هل يمكن أسرلة الصراع ضدّ الفصل العنصريّ؟

 

خلال العامين الأخيرين، حدثت تغيّرات في خطاب المجتمع المدنيّ والحقوقيّ الدوليّ تمثّلت بتبنّي توصيف ’الفصل العنصريّ‘ لما يحدث في فلسطين المحتلّة. وقد أصدرت تقارير بهذا الشأن منظّمات دوليّة مثل «هيومان رايتس ووتش»، و«منظّمة العفو الدوليّة»، ومنظّمات إسرائيليّة مثل «بتسليم». تراوحت ردّة الفعل الفلسطينيّة على هذا التغيير بين الترحيب والإشادة والنقد القانونيّ والعلميّ للتقارير، كما فعلت مجلّة «السفير العربيّ» في نقدها لتقرير «منظّمة العفو الدوليّة» وتقرير «بتسليم».

أمّا ردّة الفعل الأكثر غرابة فهي محور نقاشنا في هذا المقال، حيث لم يكتفِ البعض بنقد التقارير والجهود المذكورة أعلاه باعتبارها غير كافية، بل عكف هؤلاء على المناداة بعدم الأخذ بتوصيف الفصل العنصريّ من أساسه؛ بناء على عدد من الادّعاءات الّتي يمكن تلخيصها في أنّ مصطلح الفصل العنصريّ هو توصيف حقوقيّ مصمّم لمواجهة التمييز والعزل العنصريّ الّذي يتعرّض له الفلسطينيّون في مناطق 1948 في الأساس (على حدّ تعبيرهم)، وهو بذلك توصيف سلميّ لا عنفيّ، يستثني من خريطته الإدراكيّة قطاع غزّة الّتي تتعرّض لاعتداءات عسكريّة مدمّرة، وبعض مناطق الضفّة الخاضعة للاحتلال العسكريّ، وهو توصيف محلّيّ ضيّق بحيث يستثني الشتات الفلسطينيّ، وفي أقلّ الحالات سوءًا قد يساوي هذا التوصيف بين حقّ الفلسطينيّين بالعودة وامتيازات الدخول والإقامة والتجنيس لليهود، بموجب «قانون العودة الإسرائيليّ» لعام 1950، وهو خطاب مستورد ومهيمن غربيّ نيوليبراليّ يؤدّي إلى عزل الفلسطينيّين عن محيطهم العربيّ والإسلاميّ، بل قد يؤدّي إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة، وتحويلها إلى قضيّة حقوقيّة.

 

نظام الفصل العنصريّ كحرب استعماريّة

بتاريخ 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1973؛ أي في أوج الصراع الأفريقيّ المحلّيّ ضدّ نظام الفصل العنصريّ، وغيره من الأنظمة الاستعماريّة في أفريقيا، تبنّت «الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة» اتّفاقيّة القمع والمعاقبة على جريمة الفصل العنصريّ، الّتي رفضت الدول الغربيّة الانضمام إليها حتّى يومنا هذا. وقد أخذت ديباجة هذه الاتّفاقيّة بعين الاعتبار إعلان الجمعيّة العامّة منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة بتاريخ 14 كانون الأوّل (ديسمبر) 1960، وقد ذكرت فيه أنّه لا يمكن مقاومة مسار حركة التحرّر أو عكس وجهتها، وأنّ من الواجب، خدمة للكرامة الإنسانيّة والتقدّم والعدالة، وضع حدّ للاستعمار وجميع أساليب العزل والتمييز المقترنة به.

الفصل العنصريّ فهو جريمة ضدّ الإنسانيّة، تُرتكب بشكل مباشر على كلّ المستويات الرسميّة، بحيث تصبح أساسًا لبنية نظام سياسيّ استعماريّ، يعيق أغلبيّة الشعب من الحقّ في تقرير المصير...

من هذا المنطلق، فإنّه يستحيل اختزال توصيف الفصل العنصريّ في إطار حقوقيّ نيوليبراليّ وفصله عن سياقه الاستعماريّ. وإنّ ظنّ البعض أنّ ذلك ممكن يرجع إلى اعتقادين خاطئين: أوّلهما الخلط بين الفصل العنصريّ والعزل العنصريّ والتمييز العنصريّ، وثانيهما اعتقاد أنّ توصيف الفصل العنصريّ قد يحلّ مكان توصيف الاحتلال العسكريّ.

يُعرَّف ’التمييز العنصريّ‘ بأنّه انتهاك حقوق الأفراد المنتمين إلى الجماعات القائمة على العرق أو اللون أو النسب، أو الأصل القوميّ أو الإثنيّ، وتنطبق عليه «الاتّفاقيّة الدوليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصريّ» لعام 1965، إحدى الاتّفاقيّات ’الحقوقيّة الإصلاحيّة‘ ضمن المنظومة الدوليّة لحقوق الإنسان، وهنا يشتمل التمييز العنصريّ على التمييز الرسميّ وغير الرسميّ، الممارَس من قِبَل الأفراد والجماعات والمنظّمات الرسميّة وغير الرسميّة، وذلك بسبب عدم قدرة الدولة أو عدم رغبة الدولة في وقف تلك الانتهاكات. أمّا العزل العنصريّ فهو أحد تلك الانتهاكات غير الرسميّة، الّتي تقوم على الفصل بين السكّان في الحيّز العامّ (التعليم، الصحّة، النقل، التخطيط المدنيّ)، بناء على أصولهم العرقيّة.

أمّا الفصل العنصريّ فهو جريمة ضدّ الإنسانيّة، تُرتكب بشكل مباشر على كلّ المستويات الرسميّة، بحيث تصبح أساسًا لبنية نظام سياسيّ استعماريّ، يعيق أغلبيّة الشعب من الحقّ في تقرير المصير، وهي جريمة على درجة من الجسامة، بحيث خُصّص لها بند خاصّ لتجريمه في ميثاق روما التأسيسيّ للـ «المحكمة الجنائيّة الدوليّة» لعام 1999، الّتي انسحبت منه ’إسرائيل‘ والولايات المتّحدة. تُعرف اتّفاقيّة 1973 بأنّها "تشمل سياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريّين، المشابهة لتلك الّتي تمارَس في الجنوب الأفريقيّ، على الأفعال اللاإنسانيّة ... المرتكبة لغرض إقامة هيمنة فئة عنصريّة ما من البشر وإدامتها، على أيّة فئة عنصريّة أخرى من البشر، واضطهادها إيّاها بصورة منهجيّة". وتشتمل تلك الأفعال اللاإنسانيّة على الحرمان من الحقّ بالعودة إلى الوطن[1]، منع التنمية[2]،  نزع ملكيّة الأراضي، إقامة المعازل العرقيّة المفصولة، تقسيم السكّان وشرذمتهم[3]، والقتل المنهجيّ وصولًا إلى الإبادة الجماعيّة[4].

بحسب هذا التعريف، إذن، فإنّ نظام الفصل العنصريّ الإسرائيليّ صُمّم لمحاربة الفلسطينيّ والهيمنة عليه أينما كان، في جميع أنحاء العالم، وفي جميع أنحاء فلسطين التاريخيّة، في الأراضي المحتلّة عام 1948 وفي الضفّة الغربيّة والقدس، وفي قطاع غزّة، وفي الشتات، وذلك باستخدام أدوات مختلفة تتراوح بين التدابير التشريعيّة والإداريّة، وصولًا إلى الحرب الاستعماريّة المباشرة، وهنا لا يوجد تعارض بين توصيف الفصل العنصريّ وتوصيف الاحتلال العسكريّ في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، بل يوجد حالة (تراكب) بين الاحتلال والفصل العنصريّ، تشبه سابقة احتلال نظام الفصل العنصريّ لناميبيا (والّتي كانت تُدعى جنوب غرب أفريقيا).

 

مناهضة الفصل العنصريّ بوصفها ’حربًا شعبيّة‘ 

إذا كان مستحيلًا اختزال توصيف الفصل العنصريّ بكلّ ممارساته عن أصوله الاستعماريّة، فمن المستحيل أسرلة الصراع ضدّ الفصل العنصريّ وتغريبه، وجعله أداة لفصل الفلسطينيّين عن محيطهم؛ بل هو صراع من أجل الحقّ في تقرير المصير، يلتقي عنده ما هو معولم، وما هو يساريّ، وما هو عالم - ثالثيّ، وما هو عروبيّ، وما هو إسلاميّ.

فعلى سبيل المثال، أكّدت «لجنة الأمم المتّحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغرب آسيا» في لبنان، في تقريرها «الممارسات الإسرائيليّة تجاه الشعب الفلسطينيّ ومسألة الفصل العنصريّ»، أكّدت الهويّة العروبيّة للفلسطينيّين الواقعة تحت الاستعمار والفصل العنصريّ: "لطالمـا ترعرعـت الهويّة الوطنيّة الفلسـطينيّة فـي حضـن الوحـدة العربيّة، والوحـدة العربيّة هنا تصف هويّة قوميّة عرقيّة، وكان الشــريف حســين المكّيّ أوّل من صاغها بوصفها قوميّة عرقيّة؛ أي قوميّة إقليميّة حديثــة. وعندمــا بــدأت الحركــة الصهيونيّة مشــروع الاستيطان فــي المنطقــة، كان ’العــرب‘ هــو المصطلــح العــامّ الّذي يطلــق علــى متحدّثـي العربيّة فـي فلسـطين ... وبفضــل اســتحداث الوحــدة العربيّة، خاصّةً علــى يــد الرئيــس المصــريّ جمــال عبــد الناصــر، والنهــوض بهــا لصناعــة جبهــة هويّاتيّة عربيّة مناهضــة للاستعمار فــي الشــرق الأوسط وشـمال أفريقيـا، أضحـت الهويّة العربيّة غايـة فـي الأهمّيّة، وموردًا سياسـيًّا لـ «منظّمــة التحريــر الفلسـطينيّة»"[5].

إذا كان من المستحيل اختزال توصيف الفصل العنصريّ عن أصوله العسكرتاريّة، فمن المستحيل حصر مناهضة الفصل العنصريّ في الإطار السلميّ اللاعنفيّ؛ إذ إنّ تلك المناهضة، تاريخيًّا، جاءت في سياق حروب التحرّر من الاستعمار...

وإذا كان من المستحيل اختزال توصيف الفصل العنصريّ عن أصوله العسكرتاريّة، فمن المستحيل حصر مناهضة الفصل العنصريّ في الإطار السلميّ اللا عنفيّ؛ إذ إنّ تلك المناهضة، تاريخيًّا، جاءت في سياق حروب التحرّر من الاستعمار، ومن أنظمة الأقلّيّة البيضاء المحاذية الّتي دعمها نظام الفصل العنصريّ، في جنوب أفريقيا مباشرة وبالوكالة (وشارك في بعضها، إلى جانب المقاومين الأفارقة، متطوّعون كوبيّون وسوفييت)، مثل حرب التحرير الزيمبابويّة (1964-1980)، وحرب التحرير الأنغوليّة (1961-1974)، وحرب التحرير الموزمبيقيّة (1964-1974)، وحرب التحرير الناميبيّة مباشرة ضدّ القوّات الجنوب أفريقيّة القائمة بالاحتلال (1966-1990). ومن الجدير بالذكر أنّ التعاون الاقتصاديّ والعسكريّ بين نظامَي الفصل العنصريّ الإسرائيليّ والجنوب أفريقيّ، قد جاء أيضًا في ذات السياق. أمّا في داخل جنوب أفريقيا فإنّ نهاية نظام الفصل العنصريّ لم تأتِ في سياق سلميّ لاعنفيّ كما هو شائع، بل جاء في خضمّ حرب ضروس استخدم فيها «المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ» إستراتيجيّة الحرب الشعبيّة المتأثّرة من التجربة الفيتناميّة[6].

وفي سياق الصراع العسكريّ العربيّ-الإسرائيليّ، فإنّ العلاقة المتبادلة بين مناهضة الفصل العنصريّ والمقاومة المسلّحة قد حدثت بالفعل؛ إذ يُشير الكاتب اللبنانيّ محمّد فضل الله، إلى أنّ الهزائم الإستراتيجيّة والعسكريّة الّتي مُنيت بها ’إسرائيل‘ حديثًا من قِبَل المقاومة، هي من العوامل الأساسيّة وراء التحوّلات في المجتمع المدنيّ الإسرائيليّ، الّتي أدّت إلى الاعتراف بوجود نظام فصل عنصريّ.

هنا نعود للإجابة عن سؤال المقال: هل يمكن أسرلة الصراع ضدّ الفصل العنصريّ بمفهومه الشامل وتمييعه؟ لا، فنحن هنا لا نتحدّث عن ’حقوق فردانيّة‘ و’حقوق طوائف‘ يستغلّها النظام الإسرائيليّ لتحقيق مكاسب تغسل جريمته، بل بتنا نتحدّث عن ذات الجريمة ضدّ الكلّ الفلسطينيّ الّتي يحاول النظام غسلها.

 


إحالات

[1] المادّة الثانية (أ) من اتّفاقيّة قمع وتجريم جريمة الفصل العنصريّ لعام 1973، تنصّ على أنّ الفصل العنصريّ يشتمل على سياسات تحرم "أعضاء فئة أو فئات عرقيّة معيّنة من ... الحقّ في مغادرة الوطن والعودة إليه".

[2] المادّة الثانية (ج) من الاتّفاقيّة تنصّ على أنّ الفصل العنصريّ يشمل "تعمُّد خلق ظروف تحول دون النماء التامّ لفئة عرقيّة".

[3] المادّة الثانية (د) من الاتّفاقيّة تنصّ على أنّ الفصل العنصريّ يشمل "اتّخاذ أيّ تدابير، بما فيها التدابير التشريعيّة، تهدف إلى تقسيم السكّان وفق معايير عنصريّة، بخلق محتجزات ومعازل مفصولة لأعضاء فئة أو فئات عرقيّة ... ونزع ملكيّة العقارات المملوكة لفئة أو فئات عنصريّة أو لأفراد منها".

[4] المادّة الثانية (أ) من الاتّفاقيّة تنصّ على أنّ الفصل العنصريّ يشمل "قتل أعضاء من فئة أو فئات عرقيّة معيّنة، وإلحاق أذًى خطير، بدنيّ أو عقليّ، بأعضاء في فئة أو فئات عرقيّة". والمادّة الثانية (ب) من الاتّفاقيّة تجعل تعريف الفصل العنصريّ يشتمل على "إخضاع فئة أو فئات عرقيّة، عمدًا، لظروف معيشيّة يُقصد منها أن تفضي بها إلى الهلاك الجسديّ، كلّيًّا أو جزئيًّا"؛ أي التعريف المتّفق عليه للإبادة الجماعيّة.

[5] لجنة الأمم المتّحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغربيّ آسيا (الإسكوا). (2017). الممارسات الإسرائيليّة تجاه الشعب الفلسطينيّ ومسألة الأبارتهايد (الفصل العنصريّ). ترجمة المرصد الأورومتوسّطيّ لحقوق الإنسان. ص 42.

[6] Kaufman S. (2018). South Africa’s civil war, 1985–1995. South African Journal of International Affairs.  Volume 24, - Issue 4. Pages 501-521.

 


 

فخري الصرداوي

 

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.