ولادة المثليّة... متى رُبِط الجنس بالهويّة؟

تصميم: علاء سلامة

 

ثمّة أمر مثير في تأمّل الحقيقة القائلة بأنّ مصطلح ’المثليّة‘، هو مصطلح ارتبط ظهوره بظهور الحداثة، بحيث يمكن الاستدلال على وعي الناس وتفكيره في المراحل التاريخيّة وفق التداوليّة اللغويّة الّتي يستخدمون؛ فعدم وجود مصطلح يصف ظاهرة معيّنة، قد يدلّ على عدم حضور الظاهرة في وعي الأفراد.

وإن نحدّد الحديث على تاريخ الحضارة العربيّة والإسلاميّة، فإنّه لم يكن ثمّة اصطلاح على مسمّيات وألفاظ تصف أفرادًا أو جماعات وفق ممارساتها الجنسيّة، بحيث تصنّفها مثليّة أو مغايرة (Straight). لفظ ’المثليّة‘، كونه ترجمة حرفيّة للكلمة الإنجليزيّة Homosexuality، يحمل مفهومًا نُقِل إلى الفضاء العربيّ إثر التفاعل والتداول الطبيعيّ بين الحضارات والثقافات، تحديدًا تلك الّتي شغلت دور الاستعمار قُبيل موت الدولة العثمانيّة وبعدها. عند استيراد مصطلحات من لغة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى، يجب التساؤل عن استيراد ليس المصطلح نفسه فحسب، بل أيضًا المناخ الإيحائيّ للمصطلح، الّذي قد يكون مناخًا مبنيًّا وفق سياق تاريخيّ واجتماعيّ وسياسيّ يُشكّل بيئة نشوء هذا المصطلح. بكلمات أكثر وضوحًا، عند التعامل مع مصطلح المثليّة الجنسيّة كمثال لمصطلح كثيف المعاني والإيحاءات والشحن القيميّ والعاطفيّ، الّذي تُرجم إلى اللغة العربيّة حاملًا لكلّ هذا الزخم الرمزيّ، من المهمّ الانتباه لهذه الرزمة الإيحائيّة خلال عمليّة تعريبه وتداوله.

 

المثليّة وولادة حقل علم النفس

يدّعي الفيلسوف ميشيل فوكو أنّ الربط بين المغايرة والمثليّة وبين الهويّة، ظهر فقط في القرن العشرين وليس قبل. هذا الادّعاء يمكن دعمه بالمشاهدة اللسانيّة القائلة بأنّ مصطلح ’المثليّة‘ (Homosexuality) لم يظهر في أوروبّا إلّا في سنة 1870، في مقالة للطبيب النفسيّ كارل ويستفال (Carl Westphal)، الّتي بها رصد التوجّه الجنسيّ المثليّ لأوّل مرّة بهذا اللفظ؛ أي ’مثليّ‘. لاحقًا، في سنة 1886، قدّم ريتشارد فون كرافت - إبينغ (Richard von Krafft-Ebing) الفرضيّة بأنّ المثليّة هي رغبة جنسيّة ثابتة تتحدّد مُسبقًا، وهي ربط آخر لم يكن معهودًا من قبل. هذا التوجّه الفكريّ تُوِّج على يد عالم النفس الأيقونيّ سيجموند فرويد في سنة 1905، عندما حاول تفسير الميول الجنسيّ المثليّ بعوامل بيئيّة تطوّريّة: "عدم وجود شخصيّة أب قويّ ومسيطر في الطفولة تزيد من احتمال وجود قلب للدور الجنسيّ". من هنا، يمكن ادّعاء أنّ تحويل الوعي حول الممارسات الجنسيّة من رغبات عابرة أو حالات سائلة متغيّرة، إلى ’ميل‘ ثابت، أو إلى ’هويّة‘ جنسيّة، هو تحوُّل جديد في التاريخ ظهر في القرن والنصف الأخيرين في أوروبّا.

يمكن الاستدلال على وعي الناس وتفكيره في المراحل التاريخيّة وفق التداوليّة اللغويّة الّتي يستخدمون؛ فعدم وجود مصطلح يصف ظاهرة معيّنة، قد يدلّ على عدم حضور الظاهرة في وعي الأفراد...

ضمن المناخ الإيحائيّ للـ-Homosexuality في السياق الأوروبّيّ، ظهر أيضًا مصطلح ’رهاب المثليّة‘ – Homophobia في نهاية الستّينات من القرن السابق. المعالج النفسيّ الأمريكيّ جورج واينبيرج استخدم المصطلح بشكل كبير في كتابه «Society and the Healthy Homosexual (1972)». يرصد المصطلح ’رهاب المثليّة‘ حالة النفور أو مظاهر العنف أو العنصريّة ضدّ ممارسي العلاقات المثليّة، أو من يتبنّونها هويّة جنسيّة. عند وضع هذا المصطلح في سنوات الستّينات، كان هناك تحوّل ملحوظ في الوعي تجاه الظاهرة؛ فقد سهّل المصطلح ’رهاب المثليّة‘ تسليط الأضواء على معاناة الأفراد أو الجماعات المثليّة، بدلًا من اعتبارها معتدية على الفضاء العامّ، أو بكلمات أخرى؛ أُعيد تصميم السرديّة على أنّ المثليّة الجنسيّة هي حالة اجتماعيّة أقلّيّاتيّة، تحتاج إلى الحماية القانونيّة مثلها مثل أيّة مجموعة ملاحَقة ومضطهدة تحتاج إلى النضال من أجل العيش بكرامة.

 

’المثليّة‘ في التداوليّة العربيّة

في المقابل، إذا تطلّعنا على مجموعة الألفاظ المستخدمة لتداول مفهوم الـ Homosexuality في التداوليّة العربيّة، يمكننا حصر النقاش حول ثلاثة مصطلحات شائعة جدًّا إلى جانب مصطلح ’المثليّة‘: الأوّل هو لفظ ’اللواط‘ المترجم من الكلمة ’سدوميّة‘ (Sodomy). لفظ ’اللواط‘ أو ’اللوطيّ‘ هو لفظ غير أصيل في النصوص الإسلاميّة المقدّسة، بل إنّه لفظ ابتُكر عند ترجمة كلمة سدوميّة من اللاتينيّة، الّتي تتطرّق إلى قصّة سدوم وعامورا في سِفر التكوين في الكتاب المقدّس. ثمّة الكثير من الفقهاء الّذين يعارضون استخدام اللفظ بهذه الصيغة، بحيث يعتبرون ربط اسم نبيّ بممارسات محرّمة هو مغلوط وجائر. اللفظ ’سدوميّة‘ في الأصل هو وصل للعمليّات الجنسيّة الّتي لا تهدف إلى التكاثر، والتطرّق التاريخيّ إلى دلالاتها كان متعلّقًا بالأساس إلى الممارسات الجنسيّة الشرجيّة، لكن ليس فقط هي (انظر السحاق كممارسة سدوميّة أيضًا). السدوميّة، إذن، هي لفظ ذو دلالات متعلّقة بالأفعال والممارسات، وليس في الميول أو في الهويّة الجنسيّة، ولا يمكن ادّعاء أنّه مجرّد ترادف شكليّ مع لفظ ’المثليّة‘.

ثانيًا، ’الخُنثى‘، وهو لفظ عربيّ عريق استُخدم منذ فترة ما قبل الرسالة، يعني "مَن له ما للرجال والنساء جميعًا" «المعجم المحيط»، وما "تتكوّن فيه أمشاج الذكر وأمشاج الأنثى"، «المعجم الوسيط». كذلك ورد في «لسان العرب» "المُخَنَّثُ الّذي يَفْعَلُ فِعْلَ الخَناثى، وامرأَة خُنُثٌ ومِخْناثٌ، ويقال للذَّكر: يا خُنَثُ، وللأُنثى: يا خَنَاثِ". بكلمات أخرى، مصطلح الخُنثى هو مصطلح يصف الحالة الّتي بها لا يكون الجنس واضحًا، إن كان من الجانب الفيزيولوجيّ أو التصرُّفيّ. مثلما يرد في استخدام المصطلح على يد النوويّ (القرن الثالث عشر) "الْمُخَنَّثُ ضِرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّفِ التَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِ النِّسَاءِ وَزِيِّهِنَّ وَكَلَامِهِنَّ وَحَرَكَاتِهِنَّ، وَهَذَا لَا ذَمَّ عَلَيْهِ وَلَا إِثْمَ وَلَا عَيْبَ وَلَا عُقُوبَةَ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَالثانِي مَنْ يَتَكَلَّفُ أَخْلَاقَ النِّسَاءِ وَحَرَكَاتِهِنَّ وَسَكَنَاتِهِنَّ وَكَلَامَهُنَّ وَزِيَّهُنَّ فَهَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ الّذي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَعْنُهُ". ولهذا المصطلح ألفاظ شبيهة في لغات وثقافات أخرى مثل ’Hermaphrodite‘ أو ’Intersex‘، وهي ألفاظ تتطرّق بشكل عامّ إلى حالات طبّيّة مولودة خاصّة.

اللفظ ’سدوميّة‘ في الأصل هو وصل للعمليّات الجنسيّة الّتي لا تهدف إلى التكاثر، والتطرّق التاريخيّ إلى دلالاتها كان متعلّقًا بالأساس إلى الممارسات الجنسيّة الشرجيّة، لكن ليس فقط هي...

ثالثًا وأخيرًا، هناك تداول لمصطلح ’الشذوذ الجنسيّ‘ بين الجماعات الّتي ترفض التعريف الأوّليّ للمثليّة، وبالتحديد ترفض التعايش معها كحالة ’طبيعيّة‘ ثابتة، أو كوضع خارج عن إرادة الفرد. يمكن ادّعاء أنّ مصطلح ’الشذوذ الجنسيّ‘، أو ’الانحراف الجنسيّ‘، هو ترجمة لمصطلح ’البارافيليا‘ (Paraphilia)، وهي كلمة من قسمين ’بارا‘ وتعني ’إلى جانب‘، و’فيليا‘ وتعني ’الحبّ‘ أو ’الصداقة‘، وقد وُضع المصطلح على يد عالم الجنس الكرواتيّ النمساويّ فريدريك كراوس (Friedrich Krauss) في سنة 1903. ولاحقًا، تحوّل المصطلح في استعماله في الدول الغربيّة إلى وسيلة للازدراء والوصم، إلى أن حاول علماء جنس عديدون أن يعيدوا المصطلح إلى موضوعيّة الوصف لحالة جنسيّة مجتمعيّة.

 

عندما أصبح الميل الجنسيّ هويّة فرديّة 

يمكن الاستنتاج، بمساعدة تتبُّع تاريخ الألفاظ ونشوئها، وهو تاريخ الأفكار، أنّ ثمّة نقطة تحوُّل أساسيّة وجوهريّة ظهرت في نهاية القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 في أوروبّا، وهي بداية التعامل مع الممارسة الجنسيّة كميول ثابت أو كهويّة للأفراد. تاريخيًّا، على الأقلّ في ثقافتنا العربيّة، كان الوعي حول الممارسات الجنسيّة وعيًا سائلًا (Fluid)؛ أي أنّها ليست أمرًا ثابتًا، ولا علاقة لها بتعريف الإنسان الجوهريّ أو هويّته الفرديّة أو الجماعيّة. لكن لا يمكننا التغاضي عن التغيّرات الجذريّة الّتي طرأت على العالم منذ قرنين، الّتي قد تكون بمنزلة إعادة صياغة لخارطة البنى الاجتماعيّة والنفسيّة في المجتمعات الحديثة.

ظهور الدولة المدنيّة الحديثة (...) الّتي حوّلت السكّان إلى ’مواطنين‘ أصحاب حقوق وواجبات؛ ممّا أتاح للأفراد إمكانيّة خلق مجموعات هويّاتيّة على أساس تعريفات حديثة عابرة للجنس والعرق والإثنيّة...

من أهمّ العوامل الّتي قد تكون ذات تأثير مباشر في ربط الممارسة الجنسيّة بالهويّة (عن طريق الاصطلاح حول مفهوم ’المثليّة‘)، هي أوّلًا ظهور الدولة المدنيّة الحديثة، الّتي تحكُم عن طريق جهاز التشريع والقانون، والّتي حوّلت السكّان إلى ’مواطنين‘ أصحاب حقوق وواجبات؛ ممّا أتاح للأفراد إمكانيّة خلق مجموعات هويّاتيّة على أساس تعريفات حديثة عابرة للجنس والعرق والإثنيّة (ما يسمّى Identity Politics). هذا الاصطفاف في مجموعات هويّاتيّة يُترجَم بسهولة إلى مطالب سياسيّة تدخل الحيّز العامّ، وتصبح قضايا تخصّ الجماهير ككلّ، مثل أيّة قضيّة قانونيّة اجتماعيّة أخرى.

عامل مهمّ آخر هو بزوغ فرع العلوم النفسيّة في أوروبّا، وتزامنه مع طرح المصطلح Homosexuality. إذا أمعنّا النظر، يمكن ادّعاء أنّ هناك علاقة سببيّة مباشرة بين تطوّر فرع العلوم النفسيّة وبين كلّ ما يتعلّق بإعادة النظر في مفهوم ’المثليّة‘، فإنّ غالبيّة الأسماء الّتي لها قسط ملحوظ في صياغة الحديث والمصطلحات في المثليّة، هي من فرع علم النفس. بما معناه، علم النفس الحديث بفرضيّاته الأساسيّة وبرُزمته القيميّة الأوّليّة، قد يكون أرضيّة خصبة لربط الممارسة الجنسيّة بالهويّة الفرديّة أو الجماعيّة. لتحديد هذه الرزمة القيميّة ودراستها؛ علينا تأمّل العوامل السياقيّة مثل الاقتصاد والسياسة واللغة المتداولة وغيرها؛ ممّا يأخذنا إلى نقاش قد يبدأ في كوبرنيكوس، القائل بأنّ الأرض ليست مركز المجموعة الشمسيّة، أو في ’الثورة الفرنسيّة‘ ومآلاتها، ويمتدّ إلى العلمانيّة والتوجّهات الفلسفيّة مثل الوجوديّة والعَدميّة، أو إلى صراعات القوى والحروب الّتي تمثّلت في النهاية في الحربين العالميّتين الأولى والثانية؛ أي أنّه مبحث يحتاج إلى مجهود أكبر كثيرًا من حياكة سرديّة، في مادّة كهذه الّتي تقرؤون.

 


 

جاد قعدان

 

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في «جامعة تل أبيب». معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.