من رام الله... هنا غزّة

مدينة غزّة.

 

في يوم الجمعة الموافق للثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 1956، أطلق المذيع السوريّ الشابّ، عبد الهادي البكار، العنان لكفّ القمر كي يطرق باب الشمس، معلنًا: "من دمشق... هنا القاهرة". كان المصريّون في تلك اللحظة يلتفّون حول أجهزة الراديو في المقاهي، وعلى شرفات المنازل، في أزقّة المحروسة وحواريها، وكانت أسماع العرب وقلوبهم متعلّقة بمنبر «الجامع الأزهر»، الّذي كان من المفترض أن يعتليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، مخاطبًا الجماهير إثر إعلان العدوان الثلاثيّ على مصر، إلّا أنّ مروحيّات التحالف قصفت هوائيّات إرسال الإذاعة المصريّة، فانقطع البثّ، وبلغت القلوب الحناجر، لتأتي كلمات بكار مدوّية عبر أثير إذاعة دمشق، فاخترقت القلوب قبل الآذان، وخاطبت العقول قبل الأسماع، وسطّرت ملحمة إعلاميّة وحدويّة لا تزال محفورة في ذاكرة العرب الجمعيّة، وشكّلت جزءًا من الممارسة النضاليّة للشعب الفلسطينيّ، الّذي استعار كلّ مضامينها ومكنوناتها في صرخة استغاثة أطلقتها أسوار القدس: "من شان الله... يا غزّة يلّا"، من الخليل... هنا جباليا، من جنين... هنا خان يونس، من رفح... هنا نابلس.

 

في الطريق إلى غزّة

قبل أشهر، وفي إطار خيانتي المشروعة للسياق والحلم والأصدقاء، رحلت من متن النصّ إلى بحر القوافي، وزرت غزّة فعلًا، عانقت القدس سرًّا في الطريق؛ فقد قرّر الجنديّ، المتمترس على حاجز ’موديعين‘ غرب رام الله، أنّنا وصلنا متأخّرين بواقع ثلاث دقائق، ولم يعُد بمقدورنا أن نمرّ، لنعود أدراجنا إلى حاجز قلنديا الّذي يقع على الطرف الشرقيّ لمدرّج «مطار القدس الدوليّ». فوضى الحواسّ وحالة اللغط الحاصل لم تحولا دون إطلاق العنان لمخيّلتي، لأشاكس نفسي وعقلي بفكرة ماذا لو أنّ «مطار غزّة» لم يُدمَّر، ولو أنّ «مطار القدس» بقي يعمل كسابق عهده، ترى هل كنّا سنسمع نداء مضيفة الطيران ينادي الركّاب استعدادًا لركوب طائرة «الخطوط الجويّة الفلسطينيّة» المتّجهة من القدس إلى غزّة؟ ربّما من غير المنطقيّ أن نستقلّ طائرة لقطع مسافة تقلّ عن 100 كم، لكن من غير المنطقيّ أكثر أن نعود أدراجنا إلى القدس، من حيث وصلنا، عبر منظومة من الحواجز الأمنيّة الّتي تضبط حركة الفلسطينيّين وتعيقها، لنصل إلى غزّة بعد أكثر من 6 ساعات، لا لشيء إلّا لأنّ جنديًّا مستوردًا قرّر ألّا يسمح لنا بالمرور.

في القدس ألقيت التحيّة على حيّ الطالبيّة، وأطلقت صرخة مدوّية نحو القطمون، لكن لم يجبني أحد، خليل... يا خليل، حتّى خليل السكاكيني لم يعُد موجودًا هناك، وأصبح مركزًا في رام الله...

في القدس ألقيت التحيّة على حيّ الطالبيّة، وأطلقت صرخة مدوّية نحو القطمون، لكن لم يجبني أحد، خليل... يا خليل، حتّى خليل السكاكيني لم يعُد موجودًا هناك، وأصبح مركزًا في رام الله. السائق الّذي أقلّنا في الطريق إلى غزّة جذبني بلهجته الفلّاحيّة الأصيلة الّتي ورثها عن جدّه، رافضًا كلّ تقدّم مصطنع: "بَحِّـــر [انظر] يا عمّي، هاظ [هذا] الحجر الإحمر [الأحمر] جميعه بكا [كان] دور عربيّة، هاذي [هذه] الطالبيّة...". شردت أدقّق في تفاصيل الحجارة، أتأمّل آثار من رحلوا عن تلك البيوت، حبّات عرق سالت هنا من جبين شيخ يلبس قمبازًا ويعتمر كوفيّة، ويجذبني صوت السائق مرّة أخرى: "هاظ شارع غزّة". في الطريق مزارع أبقار لشارون، ومناحل عسل لمردخاي، ومنطاد يراقب كلّ تحرّكات أهل غزّة. الدخول إلى غزّة، متى ما حصلت على تصريح لذلك، لا يُعَدّ إشكاليًّا ككارثة الخروج منها، تفتيش روتينيّ سريع لأغراض لا يسمح لك أن تعيد معك جلّها، باستثناء ملابسك وجوّالك وحقيبة يد صغيرة فقط.

 

الحاجز الّذي يحاول أن يكون ’معبرًا‘

في الطريق إلى غزّة، وبعد المرور بعسقلان بدقائق، تفاجأ في منتصف الطريق بمبنًى ضخم مجهَّز ومُعَدّ على غرار صالات المطارات الدوليّة، حيث تتموضع يافطة تحمل عبارة "أهلًا وسهلًا بكم في «معبر إيرز»"، باللغتين العبريّة والإنجليزيّة، إلى جانب اللغة العربيّة، وتعطي طابعًا عالميًّا يُكْسِبُ ’الحاجز‘ صفة ’المعبر‘، في محاولة ظاهرة لنفي صفة ’الحاجز‘ الّذي يقطّع أوصال الجغرافيا، ويعبث بالنسيج العمرانيّ والإيكولوجيا الحضريّة الفلسطينيّة، ضمن سياق استعماريّ مستمرّ وممنهج.

تُعتبر الحواجز من الطرق المتعدّدة الّتي توظّفها منظومة الاحتلال في سعيها المستمرّ إلى تطوير أدوات السيطرة الاستعماريّة على الحيّز الفلسطينيّ، ومصادرة منازل الفلسطينيّين وهدمها، ومصادرة أراضيهم، وتشريد السكّان بصفة مستمرّة، وفرض إجراءات أمنيّة ورقابيّة رقميّة مشدّدة على حركة المواطنين، وتشويه الخرائط والبيانات المكانيّة، إضافة إلى الحدّ من تطوّر قطاع الاتّصالات والمعلوماتيّة، واستمرار التحكّم بطيف تردّدات الاتّصال الفلسطينيّ، الّذي يقتصر حاليًّا على الجيل الثاني في غزّة، والجيل الثالث في الضفّة الغربيّة، وعرقلة إدماج عناصر التكنولوجيا المتقدّمة في حياة الفلسطينيّين اليوميّة، وتقويض ركائز إقامة دولة فلسطينيّة مكتملة الأركان.

تُعتبر الحواجز من الطرق المتعدّدة الّتي توظّفها منظومة الاحتلال في سعيها المستمرّ إلى تطوير أدوات السيطرة الاستعماريّة على الحيّز الفلسطينيّ، ومصادرة منازل الفلسطينيّين وهدمها، ومصادرة أراضيهم، وتشريد السكّان بصفة مستمرّة...

وفي الوقت الّذي ينضوي فيه ترتيب الحواجز العسكريّة وتوزيعها - وما تمخّض عنها من تغيّرات متعلّقة بتكريس مختلف مظاهر اللامساواة وأنماطها، وعلاقات القوّة غير المتكافئة بين المستعمِر والمستعمَر – على إعادة تشكيل للمنظومة الحضريّة الفلسطينيّة، بما يضمن توطيد سيطرة الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ على الأرض، ويشكّل أداة مصمّمة لتعزيز الهياكل الّتي أرساها في العقود الماضية وترسيخها، فإنّه يبدو جليًّا كيف أنّ المعلوماتيّة ذات دور مميّز وفريد من نوعه في علاقة الفلسطينيّين بمن يستعمرهم، إذ امتدّت الممارسات الاحتلاليّة ’الرقميّة‘ لتطال كلّ أشكال العيش والتطوّر الطبيعيّ للفلسطينيّين، كما عمدت إسرائيل إلى استخدام التكنولوجيا أداة لبسط النفوذ والاستحواذ على الأرض، والمساهمة في تجزئة المناطق الفلسطينيّة، وتعزيز منظومة الضبط والمراقبة، وفرضها كحقيقة راسخة أو واقع ثابت.

على الحاجز، توظّف إسرائيل كلّ التكنولوجيا الممكنة، وتجلّياتها المتمثّلة في هيمنة الدولة الإسرائيليّة، لإدارة مرور الفلسطينيّين وضبطه، وينتقل قرار المرور إلى منظومة الرقابة الإلكترونيّة والتصاريح والبطاقات الممغنطة أو البيومتريّة. ورغم كلّ مساعي الترويج للحواجز باعتبارها ’معابر‘ متطوّرة تكنولوجيًّا، بغرض تسهيل حياة الفلسطينيّين وتنقّلاتهم، ومحاولات إخفاء فظاظة النظام وقبحه، وإقحامه بطريق خارجة وغير متّسقة مع محيطه الفلسطينيّ، إلّا أنّه، وبالنظر إلى بنية الاستعمار الإسرائيليّ والمصفوفة العلائقيّة لترتيب الحيّز، وإلى ديناميّات القوّة الّتي تحدّد ملامح هذا الحاجز ومعالمه، يظهر بشكل واضح كيف أنّ إسرائيل وجدت نفسها مضطرّة إلى مراقبة تحرّكات الفلسطينيّين وضبطها، من خلال توظيف التكنولوجيا والعمارة لترسيخ سياسة السيطرة والإخضاع الّتي تمارسها على الحواجز بصفة مستمرّة.

 

غزّة الّتي تأخذها معك

بعد عناء وصلنا غزّة، المدينة الّتي تستقرّ رواسب السحر في عينيها، بين شاطئ الحبّ ومرفأ العشّاق، هي ما استكانت يومًا، وظلّت تضيء الشموع، تلملم الآهات والويلات والنكبات والبسمات، والوعود. على الشاطئ مظلّة متهالكة يجتمع تحتها الصيّادون في السادسة صباحًا، يعرضون ما جاد به عليهم بحر غزّة الرحب رغم القيود. أسماك ’طازجة‘، لم نعتد رؤيتها في رام الله منذ سنوات، تفارق الحياة خارج مياه البحر، فتنتهي دورة حياتها، لتبدأ دورة حياة جديدة يطعم فيها الصيّاد أفواهًا جياعًا قضت الليل بانتظار عودة مركبه إلى الميناء. كان العيد قريبًا، وكان طفلي الصغير ينتظر هديّة أو لعبة يحضرها ’بابا‘ كعادته عندما يسافر، لكن لا يُسمح لك بإخراج شيء من غزّة. اشتريت له من شارع ’النصر‘ بنطالًا بلون البحر، وقميصًا يحمل رسومًا تعكس جمال الشاطئ، فكان طعم العيد هذا العام بنكهة غزّة، وألوانها الّتي كان بودّي لو أستطيع حملها وأخذها كلّها معي. 

في غزّة، تترك بعضًا منك رغمًا عنك، بقايا زجاجة عطر أهدتك إيّاها حبيبتك في عيد الحبّ، موس الحلاقة، وشاحن الهاتف، وقلبك. يُسمح لك بالعودة صفر اليدين وخالي الوفاض...

في غزّة، تترك بعضًا منك رغمًا عنك، بقايا زجاجة عطر أهدتك إيّاها حبيبتك في عيد الحبّ، موس الحلاقة، وشاحن الهاتف، وقلبك. يُسمح لك بالعودة صفر اليدين وخالي الوفاض، إلّا من بعض مشاعر وذكريات يحاول جهاز التفتيش، الّذي ينتهك عرض أفكارك وحرّيّة جسدك في طريق العودة إلى رام الله، أن يجرّدك منها ويمحوها من ذاكرتك، ويبعدك عنها تمامًا ككلّ لحظات السعادة الّتي تعيشها في هذه المدينة. لكنّني رغم البعد ما زلت مقيمًا هناك، أطلّ كلّ يوم من نافذة منزلي على جدران المخيّم، وعلى عشّ طائر المينا الهنديّ، هذا الطائر الدخيل الّذي استوطن فلسطين وتغذّى على فراخ ’الدوري‘ البلديّ، وقبل أن أغلق النافذة وأسدل الستار، تصرخ بقايا القلب وشظايا الروح: "من رام الله... هنا غزّة"!

 


 

سليم أبو ظاهر

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه في «العلوم الاجتماعيّة» من «جامعة بير زيت»، ويهتمّ بدراسات السكّان الأصلانيّين والتاريخ الاجتماعيّ الاقتصاديّ الحديث، والتفاعلات اليوميّة الزمانيّة المكانيّة.