«الصندوق القوميّ اليهوديّ»... ما بعد التأسيس (2/2)

مستوطنون يزرعون أشجار قرب عسقلان. 1950

 

تغطّي هذه المقالة المرحلة الثانية من عمر «الصندوق القوميّ اليهوديّ»، الّتي بدأت بحملة ’السور والبرج‘ الاستيطانيّة، وما تمثّله من تغيّر في العلاقة بين الجماعة الصهيونيّة والاستعمار البريطانيّ من جهة، وآليّات المواجهة المتّبعة ضدّ الفلسطينيّين مع اندلاع ثورة 1936-1939 من جهة أخرى. سنقرأ المستوطنات الّتي بُنِيَتْ خلال الحملة، وما تمثّله من سياسات جديدة تعبّر عن تلك التوجّهات، مثل الاستيطان في الأماكن الحيويّة، لناحية الربط بين نقاط استيطانيّة، الاستيطان على المناطق الحدوديّة أو لحماية امتداد استيطانيّ كبير، كما الاستيطان على المرتفعات. علاوة على هذا سنعرض تفاعل عمليّات التشجير مع الاستيطان وتأثرهما المتبادل، إذ شهدت مرحلة الثورة وما بعدها تضخّمًا سنفصّل بعض جوانبه.

 

فرض الوقائع... «السور والبرج»

 أطلق يوسف وايتس يوسف فايتس، الّذي مثّل «الصندوق» أمام «الوكالة اليهوديّة» خلال حملة «السور والبرج» فكرة ترتكز على فرض الاستيطان أمرًا واقعًا؛ ممّا أدّى لاحقًا إلى حملة «السور والبرج» الاستيطانيّة. كان هذا ردّ الصهاينة على أعوام الثورة الأولى، الّتي تميّزت بتضاؤل الاستيطان؛ إذ شُكّلت الحملة للردّ على تكتّل الفلسطينيّين ضدّ مصادرة، أو احتلال، أو الاحتيال للسيطرة على الأراضي، كما حرق الغابات الاستعماريّة والعمل على قلعها، إضافة إلى فتور أداء الاستعمار البريطانيّ خلال ثورة فلسطين 1936-1939 في عمليّات التشجير.

 بهذا المعنى، يمكن اعتبار الحملة، بشكل محدّد من أشكالها، انتصارًا لوجهة نظر ما يُعرف اليوم باليمين في إسرائيل، الّذي رأى – تاريخيًّا - في السلطات البريطانيّة عدوًّا للحركة الصهيونيّة، أو للدقّة؛ فإنّه رأى في أيّ وجود لا يهوديّ على أرض إسرائيل عدوًّا. ولم يؤمن بالحصول على الأرض من خلال الشراء، أو الاحتيال، أو بواسطة القوانين البريطانيّة أو العثمانيّة، بل بالقوّة. في المقابل، اعتبرت الجماعة الصهيونيّة – ككلّ - محاولات بريطانيا لقمع الثورة الفلسطينيّة بالضعيفة، ممّا دفعهم إلى القيام بدور الاستعمار البريطانيّ في كثير من المجالات، ومنها التشجير، لاستكمال قمع الثورة، الّتي كانت تتوسّع رقعة أحداثها بشكل يوميّ.

يمكن اعتبار حملة «السور والبرج» انتصارًا لوجهة نظر (...) اليمين في إسرائيل، الّذي رأى – تاريخيًّا - في السلطات البريطانيّة عدوًّا للحركة الصهيونيّة، أو (..) رأى في أيّ وجود لا يهوديّ على أرض إسرائيل عدوًّا...

بناءً على تخطيط العمليّات، فإنّ بناء المستوطنة ألّا يستغرق غير ليلة واحدة. بناء المستوطنة يعني بناء سور حول المستوطنة للحماية وبرج مسلّح وراء هذه الأسوار للمراقبة. من هذه المستوطنات، مستوطنة «גשר»، الّتي أقيمت على يد «الحركة الكيبوتسيّة»، وهي حركة تضمّ 3 حركات استيطانيّة، هي «الكيبوتس الموحّد»، «الكيبوتس المتديّن»، و«الكيبوتس المحلّيّ». تقع المستوطنة في غور الأردنّ، لناحية الجنوب، 10 كيلو مترات من بحيرة طبريّا، وبالقرب من طريق طبريّا - بيسان أو «شارع 90» اليوم. وقد سمّيت على هذا الاسم للاستدلال على احتلال الجسور في تلك المنطقة، تحديدًا منطقة جسر المجمّع بالإضافة إلى السيطرة على سكّة قطار الحجاز. وهي تطلّ من ارتفاع 368 مترًا لكونها تقع على هضبة سيرين، قضاء بيسان، وتمتدّ إلى حدود الأردنّ، أو على الأقلّ يمكن استخدامها طريقًا إلى الحدود، ومركز ثقل للسيطرة على نهر الأردنّ.

هاجم الجيش العربيّ ووحدات خاصّة من الجيش العراقيّ هذه المستوطنة في حرب 1948. بينما شملت القوّات الصهيونيّة مستوطني كيبوتس الجسر والمستوطنات المجاورة وكتيبة جولاني. وقد اشترك في هذا الهجوم 330-400 مقاتل فلسطينيّ، بالإضافة إلى القوّات العربيّة الّتي بلغت بضعة آلاف.

عملت الصهيونيّة على حماية جيوبها السكّانيّة، من خلال الاستيطان العسكريّ على أعالي التلال المشرفة على هذه الجيوب، وتشجيرها بهدف تمويه القادمين إليها من الحدود الأردنيّة في حالة مرج ابن عامر. شكّلت، بهذا المعنى، مستوطنة «גשר» حاجزًا يعمل على منع القوّات العربيّة من الوصول إلى المرج. على سبيل المثال، مع بداية الهجوم العربيّ في الثامنة من مساء 27 نيسان (إبريل) 1948، شكّلت المستوطنة نقطة ارتكاز عسكريّة مهمّة، رغم فشلها في منع القوّات العربيّة من السيطرة على مرتفع جمل في معركة استمرّت 3 أيّام. يبعد المرتفع بضع مئات من الأمتار لناحية الشرق عن المستوطنة، ويعلوها بنحو 500 متر. من نافل القول أنّ المرتفع ستسيطر عليه الجماعات الصهيونيّة مع قيام دولة إسرائيل.

 

من على عتبة الثورة

في أعوام الثورة 1936-1939 والأعوام الّتي تلتها، هاجر إلى فلسطين 50 ألف مستوطن صهيونيّ زيادة على الأعوام الّتي سبقتها مجتمعة. نمى الاستيطان 343%، وهبطت عمليّات التشجير الّتي عُنِيَتْ بها سلطات الاستعمار البريطانيّ، وطرأ على وتيرة تشجير «الصندوق القوميّ» انخفاضًا بالمقارنة بالأعوام السابقة الّتي شَهِدَتْ تضاعف المساحات المشجّرة، وفور انتهاء الثورة، حافظ التشجير على وتيرته بعد هبوطه إلى النصف، من أعوام العشرين والثلاثين المبكّرة من القرن الماضي وحتّى الثورة. يعود هذا إلى محاربة التشجير، أو رفض أيّ شكل من المفاوضات على الأرض لناحية طرق الاستيلاء أو التشغيل أو البيع، والعمل على استرجاعها في فترة الثورة. بعد قمع الثورة تضخّم عدد المستوطنين إلى نصف مليون، وهذا ما حوّل التشجير، في فترة الأربعينات والفترة الّتي تلت الثورة، إلى سوق قوميّ مربح، ومستوعب لكميّات كبيرة من المستوطنين.

لاحقًا، بدأت الاعتبارات العسكريّة بالصعود خلال التفكير في الاستيطان والتشجير. مثّلت منطقة مرج ابن عامر من وجهة النظر الاستعماريّة اليهوديّة ’نموذجًا للاستيطان‘، لناحية ملاءمة الأرض لمتطلّبات المشروع الصهيونيّ، فهي "مستوية وقابلة للزراعة والسكن"، ولا تحتوي على كثافة سكّانيّة، إذ كان عدد سكّانه من الفلسطينيّين في حينه 9,000، ممّا يسهّل من عمليّة طردهم. كما أنّ مكانتها المقدّسة في الميثولوجيا اليهوديّة لذكر المرج في «التوراة»: «عيمك يزراعيلي»، بالإضافة إلى ربطه بين شمال البلاد ومنطقة الساحل من خلال الطرق الّتي تربطه بطبريّا ويافا وحيفا والقدس، ممّا يجعل منه، إضافة إلى قيمته العسكريّة، طريقًا للإمداد العسكريّ خلال الحرب.

يقع المرج بين الجليل الأسفل وجبال نابلس، ممّا يعني، في حالة الاستيلاء عليه، قطع الامتداد السكّانيّ العربيّ في حينه. كما أنّه يشكّل، إذا ما نظرنا إليه نظرة عموديّة الارتفاع، مثلّثًا تشكّل زواياه: جنين وحيفا وطبريّا. هذه المواصفات، بالإضافة إلى مرتفعاته السبعة، وعيون المياه فيه، شكّلت حافزًا مهمًّا لدى شخصيّات مثل حاييم شتورمان - الّذي عمل على تأسيس منظّمة «هَشُومير» العسكريّة وتسليحها، وقد حلّت المنظّمة نفسها عام 1920 لتؤسّس «الهاجانا» - ومثل يهوشع هانكين، للاستيطان في المرج. ساهم هذان خلال أعوام العشرين في توسيع الاستيطان في المرج ليصل إلى أكثر من 50 ألف دونم. مع بداية العقد الثالث للقرن العشرين، بلغ الاحتلال الصهيونيّ لأراضي المرج 200,000 دونم، بين مستوطنات وغابات استعماريّة. هذه الأهمّيّة العسكريّة والجغرافيّة والأمنيّة والمعنويّة للمرج، دفعت الجماعة الصهيونيّة للاستيطان، ليس فقط في المرج وحول عيون مائه وفي مرتفعاته، بل أيضًا على أطرافه وحدوده بهدف حمايته.

 

«قلاع أوسيشكين»

انتهى تخطيط حملة «السور والبرج» ليمهّد لبناء «قلاع أوسيشكين אוסישקן»[1]، في شمال بحيرة طبريّا في 1939-1943، وإنشاء إحدى عشرة نقطة استيطانيّة في النقب في عام 1946. مثّلت النقاط الإحدى عشر إعلان الصهاينة عن إرادتهم في ضمّ النقب للأرض اليهوديّة، إذ كانت هذه النقاط هي الأولى في نوعها، والأكبر حجمًا (ما يفوق 35,000 دونم)، ضمن ما استعمره الصهاينة في النقب حتّى تاريخ بنائها.  

يعود منطق التفكير في بناء  «قلاع أوسيشكين» إلى عقيدة «فرض الوقائع بالقوّة»، وهي العقيدة الّتي تبنّاها اليمين في إسرائيل تاريخيًّا...

يعود منطق التفكير في بناء النقاط إلى عقيدة «فرض الوقائع بالقوّة»، وهي العقيدة الّتي تبنّاها اليمين في إسرائيل تاريخيًّا كما أسلفنا، وإرغام الأطراف الأخرى على التعامل معها على أنّها  الطبيعيّ. في تمّوز (يوليو) 1946، قدّم نائب رئيس السلطات البريطانيّة في فلسطين هربرت موريسون خطّته لتقسيم أرض فلسطين إلى أراضٍ عربيّة ويهوديّة وبريطانيّة. تشتمل الأراضي اليهوديّة بحسب الخطّة، على مناطق في شمال الضفّة الغربيّة، ومناطق في الجليل، ومرج ابن عامر (لكثافة مستوطناته، وهو انتصار آخر لعقيدة «فرض الوقائع»)، والساحل الفلسطينيّ بين حيفا ويافا.

 بحسب الخطّة لا يحصل الصهاينة على أراضٍ في النقب، الأمر الّذي دفع بهم إلى الشروع في الاستيطان ضدّ المخطّط ثلاثة أشهر بعد علمهم به. استكمالًا للخطّة بدأت السلطات البريطانيّة بفرض قيود على الاستيطان خارج المناطق المخصّصة لليهود في برنامج موريسون. يكتب يوسف فايتس: "في ذات الوقت الّذي تعمل فيه السلطات على تقييد الحركة الصهيونيّة، وُلدت فكرة تقوية الأداء الاستيطانيّ تحديدًا في المناطق الّتي يحسب البريطانيّون أنّهم سيصادرون حقّنا في الاستيطان بها".

مثّلت أعوام الأربعين المبكّرة ما سمّاه الباحث الفلسطينيّ بلال شلش بالتوازن الديموغرافيّ عشيّة حرب 1948 في يافا. تظهر الخارطة (1) تشجير طريق يافا القدس بكثافة، وهي المنطقة الّتي ستشهد معارك عنيفة بين حامية يافا والتنظيمات العسكريّة الصهيونيّة. كما تظهر الخريطة تشجير منطقة مرج ابن عامر.

 

خريطة (1) 

 

يظهر من خلال الخريطة، وملاءمتها مع مقولة بلال شلش، التناغم والتنسيق والملاءمة بين عمليّات التشجير والاستيطان، ضمن عمليّة البناء العسكريّ أو التحضير للحرب.

في المقابل، تكمن قيمة التشجير في كونه سوق عمل أو قطاعًا واسعًا من الوظائف والتشغيل للمستوطنين الجدد، يضاف إليه بناء علاقة بين المستوطن وأرض إسرائيل. تُعتبر هذه ’القيمة المضافة‘ للاستعمار الاستيطانيّ أو مرحلة التمايز عن الاستيطان الكلاسيكيّ، لإرادة الأوّل في الاستثمار روحيًّا في المكان.

في أعوام الثورة المتأخّرة ارتفع الاستيطان كما ذكرنا، كما برزت حاجة التشجير العمليّة لأجل تشغيل قطاع واسع من المستوطنين. وكما تُظهر المعطيات، فإنّ تقريبًا ثُلث غابات إسرائيل بُني في الأعوام الّتي تلت مرحلة تعاظم الاستيطان تلك، بالإضافة إلى كونها أعوام قيام الدولة. لقد نَظَّرَ وعمل المستوطن يوسف فايتس بشكل مثابر على الاستثمار في التشجير، بوصفه عمليّة تركيب بين ’سوق العمل‘ و’الانتماء القوميّ‘ لدى المستوطنين الجدد. هنا، يعلن الصندوق نفسه في شكل آخر من صياغة الأمّة اليهوديّة.

 

ما بعد التأسيس

في هذا القسم، سنركّز على الأعوام العشر الّتي تلت تأسيس الدولة، بوصفها عمليّة تكامل مع ما سبقها من تشجير لأرض فلسطين، وبوصفها مرحلة جديدة في تكثيف التشجير على المناطق الحدوديّة، و"مأسسة التشجير الأمنيّ" في الصندوق.

 

الأمن أوّلًا ... الأمن دائمًا

بعد عقد على قيام إسرائيل، تنتهي هذه المرحلة بـ ’الصفقة التاريخيّة‘ بين الجيش والحكومة من جهة، و«الصندوق القوميّ» من جهة أخرى. في نيسان (إبريل) 1960، اندمجت «دائرة التحريش الحكوميّة» التابعة للحكومة الإسرائيليّة في «الصندوق». بموجب الصفقة، يصبح «الصندوق» متفرّدًا بالإشراف على عمليّات التشجير في إسرائيل، والربح العائد منها. استفاد الجيش من هذا لتقليص الإجراءات المطلوبة من أجل التشجير، إذ مع وجود طرف واحد حائز على الأراضي، وجهة واحدة يتوجّه إليها، يصبح ثقل البيروقراطيّة أقلّ، كما اختفاء ’النزاعات‘ على ملكيّة الأرض بين المؤسّسات الحديثة النشأة. في ذات الشهر من عام 1953، بدأت العمليّات الأولى في اندماج ’ملّاك الأراضي‘ داخل «الصندوق القوميّ»، عندما تفكّكت «دائرة الأراضي» في الجيش لتندمج في «الصندوق»، أي أنّ عمليّات التداخل الأولى كانت بين الصندوق والمؤسّسة العسكريّة.

 

التفكير الأمنيّ في الغابات، سياق تاريخيّ

استخدم الفرنسيّون منطق التفكير في الغابات خلال الحرب العالميّة الأولى، في حربهم على غابة أردين، الّتي تربط بين بلجيكا ولوكسمبورغ وفرنسا وألمانيا، ضدّ الألمان، أي توظيف الغابات كخطوط دفاع عسكريّة تمنع أو تعيق تقدّم الدبّابات وناقلات الجنود. في مراحل أخرى، تظهر الغابات، أي المناطق الكثيفة بالأشجار، في دورها العسكريّ والأمنيّ كأداة في يد القوّات غير النظاميّة، من مليشيات، أو جماعات منظّمة عسكريًّا، أو أحزاب لديها جناح عسكريّ، ضدّ قوى الجيوش المنظّمة، مثل الثورات المسلّحة في كوبا وفيتنام، واستخدام «حزب الله» غابات جنوب لبنان ضدّ إسرائيل في حرب تمّوز (يوليو) 2006. وفي العصر القديم، استخدمت القبائل الغيليّة والجرمانيّة الغابات الكثيفة في شمال أوروبّا لمهاجمة الجيوش الرومانيّة ونصب الكمائن لها.

فرّق الجيش بين الغابات الأمنيّة والغابات العسكريّة؛ إذ تعمل الأولى على تمويه العدوّ (...) بينما تركّزت الغابات العسكريّة في تشجير القواعد العسكريّة...

في سياق موضوعنا، برز هذا النمط من التفكير بشكل مكثّف في تحريش الحدود الواقعة بين إسرائيل والأردنّ، لكونها الحدّ الأطول لإسرائيل. عَمِلَ الجيش الإسرائيليّ على تشجير جوانب الشوارع الطويلة والطرق الالتفافيّة، وتشجير المنشآت العسكريّة للتمويه. وعمليًّا، فرّق الجيش بين الغابات الأمنيّة والغابات العسكريّة؛ إذ تعمل الأولى على تمويه العدوّ وإعاقة تقدّمه في حالة هجومه (ولا تحتاج إلى وجود المستوطنين والجنود فيها)، وقد تركّزت في المناطق الحدوديّة وحول المستوطنات والمنشآت الحيويّة في الدولة. بينما تركّزت الغابات العسكريّة في تشجير القواعد العسكريّة، على المرتفعات وبالقرب من المصادر الطبيعيّة.

عمليًّا، اشتمل مصطلح ’الغابات الأمنيّة‘ على العناصر التالية: جوانب الطرق، إلغاء طريق أو بناء طرق جديدة، بالإضافة إلى السيطرة على الحدود، تحديد مناطق القتال، منع المراقبة من الجوّ، حماية المستوطنات وتسييجها، وزرع المتاريس أمام القوّات العربيّة. بينما اشتمل مصطلح ’الغابات العسكريّة‘ على تشجير معسكرات الجيش لغرض التمويه، وبناء مساحات يختبئ فيها الجنود ومعدّاتهم العسكريّة، وفي هذه العمليّات بدأ الصبّار بالدخول ضمن عمليّات التشجير.

قسّم الجيش خطط التشجير لتمتدّ عامين إلى ثلاثة أعوام، منذ قيام دولة إسرائيل حتّى 1960. في أعوام الخمسين المبكّرة، بدأ الجيش بتشجير الشارع الرئيسيّ بين السوق وفندق «الملك ديفيد» في القدس، لتمرّ الغابة حول سكّة القطار وبمحاذاة «المطبعة الوطنيّة» في القدس. إضافة إلى تشجير طريق النبيّ صموئيل وباب الواد. بالإضافة إلى القدس، عمل الجيش في أعوام 1952-1953 على تشجير 25 موقعًا بحجم 60-100 دونم للموقع الواحد في شمال النقب. في حالة النقاط العسكريّة، على الغابة أن تشكّل سياجًا بعمق 50-100 متر حول القاعدة العسكريّة.

 

المجتمع في خدمة الجيش

مع بداية تأسيس الدولة، بدأت كلّ جهة مختصّة تعنى في جميع ما يقع ضمن مجالها الحيويّ، أي بناء الجيش الإسرائيليّ الغابات الخاصّة الاستعمال. في حينه اعتُبِرَ «الصندوق» مؤسّسة مدنيّة، وصحيح أنّ «الصندوق» عَمِلَ على هذا النمط من التشجير منذ بداياته، إلّا أنّ عمليّة التعامل معه بوصفه مؤسّسة مدنيّة، ونشوء مؤسّسة تختصّ وتحتكر التعامل مع الأمور الأمنيّة أو العسكريّة، هذه المرحلة الجديدة (قيام الدولة)، سوف تطلق مرحلة ’تفاعل‘ بين المؤسّسة العسكريّة والصندوق، تنتهي باتّفاق نيسان (إبريل) 1960، الّذي ينصّ على عدم اعتماد التشجير الأمنيّ والعسكريّ على بناءً على رغبة العاملين في «الصندوق» أو آليّات قراءتهم للواقع، بل استنادًا إلى الجيش وتقاريره وما يصدره من مطالب في مجال التشجير.

بالعودة إلى أعوام الخمسين المبكّرة، كان «الصندوق» متحرّرًا بشكل نسبيّ من ’التفكير الأمنيّ‘، لتُكَلَّف وزارة الأمن والجيش به، ممّا أدّى إلى انخراط الجنود في عمليّة زرع الشجر. عَمِلَ الجيش في أعوام مأسسته الأولى، وقبل توقيع اتّفاق نيسان (إبريل) 1960 مع «الصندوق»، على استخدام طلّاب المدارس، وأبناء مؤسّسة «Gadna» الّتي أسّسها الجيش لإعداد الشباب للالتحاق بالجيش والمؤسّسة العسكريّة. من خلال هذه العمليّة تداخل الجيش والمجتمع بشكل جديد، وعاد الصهاينة إلى الشكل الأوّل للـصهيونيّ من جديد. ويمكن القول إنّ في زارعة الأشجار في الأعوام الأولى من عمر إسرائيل، نشأ التطابق بين الجيش والمجتمع.

في حينه كانت المرجعيّة الأمنيّة نقطة أخرى ضمن سلسلة نقاط عُنِيَ بها «الصندوق»، والوحيدة في جدول نقاط المؤسّسة العسكريّة ووزارة الأمن، وقد اعتمد «الصندوق» في التشجير الأمنيّ والعسكريّ على أفكار وعقائد يطلقها رؤساء الصندوق أو أحد قادته. بعد مأسسة النزعة الأمنيّة والعسكريّة في «الصندوق» - إثر الاتّفاق - في سلسلة إجراءات بينه والجيش، أنتجت تاريخ تفرّده في التشجير للمرّة الأولى رسميًّا، أصبح «الصندوق» ملزمًا بخدمة المؤسّسة العسكريّة، وهي بداية مرحلة إخضاع «الصندوق» للجيش.

نمى المشروع الصهيونيّ في تناقضاته الداخليّة، بين المؤسّسات والأفكار الّتي تكوّنه، وتكوين بعضها بعضًا...

كما ذكرنا، فقد كانت أعوام العقد الرابع من القرن الماضي أعوام الذروة في الاستيطان، ممّا يعني توسيع هيكل الجيش في الخمسينات، وحاجته إلى بناء معسكرات تدريب ومصانع على مساحات أكبر وبوتيرة أسرع. قدّمت «الصندوق» بعد الاتّفاق بعام، 15 موقع تشجير للجيش – منها غابات أمنيّة وعسكريّة - موزّعة على ما يعادل 2,500 دونم. منها 10 مواقع في الجنوب، و5 مواقع في شمال فلسطين، بمحصول 221,800 شجرة. وبشكل شبيه، قدّم مرتفعات صفد (كنعان والجرمق وعروس) في أعوام 1963-1965 بمساحة 17,000، وجبل الدحي جنوب الناصرة في أعوام 1951-1966 بمساحة 5,600، ومرتفعات الجلبوع على مدار 15 عامًا بعد قيام الدولة. بينما في غابات القدس، استغرقت العمليّة 15 عامًا بين 1951-1966 لتشجير 13,000 دونم.

 

الفهم شرطًا للمقاومة

 تحاول هذه المادّة قراءة فكرة «الصندوق القوميّ اليهوديّ»، وكيفيّة بنائه، ودوره الوظيفيّ، وتقاطعه مع محيطه من مؤسّسات صهيونيّة، وتأثّره بأحداث شكّل انخراطه فيها مراحل جديدة من عمره. في هذه المادّة، قدّمنا المرحلة الأولى من عمر «الصندوق القوميّ اليهوديّ»، وهي الممتدّة من 1905-1960، أي منذ بنائه حتّى تفرّده بالإشراف على عمليّات التشجير. وقد أظهرنا أبعاده الفكريّة والثقافيّة، الّتي ساهمت بشكل عضويّ في بناء ’المستوطن المزارع‘ أو ’المستوطن المحارب‘، وبناء عقيدة معيّنة، والعمل بشكل مثابر على تنفيذ ما تنصّ عليه.

رأينا في هذه المادّة استمراريّة مكوّنات معيّنة في المشروع الصهيونيّ بعد تحقّقه في الدولة، وتفاعُل أخرى. وظهر لنا التفاعل الدائم وما يولّده من عمليّات هدم وبناء بين المكوّنات ذاتها. لقد نمى المشروع الصهيونيّ في تناقضاته الداخليّة، بين المؤسّسات والأفكار الّتي تكوّنه، وتكوين بعضها بعضًا. شمل هذا النموّ مراحل صعود وهبوط عبّرت عن الحروبات والثورات ومراحل الدعم والهجرة، وغيرها من أحداث في تاريخ «الصندوق». إنّ ما عَمِلْنا عليه في هاتين المقالتين، هو فهم هذا النموّ وآليّاته الداخليّة، بالإضافة إلى الأدوات الّتي استخدمها، لكونه - أي الفهم - شرطًا أساسيًّا في عمليّة نضالنا ضدّ الوجود الصهيونيّ في أرض فلسطين.

 


إحالات

[1] مناحم أوسيشكين (מנחם אוסישקין)، رئيس «الصندوق القوميّ اليهوديّ» بين أعوام 1923-1942، وهو مستعمر روسيّ، وعضو في «منظّمة أبناء صهيون»، ولاحقًا «أحبّاء صهيون». من مؤسّسي «نقابة المعلّمين اليهود في أرض إسرائيل»، الّتي ستصبح لاحقًا «الهستدروت». عَمِلَ بشكل مثابر على الاستيطان في مروج فلسطين، تحديدًا في مرج ابن عامر ومرج بيسان. حمل موقفًا حادًّا تجاه "قيود تضعها بريطانيا على الحركة الصهيونيّة"، وعمل ضدّ هذه القيود عبر الانخراط بحملة «السور والبرج»، بين أعوام " 1936-1939.

 


 

جمال مصطفى

 

 

من كفر كنّا في فلسطين، دَرَسَ الفلسفة والفيزياء، وهو عضو «جفرا – التجمّع الطلّابيّ» في «جامعة تل أبيب»، يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة.