الخنزيرة النسويّة... كيف غيّر إيان فالكونر أدب الأطفال؟

إيان فالكونر (1959 - 2023)

 

فقدنا أحد أبرز الأسماء في حقل أدب الأطفال العالميّ، المؤلّف والرسّام الأمريكيّ إيان فالكونر، عن عمر يناهز 63 عامًا، في السابع من آذار (مارس) 2023. يُعْتبَر فالكونر من أكثر المؤلّفين تأثيرًا في مجال أدب الأطفال العالميّ الحديث، ومن أشهر إبداعاته سلسلة كتب «أوليفيا»، الّتي نجحت واشتهرت بفضل رسومها التوضيحيّة البسيطة وألوانها الزاهية أوّلًا، ثمّ نصّها البسيط والمباشر والجريء.

على مدار العقدين الأخيرين، قُلِّد هذا الأسلوب والشكل الفريد ودُرِّسا على نطاق واسع وعالميّ؛ إذ تحوّل إلى محفّز لولادة رؤية جديدة للكتابة والرسم للأطفال، في حقل أدب الأطفال المعاصر. سرديّة فالكونر ورسوماته تُعْتبَر مصدر إلهام لجيل كامل من الأدباء والرسّامين لأدب الأطفال البارزين في الحقل، مثل مو ويلمز «لا تدعوا الحمامة تقود الباص» (2006)، وأوليفر جيفرز «عالق» (2011)، وجون كلازن «هذه ليست قبّعتي» (2012).

نجحت سلسلة كتب «أوليفيا» واشتهرت بفضل رسومها التوضيحيّة البسيطة وألوانها الزاهية أوّلًا، ثمّ نصّها البسيط والمباشر والجريء...

نظرة سريعة على الأمثلة المذكورة، تكشف لنا أنّ كلّ واحد من هؤلاء الأدباء والرسّامين، تمكّن من تبسيط نصّه ورسوماته إلى درجة كبيرة من التبسيطيّة أو الأدنويّة (Minimalism)، دون فقدان السحر الأدبيّ الّذي تحمله القصص. في هذه الكتب تتلاشى الخلفيّات، وتبقى الشخصيّات المركزيّة في وسط الصفحة، لتعرض لنا السرد التصويريّ. فالكونر أخذ فكرة الأدنويّة من عالم التصميم، ورسم أغلفة المجلّات، ووظّفها في فنّ أدب الأطفال ليُحْدِث فيه تغييرًا بنيويًّا فنّيًّا.

كانت لفالكونر رؤيا مميّزة للأطفال؛ فقد تعامل معهم على أنّهم قرّاء كما كلّ مجموعة قرّاء أخرى. عندما طُلِب منه تقديم نصيحة لمؤلّفي أدب الأطفال، قال: "أوّلًا، لا تستهينوا بجمهوركم، لا تقلقوا، سيفهمكم الأطفال؛ لأنّ هذا ما يفعلونه طيلة الوقت؛ يحاولون فهْم العالم". وعندما سُئِل في مقابلة عمّا إذا كان يخطّط الكتابة للبالغين أيضًا، أجاب: "أنا فعلًا أكتب للبالغين". هذه الرؤيا تذكّر المختصّين في حقل أدب الأطفال بعملاقين آخرين تعاملا بالضبط بهذه الطريقة مع أدب الأطفال، هما دكتور سوس وموريس سينداك: "أنا لا أكتب للأطفال، أنا أكتب، وأحدهم يقرّر أنّ هذا النصّ للأطفال".

قدرة فالكونر على محاكاة الأطفال والبالغين على حدّ سواء، وتحدّي مسلّماتهم المجتمعيّة بطريقة ذكيّة وبسيطة جدًّا، ساهمت في إنجاح كتبه. هذا التحدّي في الكتابة لجمهورين جعل بطلته أوليفيا شخصيّة مشاكسة في نظر الأطفال، ووقحة أو شجاعة في نظر البالغين، بناءً على موقفهم من فكرة النقد المجتمعيّ.

 

الخنزيرة النسويّة

أوليفيا، الخنزيرة ابنة السنوات الثلاث، بطلة السلسلة الّتي تحمل اسمها، والّتي تشمل 11 كتابًا صدر في السنوات (2000-2017)، إحدى أبرز الشخصيّات الّتي وردت في أدب الأطفال الأمريكيّ والعالميّ. كانت أوليفيا واحدة من ثماني شخصيّات حاصلة على وسام أكثر الشخصيّات المحبوبة إلى الأطفال عام 2006، وضمن هذا الوسام طُبِعَت صورتها على طوابع بريد أمريكيّة، إلى جانب الدودة الجائعة وجورج المشاكس وغيرهما.

تتميّز أوليفيا بقدراتها النقديّة للكثير من موضوعات الجدل النسويّ في العالم الذكوريّ. الكتاب الأوّل في السلسلة، الصادر بعنوان «أوليفيا» في عام 2000، نجح نجاحًا مبهرًا، وتُرْجِم إلى عشرات اللغات، من الفرنسيّة والألمانيّة حتّى الروسيّة واللاتينيّة. بِيع الكتاب بملايين النسخ، وحصل أيضًا على عشرات الجوائز العالميّة، وعلى رأسها جائزة «كالديكوت»، الأرقى والأهمّ في حقل أدب الأطفال.

يُرْجِع الباحثون والنقّاد نجاح الكتاب إلى أسلوبه الفريد والجديد، حين إصداره، في الرسومات الأدنويّة، حيث برز فيها فنّ فالكونر البسيط لكن المعبّر. كلّ صفحات الكتاب تحتوي على رسومات الخنزيرة أوليفيا، المرسومة بالأبيض والأسود مع إضافات بسيطة باللون الأحمر. اختيار الألوان تجدّد وتغيّر في باقي كتب السلسلة مؤخّرًا، حيث اختار فالكونر الاستبدال باللون الأحمر لونًا آخر في كلّ كتاب.

 

 

وهناك عامل آخر ساهم في نجاح الكتاب تمثّل في طريقة تصويره الطفولة، وعرض العالم من وجهة نظر الطفلة البطلة؛ أي الخنزيرة الصغيرة أوليفيا. لم يكن هذا، بالطبع، أمرًا مجدّدًا في أدب الأطفال آنذاك، لكنّه كان من ميّزات أدب دكتور سوس وموريس سينداك، عملاقَي هذا النوع الأدبيّ في القرن العشرين. تجارب أوليفيا ومغامراتها الّتي عُرِضَت في الكتاب مألوفة للعديد من الأطفال، بدءًا من اختيار الملابس والتظاهر بعرضها أزياء أمام العائلة، حتّى إيمان الطفل بقدرته على إنتاج أعظم الإبداعات.

مثلًا، بعد زيارتها متحفًا، ومشاهدة رسومات جاكسون بولوك، تعود أوليفيا إلى البيت، وتحاول رسم لوحات شبيهة على حائط البيت، واثقة من قدرتها على أن تكون بنفسها أوليفيا- بولوك.

إضافة إلى ذلك، يمكن أيضًا أن يُعْزى نجاح الكتاب إلى موضوعاته ورسائله العالميّة الشموليّة. يُلْهِم تصميم أوليفيا واستقلالها وخيالها الأطفال ليكونوا مبدعين وفضوليّين وواثقين. يبدأ الكتاب بجملة، أصبحت واحدة من أشهر الجمل الافتتاحيّة لأدب الأطفال، تقول: "هذه أوليفيا، يمكنها القيام بأشياء كثيرة، يمكنها أيضًا إرهاق الجميع، حتّى أنّها قادرة على إرهاق نفسها".

 

لماذا على الأميرة أن تكون دائمًا ورديّة؟

بعد هذا النجاح الكبير، واصل فالكونر كتابة مغامرات أوليفيا في عالم البالغين، وركّز معظم سرديّاته على تميّزها وثقتها بنفسها. نجحت الكتب الأخرى في السلسلة، وحصلت على جوائز مرموقة، وكان لكلٍّ منها قصّة مختلفة. كلّ كتاب في السلسلة يتطرّق إلى مسلّمات مختلفة، في العالم التقليديّ الّذي يقدّس القوالب المجتمعيّة والجندريّة دون مساءلتها. ما يميّز السلسلة أنّها تناقش أمورًا غاية في الأهمّيّة بطريقة مبسّطة للأطفال الصغار، من جيل 4 أعوام وما فوق.

أحد أبرز الكتب في السلسلة، وأكثرها زخمًا ونقدًا، كتاب «أوليفيا والأميرات الجنّيّات» (Olivia and the Fairy Princesses)، الصادر في  عام 2012. يبدأ الكتاب عمليًّا بتساؤل أوليفيا عن حقيقة اللون الورديّ وعلاقته المشبوهة بالأميرات، ثمّ يتطوّر إلى تساؤل فلسفيّ: "إن كان كلّ الفتيات يُرِدْن أن يكنّ أميرات، فما المميّز في كوني أميرة كذلك؟".

هذه التساؤلات تؤدّي بأوليفيا إلى اقتراح ثوريّ في هذا السياق: "لماذا على الأميرة أن تكون دائمًا ورديّة؟ ما الإشكاليّة بأميرة من الهند، أو أميرة تايلانديّة، أو أميرة من أفريقيا، أو أميرة صينيّة؟". تحت هذا التساؤل، تجد صورًا لمجموعة أميرات مختلفة تمامًا عن جميع الأميرات الورديّة المعروضة في الكتاب، حيث ترتدي كلّ واحدة منهنّ ألوانًا وأزياء مختلفة عن صورة الأميرة النموذجيّة الغربيّة.

 

الخنزيرة أوليفيا من سلسلة كتب «أوليفيا»

 

هذا النقد الّذي يقدّمه الكتاب من خلال تحفيز تساؤلات الطفل حول المسلّمات الجندريّة هو أبرز ما فيه؛ إذ تتساءل الطفلة القارئة أو المستمعة عن منطقيّة اختيار اللون الورديّ لتصوير الأميرات، ثمّ سرعان ما يأخذها الكتاب إلى تساؤل أعمق حول أفضليّة الصورة الأمريكيّة أو الأوروبّيّة للأميرة، على الصورة الشرقيّة لها. في ذهن الطفل بأجيال 4 و5 سنوات، ما زال العالم ساحرًا بأكمله، وتجربته الأوّليّة لم تأخذه إلى مسلّمات الهرميّة الثقافيّة الّتي سوف تفرضها عليه الميديا العالميّة المحيطة به.

يستمرّ الكتاب في التشكيك بالقوالب الجندريّة والمظهريّة المألوفة، حتّى يصل إلى نقاش حول الوظائف الّتي قد تقودها وتستلمها النساء مقارنة بالرجال، مثل الوظائف الإداريّة والرئاسيّة، وكذلك الوظائف التكنولوجيّة الّتي تُعْتبَر حصريّة للرجال في الكثير من المجتمعات. هكذا تتمكّن أوليفيا من نقد القولبة الجندريّة، وخلق حالة جديدة فيها تتمكّن الطفلة القارئة أو المستمعة من التماهي مع البطلة، لتفكيك حدود السقف الزجاجيّ.

 

لماذا تُخْفى الخنزيرة من أدب الطفل؟

بالرغم من كلّ هذه النجاحات، إلّا أنّ السلسلة لم تُتَرْجَم إلى اللغة العربيّة. وهنا، لا بدّ من التساؤل عن سبب الامتناع عن ترجمتها، والإتيان بأوليفيا إلى ثقافة الطفل العربيّ. من الوارد أنّ السبب الأساسيّ يكم في إشكاليّة الحصول على حقوق الترجمة، فهناك دور نشر يصعب التعامل معها، بالرغم من أنّ السلسلة تُرْجِمَت إلى عشرات اللغات الأخرى، فلماذا توقّفت عند المترجم العربيّ؟ هل من الممكن أنّ ما سبّب هذا الامتناع يُعْزى إلى أنّها قصّة خنزيرة؟

في ترجمة أدب الأطفال إلى العربيّة، ثمّة الكثير من الأمثلة على قصص لا تُترجم بسبب تضمّنها شخصيّات تتمثّل بخنازير؛ كونها تمثّل هذا الحيوان المحرّم، أو أنّها تُرْجِمَت في فترات متأخّرة جدًّا عن إصدارها. يستعمل الناشر العربيّ للكتب المترجمة عدّة تقنيّات مختلفة لتخطّي مصيدة ذكر الخنازير في كتب الأطفال والفتيان. إحدى التقنيّات المتّبعة هي استبدال الخنازير بالخراف أو بالماعز، مثل ترجمة كتاب «يا لها من حظيرة» لهانز ويلهلم، الّذي تحوّلت فيه الخنازير إلى خراف*، أو في القصّة الشعبيّة حول الخنازير الثلاث الّتي صرنا نعرفها كقصّة العنزات الثلاث. تقنيّة أخرى نجدها في ترجمة سلسلة هاري بوتر الّتي أزالت ذكر الخنزير؛ إذ حُوِّلت كلّ أنواع اللحوم المذكورة في السلسلة، بما يشمل لحم الخنزير والعجل (Pork, Bacon, Steak, Beef)، إلى كلمة عامّة هي ’اللحم‘، لتفادي ذكر لحم الخنزير طعامًا[1].

 

كتاب «يا لها من حظيرة» لهانز ويلهلم في نسختيه الإنجليزيّة والعربيّة.

 

كتاب أوليفيا الأوّل بنفسه، كان في لُبّ زوبعة إعلاميّة في عام 2003، عندما دعت مديرة مدرسة «بارك رود» في يوركشير، بريطانيا، لنشل الكتب الّتي تحتوي على شخصيّات خنازير من رفوف أدب الأطفال في المدرسة، كونها قد تمسّ بمشاعر الطلّاب المسلمين في المدرسة الّذين يمثّلون 66% من الطلّاب[2]. هذه الحادثة أثارت الكثير من الضجّة في العالم الغربيّ، وأدّت بالكثير من المؤسّسات الإسلاميّة في بريطانيا للردّ على هذا الافتراض. مثلًا، ادّعى عنايات بونغل- أوالا، مدير «المجلس الإسلاميّ البريطانيّ»، أنّ تصرّف المديرة حسّاس ومفهوم، لكنّه يعتمد على فهم خاطئ للإسلام، لأنّ الإسلام لا يحرّم تصوير الخنزير، ولا ينفي وجوده، بل فقط يحرّم أكل لحمه.

بينما رأى افتخار أحمد، من «مركز لندن للدراسات الإسلاميّة»، أنّ الموضوع شائك ومعقّد؛ ولهذا ثمّة حاجة إلى توظيف رجل دين خاصّ في المؤسّسة ليقوم بدراسة الموضوع. هذا الحدث والضجّة الّتي أثارها، حصل بأعقاب نجاح كتاب أوليفيا وانتشاره بكثرة في المدارس، إلى جانب كتب أخرى مثل كتاب «الخنازير الثلاثة» لديفيد وايزنر، الحاصل أيضًا على جائزة «كالديكوت» لعام 2002، وكتاب «شبكة شارلوت»، حتّى «ويني الدبدوب» (1926).  

في إحدى دراسات المادّيّة الثقافيّة حول تحريم أكل لحم الخنازير في العديد من الثقافات، يعرض الأنتروبولوج مارفن هاريس[3] المفارقة بالتعامل مع الخنزير، في ثقافات مختلفة يقوم بعضها بتحريمه واعتباره حيوانًا نجسًا، بينما تقدّسه ثقافات أخرى. يؤكّد هاريس أهمّيّة فهْم العوامل الاقتصاديّة المادّيّة الّتي تكمن وراء الخيارات الغذائيّة الثقافيّة، بدلًا من الاعتماد فقط على التفسيرات الأخلاقيّة أو الدينيّة. يبدو أنّ لهذه المفارقة في التعامل مع الخنزير، هناك إسقاطات على الخيارات الأدبيّة والترجميّة لدى دور النشر.

 

* أشكر السيّدة رامة عيان على اقتراح المثال.

 


إحالات

[1] بدون خمر وقبلات وخنزير: حول ترجمة هاري بوتر للعربيّة" (2020)، لؤي وتد، موقع حكايا.

[2] "Islamic reprieve for pig tales" (5 March 2003), Martin Wainwright, The Guardian: https://www.theguardian.com/uk/2003/mar/05/schools.books

[3] في كتابه: مقدّسات ومحرّمات وحروب: ألغاز ثقافيّة، ترجمة أحمد م. أحمد، (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2017).

 


 

لؤي وتد

 

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في «جامعة تل أبيب»، في أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ، ومحرّر موقع «حكايا».