ريزوتو الفريكة... اقتحام أوهام رام الله

 

حظيت مدينة رام الله، وعلى النقيض من جارتها وتوأمها البيرة، الّتي كثيرًا ما يُنْظَر إليها في التعاملات اليوميّة باعتبارها ’جزءًا‘ من رام الله، حظيت باهتمام واسع في الكتابات الأكاديميّة والنقديّة. كما ظهرت في العديد من الأعمال الأدبيّة والفنّيّة والصحافيّة والسوسيولوجيّة، ومقالات الرأي الانطباعيّة، سواء في ذلك تلك الأعمال والمعارض والمهرجانات والفعاليّات الفنّيّة الّتي ارتكزت إلى النوستالجيا، وفقدان ذاكرة المكان وتحوّلاته، وتغنّت بشاعريّة المدينة، ووقفت على أطلالها؛ فصوّرتها حلمًا تارة، ومكانًا تارة أخرى[1]. إضافة إلى تلك الّتي أظهرتها مضطلعة بشخصيّة عمرانيّة وحضريّة مضطربة، وكان لها باع في ذمّ المدينة واتّهامها بوأد الحلم الفلسطينيّ التحرّريّ، وإبراز الأنماط المختلفة من الحياة المدينيّة المُعَوْلَمَة، والسلوكيّات الاستهلاكيّة المتباينة. حتّى أضحت المدينة قرية عالميّة بلا قلب ولا ملائكة، أو عاصمة شقراء تصطاد الغيم، محاوِلةً ولوج ركب ’الحضارة‘ من بابه الخلفيّ؛ إذ اعتبرها البعض مدينة بلا أكسجين، تخوض غمار سراب التنمية، ولا يمكن اختزال الفروق الطبقيّة والاجتماعيّة فيها بمظاهر الفقر المدقع والغنى الفاحش[2].

من ناحية أخرى، حاكم آخرون المدينة بوصفها منطقة خضراء، متواطئة مع الاستعمار، ومضمارًا لحراك الطبقة الوسطى الفلسطينيّة، ومعتنقي العقيدة الاستهلاكيّة والحياة المترفة، من موظّفي البنى المنبثقة عن «اتّفاقيّة أوسلو» والمثقّفين المأجورين، ورجال الأعمال[3]، أو مكانًا يرسّخ شكلًا فريدًا من الاستعمار ما بعد الاستعماريّ[4]، أو مركزًا محلّيًّا للسيادة الحداثيّة الاستعماريّة المُعَوْلَمَة[5]. ويبدو أنّ النقاشات الأكاديميّة الّتي ركّزت على رام الله دون البيرة، وتناولتها من زوايا مختلفة، لم تبرّر التباين بينها وبين جارتها، حيث عالج البعض حالة واقع رام الله من منظور المدينة الطفرة أو الفقاعة، الّتي تشهد تباينًا في معايير جودة الحياة، والتمثّلات الثقافيّة بينها وبين المناطق الأخرى، ومساحة مادّيّة لتبلور هويّات طبقيّة واقتصاديّة جديدة، ونتيجة ديناميكيّة للتطوّر غير المتكافئ، ونقطة تحوّل في الاتّجاه الّذي تسير فيه فلسطين عمومًا[6].

حظيت مدينة رام الله، وعلى النقيض من جارتها وتوأمها البيرة (...) باهتمام واسع في الكتابات الأكاديميّة والنقديّة. كما ظهرت في العديد من الأعمال الأدبيّة والفنّيّة والصحافيّة والسوسيولوجيّة...

ذلك إضافة إلى مناقشة بعض التغيّرات السوسيو-حضريّة المرافقة لحلم الليبراليّة والتحرّر، واتّساع الطبقة الوسطى ومظاهر التمايز الاجتماعيّ والمكانيّ[7]، وإمكانيّة بَرْجَزَة المدينة[8]، وإقامة مركز حضريّ فقاعيّ يُوهم بعاديّة الوضع في ظلّ الاستعمار الاستيطانيّ[9]، والتغيّر في الهويّات والتصوّرات المتعلّقة بشبكات الصمود ومساعي خلق الاختلاف الطبقيّ، والصور الرمزيّة المرافقة للتطوّر الحضريّ، في مرحلة ما بعد أوسلو.

 

’ريزوتو الفريكة‘... والوصول إلى العالميّة

القادم إلى رام الله من أحد مدخليها؛ الجنوبيّ أو الغربيّ، سيجد نفسه/ ها حتمًا ضمن نطاق أحد حيّين، يمكن النظر إليهما بوصفهما الأكثر نخبويّة في رام الله والبيرة، إن لم يكن في الضفّة الغربيّة؛ الماصيون والطيرة. حيث تتكاثف فيهما الأنوار ومظاهر الرفاهيّة، إلى جانب الاستثمارات والمنازل الفخمة والفنادق والمقاهي والمطاعم والمجمّعات التجاريّة، وربّما بعض الحانات العصريّة الّتي تبقى عامرة بمرتاديها حتّى ساعة متأخّرة.

وفي رام الله تقدّم المطاعم أشهر الأطباق الشعبيّة، جنبًا إلى جنب مع ’ريزوتو الفريكة‘ بالكريما الفرنسيّة، والفوكاتشا الإيطاليّة، والشاي الصينيّ. وفيها تستطيع ملاحظة الحضور المميّز للعنصر الأجنبيّ في المؤسّسات والشوارع والمقاهي المختلطة، الّتي تقدّم الموروث مغلّفًا بقالب من الحداثة الاجتماعيّة- الثقافيّة الطارئة. كذلك في المطاعم النخبويّة المنتشرة بصورة لافتة، الّتي يستضيف بعضها فعاليّات ثقافيّة وترفيهيّة فيتعاظم عدد الروّاد والزبائن، ولا تكاد تجد مكانًا تجلس فيه.

ويبدو أنّ إحدى أبرز السمات الّتي وسمت أو اتّسمت بها مدينة رام الله، إثر ظهور السلطة الفلسطينيّة، تتمثّل في بنائها نوعًا جديدًا من الشخصيّة الحضريّة، ومحاولاتها المتّصلة لإقحام نفسها ضمن منظومة المدن العالميّة. إضافة إلى استدخال أنماط ونزعات وميول حياتيّة وفعاليّات جديدة، تتشاركها النخب المحلّيّة مع العديد من منتمي الطبقة الرأسماليّة العابرة للحدود في المدن العالميّة والعربيّة. تضمّنت تلك النزعات تحوّلًا جذريًّا في أسلوب الحياة الحضريّة اليوميّة، فضلًا على النزوع الدائم للاستهلاك الاستعراضيّ، إلى الحدّ الّذي جعل المدينة سوقًا مفتوحًا، وساحة متاحة غير مقيّدة للتطوير العقاريّ.

 

اليوميّ تحت الاستعمار الاستيطانيّ 

في هذا السياق، وُضِعَ في رام الله منذ مدّة حجر الأساس لمركز «سنترو مول» التجاريّ، بمواصفات عالميّة، وهو الأضخم من نوعه في فلسطين، وأوّل ’مول‘ فلسطينيّ ينضمّ إلى مجلس مراكز تسوّق الشرق الأوسط في دبيّ. تقول الدعاية: "سيضمّ المول مجموعة من العلامات التجاريّة العالميّة... إضافة إلى عدد من المطاعم المحلّيّة والعالميّة... وأحدث أساليب الرفاهيّة".

واحتضنت المدينة مؤخّرًا وشهدت افتتاح العديد من المجمّعات التجاريّة، الّتي يرتادها الزوّار من داخل المدينة وخارجها؛ فيصبحون جزءًا من منظومة المدينة، ويختبرون ويشاركون في إبراز سلوكها، وترتيب فضائها الاجتماعيّ- الاقتصاديّ عن قرب.    

في رام الله تستطيع ملاحظة الحضور المميّز للعنصر الأجنبيّ في المؤسّسات والشوارع والمقاهي المختلطة، الّتي تقدّم الموروث مغلّفًا بقالب من الحداثة الاجتماعيّة-الثقافيّة الطارئة...

صورة رام لله ومشهدها هذا باتا يثيران الجدل والتساؤلات لدى الكثيرين، حول سلوك المدينة، ومسارها الّذي يُوْهِم بعاديّة الوضع واستقامة الحياة، رغم دوام خضوعها لسيطرة الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ الّذي يستبيحها كلّ حين، وأتاحا توجيه العديد من النقد والاتّهامات المتمحورة حول كونها تكاد تخلو من أيّ مظاهر ’نضاليّة‘.

ورغم أنّ رام الله والبيرة كانتا تشكّلان جزءًا من الحراك المقاوِم خلال الانتفاضة الأولى، إلّا أنّ المشهد غدا مختلفًا خلال اجتياح 2002، وبدأت الصورة الذهنيّة المسبقة لدور رام الله النضاليّ تتفكّك، وتأخذ منحًى مغايرًا حتّى عن جارتها، ويظهر أنّها ارتبطت لاحقًا بطبيعة الوعي والسلوك، وخليط العمليّات المتعلّق بصناعة المدينة، وتشكيل هويّة سكّانها وناقديها وذواتهم. ويبدو أنّ التحوّل الّذي طرأ على الصورة النضاليّة لرام الله، وُجِدَ له صدًى في سلوك الناس العاديّين، المرتبط بمعتقداتهم المختلفة والمعقّدة لواقع رام الله، الّذي بات يوضّح جزءًا من الممارسات اليوميّة الّتي تصوغ الأمكنة، وتساهم في صناعة الفرق والتمايز، وتكريس الاختلاف بين المدينتين.

 

الاقتحام على مرأى من المقهى

يمكن للمراقب المتبصّر والمتابع لواقع ما تشهده رام الله والبيرة؛ من اختلاف في التوجّهات والتصوّرات والرؤى المرافقة لصناعة المكان واستهلاكه، يمكنه ملاحظة تباين مدلولات لفظة ’رام الله‘ المتخيّلة وصورها، الّتي تتداولها العامّة، وتضفي عليها هويّتها الفريدة، سواء من خلال الفعل الجماعيّ أو من خلال القرارات والممارسات الفرديّة والعائليّة. ومن ذلك ما أشارت إليه بيني جونسون[10] حول رغبة طفل في الصفّ السابع – من مخيّم الأمعري الواقع على أراضي البيرة - في الذهاب إلى رام الله؛ بسبب عدم وجود احتلال هناك، ذلك قبل أن يذكّره زميل له بمستعمرة «بِسْجوت» القابعة في الطرف الآخر، حيث يمكنهم رؤيتها من مدخل المخيّم. إذ يبدو أنّ رام الله الّتي تسير - ربّما على غرار بيروت، وغيرها من مدن التوتّر في المنطقة - نحو العالميّة بخطًى واثقة، قد "تعلّمت، على الرغم من الحرب والاحتلال، كيف تعيش وتستمتع بالحياة"[11]

يمكن للمراقب المتبصّر والمتابع لواقع ما تشهده رام الله والبيرة (...) ملاحظة تباين مدلولات لفظة ’رام الله‘ المتخيّلة وصورها، الّتي تتداولها العامّة، وتضفي عليها هويّتها الفريدة...

وبمراجعة مسار رام الله خلال أحداث الاقتحامات الإسرائيليّة المتكرّرة، على غرار ما حصل في أواخر عام 2018 ومطلع 2019، وتفتيش كاميرات المراقبة للمحالّ التجاريّة والمقاهي، يمكن ملاحظة السلوك الجمعيّ والفرديّ الّذي تتمثّله المدينة؛ حيث كانت الحياة تستمرّ بنوع من الرتابة المعتادة في شوارع رام الله، وذلك توازيًا مع الحراك المقاوم، في مركز المدينة وقرب دار البلديّة ومحيط البلدة القديمة، رام الله التحتا. حيث كان بمقدوري سماع دويّ الأصوات، واستنشاق رائحة الغاز المسيل للدموع القادمة من محيط بلديّة رام الله، بينما أتناول شطيرتي في أحد الشوارع المحاذية. وتُظْهر الصور، الّتي تداولها بعض مواقع التواصل الاجتماعيّ، الجنود وهم يقومون بعمليّات التفتيش والمداهمة، وروّاد المقاهي جالسون لم يبرحوا أماكنهم، وكأنّ شيئًا لم يحدث. المشهد الّذي وصفته غانم[12]، خلال معالجتها لواقع الاقتحامات النهاريّة لحيّ الماصيون؛ باعتباره غرائبيًّا وتداخلًا لغير المألوف بالمألوف، وتسلّلًا للمفاجئ والعنيف إلى قلب المشهد الحميميّ، في مدينة اختارت أن تعيش وَهْم الحياة الطبيعيّة.

 


إحالات

[1] انظُر: عيسى قراقع، رام الله ... مدينة لا تعرف الحبّ. وكالة وطن للأنباء(2019، 4 أيّار)؛ ياسمين زهران، رام الله الّتي كانت (عمّان: الأهليّة للنشر والتوزيع، 2015)؛ ياسمين زهران، دار الأقواس السبعة، (عمّان: الأهليّة للنشر والتوزيع، 2015)؛ مريد  البرغوثي. ولدت هنا، ولدت هناك (بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، 2009)؛ مريد البرغوثي. رأيت رام الله (الدار البيضاء وبيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، 2011)؛ نهلة قورة. رام الله الحلم ... رام الله المكان، (رام الله: بلديّة رام الله، 2002).

[2] محمود فطافطة، مدينة بلا أكسجين... رام الله: بين سراب التنمية... وتنازع الهويّات والصراع على ’كعكة‘ المناصب. دنيا الوطن، (2016، 22 تشرين الأوّل). جرى استرجاعها من https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2016/10/22/981897.html.

[3] جوزيف مسعد، "بيونشيه في فلسطين". شبكة فولتير. جرى استرجاعها من http://www.voltairenet.org/article148747.html.

[4]  Abourahme, Nasser (2009). The bantustan sublime: reframing the colonial in Ramallah. City, 13(4), 499-509.

[5] خالد عودة الله، العلوم الاجتماعيّة الفلسطينيّة كمعرفة استعماريّة. قديتا نت، 2012. جرى استرجاعها من http://www.qadita.net/featured/khaled-3.

[6] انظر:

Rabie, Kareem. Ramallah’s Bubbles. Jadaliyya. (2013, Jan 13). Retrieved from https://www.jadaliyya.com/Details/27839/Ramallah’s-Bubbles.

Rabie, Kareem. Remaking Ramallah. New Left Review, 111, 43-60, (2018, May/June). Retrieved from https://newleftreview.org/issues/II111/articles/kareem-rabie-remaking-ramallah

[7] جميل هلال. رام الله المدينة والحكاية. في: جميل هلال وأباهر السقا، قراءة في بعض التغيّرات السوسيو حضريّة في رام الله وكفر عقب. (بير زيت: مركز دراسات التنمية – جامعة بير زيت، 2015)، ص 8-51. 

[8] Bshara, Khaldun, City Debates 2015: Impossibility of Gentrification in Palestine Cities’ Context. American University of Beirut [Video file], (2015, April 17). Retrieved from https://www.youtube.com/watch?v=Xieg998QP-E

[9] Abourahme, Nasser. The bantustan sublime: reframing the colonial in Ramallah. City, 13(4), 2009, PP 499-509.

[10] Johnson, Penny (2006). Towards New Horizons: Youth and Children in Amari Refugee Camp. Ramallah: Bisan Center for Research and Development.     

[11] هنيدة غانم، تأمّلات في الاقتحامات المتكرّرة لرام الله: جزيرة وسط هاوية. مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، ربيع 2019، 118، ص7-15. 

 


 

سليم أبو ظاهر

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه في «العلوم الاجتماعيّة» من «جامعة بير زيت»، ويهتمّ بدراسات السكّان الأصلانيّين والتاريخ الاجتماعيّ الاقتصاديّ الحديث، والتفاعلات اليوميّة الزمانيّة المكانيّة.