عن جدل الترحُّم... قراءة معاصرة للتوحيد

صورة تعبيريّة

 

من آونة لأخرى، أفكّر بمسألة مفهوميّة الله عند كلٍّ منّا؛ فمن جهة، هناك الفكرة بأنّ مفهوم الله ثابت وصمد في أذهان الجميع، ومن جهة أخرى، هنالك الادّعاء بأنّه بالرغم من وجود هذا الثبوت والصمود في تعريفه الكلاميّ، إلّا أنّه ليس كذلك بالضرورة في مخيّلة كلّ فرد بسيط. وإذا كان هذا الادّعاء الأخير صائبًا، يمكن الاستدلال على وجود تعدّد في مفهوميّة الله بين الأفراد المختلفين، أو حتّى عند نفس الفرد في مراحل حياتيّة متفاوتة، وبتغيّر ثقافته وتطوّر عقيدته.

 

تعدّد مفهمة الله

قد يتصوّر شخص الله بصورة معيّنة مغايرة عن تصوّر آخر، وقد يفهمه ويتخيّله بطريقة قد تكون أحيانًا منافية للآخرين. وإذا وسّعنا هذا الطرح فقد يكون الدليل على وجود تعدّد لمفهمة الله بيننا هو الجدل الدائر حول سعة رحمة الله - أو جدل الترحّم - بين الفِرَق والتيّارات الإسلاميّة، خاصّة في ما يتعلّق برحمة الله لغير المسلمين. البعض يقول بأنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء، والبعض يقول بأنّ الله نهى النبيّ وصحبه عن الاستغفار للمشركين: ("من بعد ما تبيّن لهُم أنّهم أصحاب الجحيم" – التوبة: 113).

هل نعبد نحن، أنصار الله الّذي وسعت رحمته كلّ شيء (فرضًا)، ما يعبدون؟ وهل هم عابدون ما نعبد؟ والعبادة هنا بمعنى معرفة مفهوم ’الله‘، والاصطلاح على صفاته....

يظهر الناهون عن الترحّم بسياقات عديدة تتعدّى غير المنتمين إلى الديانة الإسلاميّة ظاهرًا، مثل سياق الترحّم على المنتحر، أو الكويريّات والكويريّين، بل حتّى في مثل حالات عماد مغنّيّة على خلفيّة النقاش السياسيّ حول الثورة السوريّة، أو عندما توفّيت نساء فلسطينيّات في حفل بتركيا، وغيرها الكثير. هذه النقاشات تدلّ على شرخ بين الفِرَق في ما يتعلّق بفهم صفة الرحمة عند الله. بهذا الصدد، ادّعى البعض أنّ هذه النقاشات لا تدلّ على تفاوت في مفهوميّة الله بين الفريقين، بل إنّها تعكس مستوًى سطحيًّا معاملاتيًّا لاعقديًّا.

في المقابل، يمكن دحض هذا إذا اعتبرنا أنّ المفاهيم تتأثّر وتتغيّر وفق الممارسة اليوميّة، وأنّها ليست معلومات مخزّنة محفوظة في مكاتب هلاميّة مؤصدة. في هذه الحالات؛ أي الّتي بها يتبيّن تفاوت جوهريّ في مفهوميّة الله بين الفِرَق، يقتضي أن نسأل السؤال: هل نعبد نحن، أنصار الله الّذي وسعت رحمته كلّ شيء (فرضًا)، ما يعبدون؟ وهل هم عابدون ما نعبد؟ والعبادة هنا بمعنى معرفة مفهوم ’الله‘، والاصطلاح على صفاته.

 

نموذج المفهوم البدئيّ 

هذا التوجّه المشكّك في ثبات المفاهيم وأحاديّتها هو حديث نسبيًّا؛ إذ حدثت في سنوات الـ70 ثورة معرفيّة في نظريّات التبويب الدلاليّة (Categorization) قادتها الباحثة إليانور روش (Eleanor Rosch)، الّتي ضمنها طرحت نظريّة ’النموذج البدئيّ‘ (Prototype Theory)، الّتي بها تدّعي روش أنّ لكلّ باب أو مجموعة دلاليّة نموذجًا بدئيًّا يقع في مركزها، ويكون هو التصوّر الأوّل الّذي يبدر إلى الأذهان عند ذكر ذات المجموعة.

مثلًا، عندما نطلب من القرّاء أن يتخيّلوا طيرًا ما من مجموعة الطيور في أذهانهم، فعلى الأرجح أن يتخيّلوا طيرًا مثل الدويري أو السنونو أو البلبل، ولكن لا نجد مَنْ تخيّل بطريقًا أو نعامة أو طاووسًا، وهي طيور غير نموذجيّة؛ وفق نتائج أبحاث روش وزملائها. بوحي من هذا التعقُّل، ومع افتراض أنّ المفاهيم هي ذات تعدّديّة داخليّة، أي أنّ ثمّة تصوّرات مختلفة لذات المفهوم بين الناس، أو عند نفس الفرد، بسياقات مختلفة، يمكننا افتراض أنّ هناك نموذجًا مهيمنًا للمفهوم، ويمكن الاستدلال عليه وفق التصوّر الأكثر شيوعًا والأكثر ورودًا بين الناس لهذا المفهوم.

لتوضيح الفكرة؛ فلنتخيّل كائنًا فضائيًّا يريد تعلّم اللغة العربيّة، ولكنّه لا يعرف الأرض ولا أحياءها أبدًا، ونريد تعليمه ما معنى كلمة ’الياسمين‘ بمساعدة رسمة واحدة لا أكثر. من المتوقّع أن نرسم رسمًا معتادًا من ساق وأوراق وزهرة بيضاء وإلخ. إذا كرّرنا العمليّة مع العشرات أو المئات من الأفراد، وجمّعنا كلّ الرسومات في خوارزميّة محوسبة، فسنستطيع تكوين صورة موحّدة لنبتة الياسمين، وهي الصورة النموذجيّة المهيمنة للياسمين.

 

 

أمّا بالنسبة إلى مفهوم الله فهو مفهوم فريد من نوعه، هو المفهوم الوحيد الّذي لا يقبل التشبيه ("ليس كمثله شيء")، وبذلك؛ فهو المفهوم الأكثر تجريدًا في الخريطة المفاهيميّة البشريّة. مع ذلك، خضع لفظ الجلالة لمقاربات مجازيّة معيّنة في القرآن والسنّة، مثلًا في لفظ "استوى على العرش" أو "وجه الله" وغيرهما، ممّا يدلّ على أنّ ثمّة توتّرًا ما بين تنزيه اللفظ وتجريده وبين تصويره وتقريبه للوعي البشريّ المادّيّ. هذا التوتّر تجلّى في الجدل الشديد بين المجسّمة أو المشبّهة، وبين المعتزلة أو الأشاعرة، على مفهوم الله. ثمّ وفق الاصطلاح على مفهوم الله، جرت تسمية مجموعة من الصفات سُمِّيت بأسماء الله الحسنى، وليس ثمّة ذكرها بل أيضًا ترتيبها ضمن هرميّة معيّنة تتقدّم صفات منها على أخرى؛ لتكون مثلًا في أعلى الهرم صفة الرحمة، مثلما يريد في الحديث: "إنّ رحمتي سبقت غضبي".

مفهوم الله مفهوم فريد من نوعه، هو المفهوم الوحيد الّذي لا يقبل التشبيه ("ليس كمثله شيء")، وبذلك؛ فهو المفهوم الأكثر تجريدًا في الخريطة المفاهيميّة البشريّة...

ومن المنطقيّ الادّعاء بأنّ الصفات الأهمّ والأكثر جوهريّة في تشكيل مفهوم الله هي تلك الّتي تسود في الممارسات اليوميّة في أفكار الناس، والأهمّ من ذلك، في ألفاظ الناس. بذلك، تتشكّل صورة بها يمكن افتراض وجود تعدُّد مفاهيميّ للفظ الجلالة بين الناس، ويكون هذا التعدّد على محاور عدّة؛ محور التجسيم أو التشبيه، ومحور الصفات، ومحور هرميّة الصفات، وغيرها؛ فليس عبثًا ورود لفظ "العرفان بالله" عند الصوفيّة، فهو يدلّ على أن ليس كلّ مَنْ يعرف كلمة الله يعرفها حقًّا، وهناك مَنْ هو عارف بالله، وهناك مَنْ يصنّم اللفظ ليغدو لفظًا سطحيًّا شحيح المعاني والدلالات. مثلًا، قال ابن القيّم في «مدارج السالكين»: "قال بعض السلف: نوم العارف يقظة، وأنفاسه تسبيح، ونوم العارف أفضل من صلاة الغافل"، (ج3، ص335).

 

توحيد المفهوم 

من هنا، ومع اعتبار مشروع إليانور روش عن النموذج البدئيّ والتعدّديّة الداخليّة للمفاهيم، يمكن قراءة فكرة التوحيد بأنّها لم تأتِ فقط لنفي تعدّد الآلهة والمعبودات وإبطاله على مرّ الثقافات والتاريخ، بل جاءت أيضًا لتشجيع توحيد مفهوم معيّن لله من بين تعدّده بين الناس والفرق العقديّة. وتجري هذه العمليّة عن طريق فهم صفات الله، وإدراكها وتعريفها والاصطلاح عليها وعلى هرميّتها.

غياب نقاش التوحيد هذا قد يؤدّي إلى تفريق وتشظية في العقيدة القيميّة والأخلاقيّة في العالم الإسلاميّ. وقد تجلّى هذا في الأمثلة أعلاه الّتي نبعت من الجدل بثنائيّة الرحمة والعقاب، أو الغضب. وكيف لا يكون هذا الجدل جوهريًّا وهو يتعلّق باللفظين الأكثر ارتباطًا بلفظ الجلالة، والأكثر ورودًا معه: الرحمن الرحيم؛ فنقول قبل كلّ آية، وقبل كلّ سورة "بسم الله الرحمن الرحيم". فإنّ فَهْمَ البعض لله  هو أنّه رحمن ورحيم أوّلًا وقبل أيّ شيء آخر، في حين أخّر البعض الآخر من أهمّيّة الرحمة؛ ليقدّم صفات مثل الغضب والانتقام والعذاب. ولهذا الأمر تداعيات عميقة في تصوير الله في الوعي الإنسانيّ، فلا يمكن إنكار وجود حالة نفسيّة وروحانيّة مختلفة كلّيًّا بين مَنْ يفهم الله على أنّه رحمن رحيم، وبين مَنْ يفهمه على أنّه منتقم وشديد العقاب؛ ممّا قد يتجلّى أيضًا في تصرّفاته وتعامله مع الخلائق.

من هنا، وبهذه القراءة؛ يظهر التوحيد على أنّه مشروع مستمرّ، ورسالة تحتاج إلى التداول والعقد والتطوير إلى يومنا هذا، وليس حدثًا ما اكتَمَلَ وأُقْفِل في مرحلة قديمة من التاريخ.

 


 

جاد قعدان

 

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في «جامعة تل أبيب». معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.