عن ياسين بونو... رافضًا التحدّث بغير العربيّة

حارس المنتخب المغربيّ ياسين بونو

 

"ليست مشكلتي أنّكم لم تُحْضِروا مترجمين لكم"، كان هذا ردّ ياسين بونو، حارس مرمى المنتخب المغربيّ في «كأس الأمم الأفريقيّة 2022» قبل عشرة أشهر، وهو التصريح الّذي عاد ليُنْشَر من جديد في الشبكات الاجتماعيّة، مساء السبت الماضي، بعد فوز المنتخب المغربيّ على نظيره البرتغاليّ، وتقدّمه التاريخيّ إلى منتصف النهائيّ في «كأس العالم فيفا قطر 2022». يجدر القول إنّ بونو كان من أهمّ ركائز نجاح المنتخب المغربيّ، فإنّ أداءه البارع حارسَ مرمى، كان قد أنقذ الموقف في الكثير من الهجمات خلال المباريات. لكن، استمرّ هذا الأداء الجميل أيضًا إلى خارج الملعب؛ فتصريحات بونو للصحافة الأوروبّيّة والغربيّة قد تُعَدّ في نظر الكثيرين هدفًا ذهبيًّا في حدّ ذاته. ولم يكن هذا التصرّف استثنائيًّا لبونو، فيُذكَر أنّه يميل إلى الإجابة بالعربيّة حين يُسْأَل بلغات مغايرة في المؤتمرات الصحافيّة.

كأس العالم لكرة القدم حدث منظَّم على المستوى القوميّ؛ أي أنّ ما يجمع بين اللاعبين في كلّ منتخب هو القوميّة، وليس عوامل جامعة أخرى كالنوادي الحرّة...

لماذا حظي هذا الحدث بكلّ هذا الاهتمام من الجماهير العربيّة، إلى درجة تلفيق أخبار غير دقيقة في ما يخصّ ردّة فعله في المؤتمر الصحافيّ الأخير، بعد الفوز ضدّ البرتغال؟ وهل فعلًا هناك موقف سياسيّ عميق من وراء الحدث؟

 

 حيّز لصراع/ لقاء القوميّات

 لا يمكن الحديث بدون التطرّق إلى السياق الأوسع للحدث، وهو تنظيم «كأس العالم» في بلد عربيّ، دولة قطر، لعام 2022. مثل بقيّة المنافسات الرياضيّة الدوليّة، فإنّ «كأس العالم» حدث منظَّم على المستوى القوميّ؛ أي أنّ ما يجمع بين اللاعبين في كلّ منتخب هو الانتماء القوميّ أو الوطنيّ، وليس عوامل جامعة أخرى كالنوادي الحرّة أو اتّحاد عمّال أو موظّفين أو غير ذلك. أحداث مثل «كأس العالم» أو «الألعاب الأوليمبيّة»، قد تكون النوع الوحيد من الأحداث الّتي تشارك فيها شعوب العالم جميعها، ليتواصلوا في ما بينهم بلغة الجسد واللياقة البدنيّة، عابرة الحدود والجغرافيا. يمكن ادّعاء أنّ هذا النوع من التنافس القوميّ يخلق جوًّا قبليًّا بامتياز، متأثّرًا بطبيعة الحال بمعايير سياسيّة وتاريخيّة وجغرافيّة.

من مميّزات المنافسة الرياضيّة القوميّة أنّها تخلق حيّزًا تنافسيًّا سلميًّا بين الشعوب والدول، ممّا يتيح التعارف وتعزيز العلاقات بينها للتقارب والتوادّ من جهة، لكن من جهة أخرى فإنّه حيّز تحكمه صراعات القوى والتنافس على الرتبة العالميّة. ثمّة أولويّة قوميّة للدول بالمشاركة والنجاح في المنافسات الرياضيّة؛ فقد يكون هذا النجاح مؤشّرًا على نجاعة النظام وصحّته، وكذلك فإنّه يعكس للعالم الخارجيّ وجهًا من وجوه الثقافة والعلاقات الداخليّة بين شرائح المجتمع. مثلًا، يدلّ وجود لاعبين من فئات جيليّة متعدّدة على تعاطي المجتمع مع معضلة الجيل، ووجود تنوّع إثنيّ أو عرقيّ للاعبين، أو قد يكون عدم وجوده مؤشّرًا على مدى تقبّل - أو رفض - المجتمعات لهذه الفئات، وغيرها من العوامل.

الترجمة غالبًا ما تكون ممارسة سلطويّة وهرميّة بامتياز، وهذا يظهر في (...) افتراض أنّ اللغات غير الاستعماريّة، أو اللغات ذات عدد المتحدّثين الصغير هي في حاجة دائمة إلى ترجمة، ممّا يحدّ من حرّيّة المتحدّث...

وإذا انتقلنا إلى مراقبة الأحداث من مستوى المنتخب الواحد إلى مستوى العلاقة بين المنتخبات المختلفة، فإنّ حدثًا مثل «كأس العالم» بمقدوره أن يصوّر الهرميّة العالميّة للدول، أو أن يعكس طبيعة العقليّات المختلفة، والتحالفات أو العداوات بين الشعوب. فضلًا على تصويرها، فإنّ لهذا الحدث أهمّيّة في إعادة تشكيل هذه العقليّات والعلاقات وتصميمها. وإذا أردنا تحديد الحديث على بونو وموقفه من شكل التداوليّة المهيمنة في المؤتمر الصحافيّ، يمكن الشروع بالقول إنّه أوّلًا، وقبل كلّ شيء، هذا الموقف هو موقف مُنافٍ للعقليّة الاستعماريّة، الّتي تفترض أنّ اللغات الأوروبّيّة هي اللغات العالميّة الّتي تفرض هيمنتها في جميع المناسبات الدوليّة، أي أنّه موقف رفضويّ يزعزع الوضع القائم الّذي لطالما افْتُرِضَ أنّه ’طبيعيّ‘ أو ’عاديّ‘ أو ’مفهوم ضمنًا‘.

 

الترجمة ومكانة اللغة عالميًّا

كثيرًا ما يُتعامَل مع الترجمة بصفتها ممارسةً حياديّة خارجيّة لعلاقات القوى، لكنّ الواقع بعيد جدًّا عن هذا التصوّر. فالترجمة غالبًا ما تكون ممارسة سلطويّة وهرميّة، وهذا يظهر في محاور متعدّدة مثل، أوّلًا، وجود حالة غير متناظرة لحاجة الترجمة بين اللغات، وتحديدًا افتراض أنّ اللغات غير الاستعماريّة، أو اللغات ذات عدد المتحدّثين الصغير في حاجة دائمة إلى ترجمة، ممّا يحدّ من حرّيّة المتحدّث لحاجته إلى مترجمين ملازمين. وثانيًا أنّ وجود ترجمة غير متزامنة (وهذا لارتفاع تكاليف الترجمة المتزامنة)، وهو ما يُجْبِر المتحدّث على التوقّف والانتظار بعد كلّ فكرة يطرحها، ليستطيع المترجم نقل الأفكار إلى المستمعين. ثالثًا، وجود سلطة معيّنة غير قابلة للمراقبة بحيازة المترجمين، أي أنّه ليس بيد المتكلّم حيلة لفحص الترجمة وتحريرها لحديثه ولأفكاره. رابعًا، ثمّة الكثير من الأفكار والمصطلحات غير القابلة للترجمة (Untranslatable)، ممّا يُفْقِد الكثير من الأفكار والأنساق رونقها حين تُنْقَل إلى لغة ثانية عبر الترجمة. خامسًا، وأخيرًا، تعزيز الهرميّة المتخيّلة للقوميّات العالميّة وتعزيز الهيمنة، ولا سيّما هيمنة الإنجليزيّة حين يُفْتَرَض أنّها لغة التواصل المشترك (Lingua Franca)، ممّا يوفّر لمتحدّثيها أفضليّات وامتيازات كثيرة.  

جانب آخر ذو أهمّيّة هو المتعلّق بالحالة العاطفيّة الفرديّة للمتكلّم حين يتكلّم بلغته الأمّ. تشير دراسات وتجارب بشريّة إلى أنّ الإنسان يكون على تواصل أعمق مع عاطفته حين يتكلّم بلغة الأمّ، وأنّه يكون ’باردًا‘ أو ’متعقّلًا‘ حين يتداول بلغات ثانية ويفكّر بها. هذه المعطيات سارية المفعول أيضًا عندما يكون المتكلّم ثُنائيّ اللغة، أي أنّه يجيد لغة الأمّ ولغة ثانية بمستوًى عالٍ. فإذا أخذنا بونو مثالًا، فإنّه تحديدًا بعد مباراة مفعمة بالمشاعر، في حاجة إلى التداول بلغته الأمّ، أكثر من أيّ شيء آخر، ليتواصل مع ذاته ومع وجدانه أوّلًا، قبل التواصل مع المحيط؛ فالتعبير اللغويّ يُرى على يد الكثيرين أنّه أداة ليس فقط للتواصل، بل أيضًا لفهم الذات والتنفيس عن المشاعر.

 

بين اللغة الناقلة، واللغة المُنْتِجَة

هناك تبنٍّ للنظريّة القائلة بأنّ اللغة ليست محض نقل للأفكار، بل إنّها عمليّة ملازمة لتشكُّل ذات الأفكار، وأنّ الأفكار تتغيّر وتتحوّل وفق اللغة والتداوليّة المستخدمة. ربّما هذا هو السبب في قول ’إنتاج المعرفة‘ وليس ’اكتشاف المعرفة‘؛ فالمعرفة تُنْسَج وتُحاك عبر العمليّات التداوليّة والجدليّة والعقليّة، وهي ليست كائنة هُلاميّة في مكان ما تنتظر أن تُكْتَشَف وتُحْضَر إلى العالم. التعبير ’نقل المعرفة‘ مضلّل أيضًا؛ فالمعرفة لا يمكن أن تُنْقَل كما هي، كلّ عمليّة تهدف إلى ’نقل‘ معرفة ما، هي في حدّ ذاتها مكوّنة لأربطة معرفيّة جديدة، وَوَعى العرب قدمًا لهذا الأمر حين اصطلحوا على لفظ ’التعريب‘ في استحضار المعرفة الخارجيّة واستيرادها، ليس كما هي، بل كما يلائم النسق والعقيدة العربيّة والإسلاميّة.

في تخيّل هويّة الجمهور، هناك ما يغيّر من فحوى الخطاب ومضمونه وأهدافه من جهة، ومن جهة أخرى فإنّه يموضع هذا الجمهور في مركز الأحداث، ويجعله في موقع المهيمن...

نهاية، ثمّة حاجة إلى ذكر مسألة المتلقّين لخطاب بونو؛ فخلال التعبير باللغة العربيّة، قد يكون الجمهور المتلقّي المتخيّل أبناء الشعوب العربيّة. التعبير لهذا الجمهور المتخيّل هو في حدّ ذاته مُخْضِع ومُحَتِّم لديناميكيّة مختلفة عن التعبير المتغرّب؛ أي الموجّه إلى الغرب أو الغريب. في تخيّل هويّة الجمهور، هناك ما يغيّر من فحوى الخطاب ومضمونه وأهدافه من جهة، ومن جهة أخرى فإنّه يموضع هذا الجمهور في مركز الأحداث، ويجعله في موقع المهيمن. لذا، يمكن تفهّم موجة الاهتمام والتداول العربيّ الّتي اجتاحت الشبكات الاجتماعيّة عند إطلاق الخبر (ولو أنّه غير دقيق)، عن المؤتمر الصحافيّ وياسين بونو، تمامًا كما يمكن تفهّم لهفة طفل يحظى باهتمام لأوّل مرّة على منصّة عالميّة، ويقال له: "أنت الّذي في لبّ الأحداث، وأنت أوّل مَنْ أوجّه إليه الخطاب".

 


 

جاد قعدان

 

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في «جامعة تل أبيب». معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.