدرس الماجستير في «الإعلام الرقميّ المتكامل».