ما معنى أن نسير بين الشهداء؟

حارة الياسمينة، البلدة القديمة في نابلس | جعفر اشتيّة | Getty Images

 

قبل سبع سنوات، كنت أسير بين أزقّة البلدة القديمة في نابلس، كان ذلك بدافع الأغراض البحثيّة، الّتي أتتبّع فيها شواهد للذاكرة الفلسطينيّة بين ثنايا العمارة المقاومة. اتّجاهي نحوها كان لأنّها تزخم بأضرحة الشهداء؛ فبين الخطوة والخطوة ترى أسماء الشهداء منتشرة، ومتلازمة مع تاريخ استشهادهم. هذا كان من أثر المعركة الّتي خاضتها البلدة القديمة مع الاستعمار الصهيونيّ في «انتفاضة  الأقصى» عام 2000. والآن، منذ بداية العام والبلدة القديمة تشهد معركة متجدّدة مع الاستعمار، تتفجّر بالمفاجآت الّتي يملك سلطتها المقاومون.

ما زالت البلدة القديمة تحتضن المقاومين بأزقّتها وعمرانها ودمارها؛ فهي مكانهم المألوف للمناورة، وللزحف والاختفاء والتصويب، يستطيعون قراءة خباياها على عكس المستعمِر. كنت أفكّر حينذاك في سطوة خطاب الدولة، الّذي تمسّكت به المؤسّسة الرسميّة الفلسطينيّة، والّذي تغلغل في تفاصيلنا اليوميّة بعد «انتفاضة الأقصى» عام 2000، وأخذتُ قالبًا من المفاهيم النظريّة الّتي ظننت أنّها قد تنطبق على مآلات مشروع التحرّر الفلسطينيّ، الّتي كان عنوانها «أماكن الذاكرة»، وكيف أخذ الشهداء مكانًا وزمانًا حُبِسا في الأضرحة. أخطأتُ، في مكان الشهداء وزمانهم، ولهذا أعيد مرّة جديدة التفكير فيهم حولنا وبين خطواتنا. وأتساءل اليوم عن معنى أن نسير بين الشهداء يوميًّا.

 

«اكتب عالشمس آلاف الضحايا»[1]

كان عنوان «أماكن الذاكرة» - وهو من مساهمات بيير نورا[2] - يحمل بين بنيانه مجموعة من المقارنات لسياسات الذاكرة وصناعة التاريخ، وكيف تُنتج الذاكرة المعاصرة بين ثنايا الأمكنة والأزمنة الاجتماعيّة. تتجسّد فكرة الضريح كفكرة للاستبدال الذاكراتيّ اليوميّ العفويّ؛ لأنّ الفكرة من أماكن الذاكرة تكمن في بلورة الذاكرة عن لحظة تاريخيّة معيّنة، بحيث تُمزَّق عن تلك اللحظة وتُجسَّد الذاكرة في مواقع معيّنة، ذلك لأنّه لم يعُد ثمّة مكان – واقع ’حقيقيّ‘ (الجسد لا يستشهد مرّتين). يكمن الهدف الأساسيّ من أماكن الذاكرة في توقيف الزمن ومنع النسيان، وإنشاء حيّز للأشياء الّتي تُخلّد الموت، وتُشيِّئ ’اللامحسوس‘، كلّ هذا لتجميع أكبر قدر من المعاني في أصغر الإشارات والمدلولات. يقارن بيير نورا بين التاريخ المصطنع - كما يسمّيه – والذاكرة الحقيقيّة ليجادل بأنّ الذاكرة بطبيعتها حيّة، بينما التاريخ لا يخضع فقط للبناء وإنّما لإعادة البناء أيضًا. وهو يرى وبصورة حادّة أنّ هناك عمليّة قطع تنشأ بين الذكرى والتاريخ، بل يرى أنّ هناك فقدانًا لتاريخ الذكرى، وأنّ الذكرى الجديدة هي الّتي أصبحت تنتج التاريخ الحاضر[3].

إنّ أهمّ مخاطر الذاكرة الحيّة أنّها تتمرّد على التاريخ لأنّها تشعر بأنّه مؤامرة عليها، لذا، تمارس المؤسّسة ’التطهير البصريّ‘، وتنقل كلّ مشاهد الموت وبقايا الجسد إلى حجر، تحت فكرة ضرورة إخفاء رطوبة الجسد والدم وتعفّنه إلى مشهد من الصلابة...

تبعًا لبيير نورا فإنّ هذا الاتّجاه يكمن داخل المجتمع العصريّ الّذي يشهد انتقاليّة ذات وتيرة متسارعة، بدأت فيها معظم - إن لم نقل كلّ - أشكال الارتباط بالماضي والمؤسّسة في آنٍ واحد للهويّة الجمعيّة، بالاضمحلال التدريجيّ لتحلّ محلّها أماكن الذاكرة؛ ممّا يجعل ’أماكن الذاكرة‘ البديل الحسّيّ والاصطناعيّ لذاكرة جمعيّة لم تعُد موجودة الآن. لقد جاءت أماكن الذاكرة لتكثّف ذكريات أحداث مضت حول النصب التذكاريّة، والأعمال الفنّيّة، والكتب التاريخيّة، وأيّام الذكرى السنويّة؛ فتحلّ محلّ العوالم الحقيقيّة الّتي عايش فيها الناس الأحداث الماضية (الموت، الانتصار، الهزيمة)، فتشعر بأماكن الذاكرة كأنّها جاءت لتقول باستحالة وجود الذاكرة بشكلها الطبيعيّ العفويّ[4]. ومن بعد أن تتحقّق وتتحوّل الرابطة المعنويّة الراغبة في تحقيق السيادة إلى مؤسّسات تجسّد الاغتراب عن الأفراد ورغباتهم، يأخذ محيط الذاكرة بالانحسار، وتأخذ الحاجة إلى أماكن الذاكرة بالتزايد، مثل النصب التذكاريّة، ومواقع المعارك من هزائم وانتصارات، والمتحف كبيت للذاكرة، وتكون فيها محاولة استعادة العلاقة بالأمّة، كأنّها علاقة بأشياء محسوسة وملموسة ومعروضة، خاصّة بعد أن تجرّدت العلاقة وزالت الذاكرة بوصفها ممارسة طقسيّة.

إنّ أهمّ مخاطر الذاكرة الحيّة أنّها تتمرّد على التاريخ لأنّها تشعر بأنّه مؤامرة عليها[5]، لذا، تمارس المؤسّسة ’التطهير البصريّ‘، وتنقل كلّ مشاهد الموت وبقايا الجسد إلى حجر، تحت فكرة ضرورة إخفاء رطوبة الجسد والدم وتعفّنه إلى مشهد من الصلابة، ويتسامى بذلك من خلال مشهد رخاميّ وحجر زجاجيّ، ليصبح دور النصب التذكاريّ تهذيب العنف بحضوره المشهديّ[6]. بكلمات أخرى، إنّ أماكن الذاكرة مثل النصب التذكاريّة وأيّام الذكرى السنويّة والمتاحف، جاءت جزءًا من خطاب الدولة القوميّة المعاصرة، الّتي تهدف إلى صناعة التاريخ أو بنائه تبعًا لسياسات الذاكرة والنسيان، في سلطة للتظليل والإضاءة على لحظات زمنيّة معيّنة تفيد بتكثيف الحضور الدولاتيّ على حساب حرّيّة الذاكرة الجمعيّة، والأهمّ بالتأكيد، للتحكّم بالعنف أو تهذيبه لتكون الدولة هي المحرّكة الوحيدة له. وهو ما كان عنوان مشروع بناء ’الدولة الفلسطينيّة‘ داخل عمليّة إعادة الإعمار، ومواراة الموت، ثمّ التركيز على «عيد الاستقلال»، وذكرى النكبة، وأسماء الشوارع والدوّارات، والمتاحف، ووقفات الصمت الكثيرة على أرواح الشهداء، والنصب التذكاريّة المنتشرة لهم في أغلب الفضاءات العامّة.

 

مَحْوُ ذاكرة الانتفاضة

ما حدث في فلسطين في «انتفاضة الأقصى»، من هدم واختراق للعمار من قِبَل المستعمِر الصهيونيّ في المدن والقرى والمخيّمات، جعل من الفضاء المعماريّ العامّ مادّة مليئة بصدى الحرب، وصوت الجسد الّذي طالب بالحرّيّة، حيث كانت مجمل الفضاءات العامّة مصابة بثغرات أسمنتيّة من الرصاص، أو بركام أسمنتيّ تراكم بفعل الصواريخ والجرّافات الاستعماريّة. بالتالي، مجموع الهدم والقتل لجسد المقاومة من العمار والإنسان، كان على مرأًى من الفاعلين الاجتماعيّين الفلسطينيّين الّذين عايشوه يوميًّا، كان هو الصورة بكامل دلالتها ومدلولاتها، الّتي تشير إلى الواقع الاستعماريّ المحسوس يوميًّا.

إنّ هذه الصورة الّتي كان يجري تلقّيها، كانت تعيد إنتاج الحرب بشكل مباشر لمرحلة التصادم مع آثار الهدم والدم والرصاص أمام أعيننا. لكن، كمنت الإشكاليّة عندما خُلقت أدوات تلقٍّ جديدة داخل الفضاء العامّ، تُقصي الحاجة إلى التصادم المباشر مع المستعمِر، أي الحاجة إلى مواراة كلّ الآثار الّتي عبّرت عن معركة المقاومة مع الاستعمار في هذه الانتفاضة وهو ما كانت الباحثة تسير وراءه على أنّه حدث في فلسطين بعد عمليّات إعادة الإعمار للمقاطعات والمخيّمات، والبلدات القديمة، وتحديدًا تبعًا لهذا النصّ ما حدث في البلدة القديمة في نابلس؛ فبعد نهايات غير محسومة لـ «انتفاضة الأقصى»، انتشرت ثقافة وضع أضرحة للشهداء في البلدة القديمة في نابلس، وبفعل سلطة خطاب بناء المؤسّسات الدولاتيّة، أفدت في بحثٍ سابق أنّ ممارسات وضع الأضرحة أصبحت سياسة لحبس العنف الثوريّ للمقاومين المستشهدين داخل حجر بأسمائهم وتاريخ استشهادهم، بجانب منزل جديد أعيد إعماره، أو شارع وحيّ نُظّف من الرصاص، إلى درجة جعلت المكان - البلدة القديمة - يألف الموت دون استحضار شحنته الثوريّة.

ما غاب عنّي هو مجموعة من الملاحظات الّتي تُعنى بممارسة السير بين أضرحة الشهداء يوميًّا، وفي قدرتها على توليد فاعلين سياسيّين جدد من داخل البلدة القديمة، أخذوا بتلقيب أنفسهم بأسماء شهداء رحلوا عنّا، ولا سيّما تحدّيهم لتشوّه إنشاء دولة و’مؤسّسات أمن‘ تحت واقع استعماريّ. ربّما، في هذه اللحظة، أفكّر فينا مرّة أخرى، وكيف نُربّي ذاكرتنا، ذاكرة قهرنا، وبمكان الشهيد وزمانه والشهيد القادم، على الشمس الساطعة فوق رؤوسنا، وليس فقط عبر ممارسات الكتابة على الحجر.

 

المقاومة تخرق خارطتَي الاستعمار والمعرفة

يقول لنا علي حرب[7]: "مع كلّ عمل فلسفيّ خارق، نجد أنفسنا إزاء حدث فكريّ يخرّب مشهد المعارف، وخارطة المفاهيم، بحيث يتغيّر التفكير بعده عمّا كان عليه قبله"، وتقول الأرض: هذا ليس بأيّ عمل، أو أيّة فلسفة، بل هي المقاومة بفلسفتها، ومعرفتها، وخارطتها. فعل المقاومة المتجدّد والخارق للاستعمار هو ما يجبرنا على تغيير خارطة المفاهيم الّتي نرى بها حياتنا، ومكان الشهداء حولنا.

في التاسع من آب (أغسطس) لهذا العام، قتلت القوّات الاستعماريّة الصهيونيّة الشهيد إبراهيم النابلسي، الملقَّب بـ ’أبو فتحي‘، داخل منزل احتمى فيه داخل البلدة القديمة بنابلس. إبراهيم النابلسي الّذي حاولت القوّات الاستعماريّة قتله مرّات عدّة يلقّب بـ ’صاحب الأرواح التسع‘، وتمكّنوا من مباغتته بعد أن صُنّف الأخطر على ’أمنهم‘. كان إبراهيم قد لقّب نفسه بـ ’أبو فتحي‘ نسبة إلى الشهيد نايف أبو شرخ أحد مؤسّسي «كتائب شهداء الأقصى» خلال «انتفاضة الأقصى» عام 2000.

 

الشهيد إبراهيم النابلسي | Getty Images 

 

هنا ينبغي الوقوف قليلًا على ملازمة ’أبو فتحي‘ شهيد البلدة القديمة في عام 2004، وإبراهيم النابلسي (أبو فتحي الجديد) شهيد نفس البلدة من عام 2022، والأخير من مواليد عام 2003. لم يرَ النابلسي ’أبو شرخ‘ في حياته؛ فتبعًا لسنّه كان يبلغ سنة واحدة عندما اغتيل نايف أبو شرخ في البلدة القديمة في نابلس، إلّا أنّ كليهما صُنّفا قائدين لـ ’كتائب شهداء الأقصى‘ في الضفّة الغربيّة. لكنّ هذه القيادة حُملت في سياقين أو زمنين مختلفين، على الرغم من التقائهما في النهاية في زمن واحد (زمن الشهادة)؛ فأبو شرخ ابن «فتح» المنظّمة، وأُسِرَ في سجون الاستعمار الصهيونيّ فترة الثمانينات، ومع قدوم «اتّفاقيّة أوسلو» عمل في جهاز الارتباط المدنيّ، ومن ثَمّ المخابرات. مع بداية «انتفاضة الأقصى» عام 2000، أسّس مع مجموعة مقاومين آخرين «كتائب شهداء الأقصى»، ووُجّه رصاصهم نحو الاستعمار.

لم يُحبس نايف أبو شرخ في ضريحه؛ بل عاش مجدّدًا مع تعالي صوت الرفض تحت نفس العُصبة الصفراء لـ «كتائب شهداء الأقصى». حَمَلَ السياق الجديد إبراهيم النابلسي’أبو فتحي‘ قهرًا متراكمًا على مرّتين/ حياتين، زُرِعَ في الروح المقاومة للاستعمار...

ربّما كانت قصّة ’أبو شرخ‘ وغيره الكثير، من الشواهد على التشوّه ’الأمنيّ الوطنيّ‘ تحت الاستعمار؛ فبالرغم من أنّ «السلطة الفلسطينيّة» عملت على تفريغ الفعل السياسيّ الثوريّ داخل المؤسّسات بعد «اتّفاقيّة أوسلو»، إلّا أنّ الرفض العضويّ لمكان هذا الفعل الثوريّ، يجعله الشرخ الأوّل الصارخ لرفض أيّة مهادنة مع بقاء الاستعمار. استُشْهِدَ أبو شرخ في عام 2004 مع مجموعة من رفاقه الّذين احتموا بسراديب البلدة القديمة بنابلس، ووُضع له نصب تذكاريّ على أحد دوّارات مدينة نابلس. بعد ما يقارب العقدين، لم يُحبس نايف أبو شرخ في ضريحه؛ بل عاش مجدّدًا مع تعالي صوت الرفض تحت نفس العُصبة الصفراء لـ «كتائب شهداء الأقصى». حَمَلَ السياق الجديد إبراهيم النابلسي’أبو فتحي‘ قهرًا متراكمًا على مرّتين/ حياتين، زُرِعَ في الروح المقاومة للاستعمار، ولرفض محاولات قتل التحرّك الثوريّ، من قِبَل الاستعمار ووكلائه المحلّيّين.

 لقد ارتدى النابلسي مجموعة من العصبات، ليس فقط للكتائب، وإنّما لمختلف الأذرع العسكريّة للأحزاب الفلسطينيّة الّتي عرفت سطوتها في المعارك مع الاستعمار الصهيونيّ، ولاحقًا عرفت بتفسّخها، وركض بعضها وراء مكاتب السلطة. لقد حاول النابلسي توحيد ما نُزع منهم ومنّا تحت البندقيّة والمطاردة والوصيّة. نُقلت وصيّة إبراهيم المسجّلة صوتيًّا على كلّ الهواتف المحمولة، وأصبح صوت الشهيد الحيّ يتعالى مع كلّ عمليّة تنفَّذ ضدّ الاستعمار بعد ارتقائه. بالتأكيد لم يكن إبراهيم هو نواة تفجير المقاومة، إلّا أنّ صوته وصورته المقاومة اغتالا لحظات السلم الخبيثة المزروعة بيننا. بعد أقلّ من شهر على استشهاده، انطلقت مجموعة «عرين الأسود»، الفاعلين الثوريّين الجدد في نابلس البلدة القديمة.

 

"ولّى زمن الخوف" 

في الثاني من شهر أيلول (سبتمتبر) 2022، اجتمع الشهداء جميعًا على منصّة واحدة في البلدة القديمة بنابلس، شهداءً قدامى وجدد ومؤجَّلون، في ما أطلق عليه ’انطلاقة العرين‘. كان يومًا تقول فيه «عرين الأسود»: "ولّى زمن الخوف". في أثناء كتابة هذه المقالة من بداية شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) 2022، ما تزال عمليّات المواجهة مع الاستعمار مستمرّة، خاصّة بعد أن فرض الاستعمار الحصار على نابلس - وهي سياسة استعماريّة معهودة – إذ عُدنا نرى أزقّة البلدة القديمة العصيّة على الاستعمار، ونتلقّى ثغرات جديدة للرصاص في حارة الياسمينة وحيّ العطعوط. ورغم محاولات الاغتيالات العديدة الّتي تستهدف «عرين الأسود»، والّتي كان آخرها استشهاد وديع الحوح، أحد قادة المجموعة، إلّا أنّ نَفَسَ المقاومة الحاليّ عاد ليُحدِثَ شرخًا  في خطاب المؤسّسة الأمنيّة الأوسلويّة والفيّاضيّة؛ إذ تكاتف الفلسطينيّون ممّن عُرفوا بـ ’أبناء الأجهزة الأمنيّة‘ مع إخوتهم من «عرين الأسود» في نابلس، لمواجهة الاستعمار في المعركة الأخيرة الّتي استشهد فيها خمسة شباب من البلدة القديمة، لنكرّر أنّه رفْض عضويّ لحبس الفعل الثوريّ.

في الثاني من شهر أيلول 2022، اجتمع الشهداء جميعًا على منصّة واحدة في البلدة القديمة بنابلس، شهداءً قدامى وجدد ومؤجَّلون، في ما أطلق عليه ’انطلاقة العرين‘. كان يومًا تقول فيه «عرين الأسود»: "ولّى زمن الخوف"...

 ما يلهم أيضًا هو الحضن الشعبيّ الّذي يُحيي معهم نَفَسَ المقاومة يوميًّا، عبر المآذن، وفي الشوارع، وعبر شاشاتنا المحمولة. نحن نشهد اليوم مقاومة تتولّد بفاعلين جدد، وأدوات مقاومة جديدة، ومفاجآت تُربك الاستعمار بكلّ لحظة. لم تتوقّف مقاومة الاستعمار بالرغم من محاولات السيطرة الأمنيّة الّتي يدّعي الاستعمار أنّه تمكّن منها؛ فالعمليّات الفرديّة ضدّ الاستعمار لم تتوقّف قطّ، ولم تكن المجموعات الجديدة للمقاومة الّتي تُعرف اليوم بـ «عرين الأسود» و«كتيبة جنين» و«كتيبة بلاطة» ظاهرة مفاجئة؛ فالقهر الاستعماريّ المتواصل في تفاصيل الحياة اليوميّة، والشهداء الّذين يملكون زاوية للألم والفخر في البيوت والشوارع والأزقّة الفلسطينيّة، هم منبع لتفجّر المقاومة الّتي تتنفّس اليوم.

 يُنصح عادة في العلوم الاجتماعيّة ألّا نكتب أثناء تأجّج الحدث، إلّا أنّ الكتابة اليوم هي أيضًا لحظة للتنفّس، وللمساندة، وبالتأكيد الأيّام القادمة ستحمل الكثير ممّا لا يستطيع هذا النصّ القصير حمله. هذه المقالة ما هي إلّا محاولة للتعبير عن مجموعة من الأفكار تجاه خرق المقاومة للاستعمار، وكذلك خرقها لأفكارنا، لنستعيد القوّة ممّا سُلب منّا، ولنحاول أن نتحرّك ونفهم ضمن هذا الواقع الّذي يقاوم، جسدًا وعمارًا. هي ذاكرة حياتنا الّتي تولّد ممارسات الرفض لأيّ حبس أو فرض أو تشوّه استعماريّ يمنع حرّيّتنا، بانتظار أن يحيا الشهداء مجدّدًا.

 


إحالات

[1] أغنية من «انتفاضة الحجارة».

 [2] Nora, Pierre. Between memory and History: les leieux de Memoire, University of California, 1989.

[3] بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة: جورج زيناتي، (دار الكتاب الجديد المتّحدة، الصنائع، 2009).

[4] لورا عدوان، صورة فلسطين في روايات اللاجئين الفلسطينيّين، دراسة مقارنة بين مخيّم قلنديا في فلسطين، ومخيّم اليرموك في سوريا، رسالة ماجستير غير منشورة (رام الله: جامعة بير زيت، 2009).

[5] عزمي بشارة، الذاكرة والتاريخ، الكرمل، عدد 50، 1997.

[6] ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة: فريد الزاهي (الدار البيضاء: أفريقيا للشرق، 2003).

[7] علي حرب، الفكر والحدث، حوارات ومحاور (بيروت: دار الكنوز للآداب 1997).

 


 

ياسمين قعدان

 

 

 

مرشّحة الدكتوراه في «العلوم الاجتماعيّة» من «جامعة بير زيت»، تدرس أطروحتها الإيكولوجيا السياسيّة، معاني الأرض ومسارات الحياة اليوميّة في زمنيّة الفلّاح الفلسطينيّ.