«عرين الأسود»: إرث الدم والذاكرة (1/3)

نابلس، البلدة القديمة، خلال تشييع الشهيد عامر أبو زيتون بتاريخ 5 كانون الثاني 2023 | SOPA IMAGES

 

تحفر الثورات وحركات التحرّر الوطنيّ عميقًا في وعي الناس والمكان، في عمليّة أوسع من مجرّد التمترس خلف مطلب ’الحرّيّة‘ أو ’الاستقلال‘، ولأنّ الثورة في أساسها وحركتها هي حركة اجتماعيّة؛ فهي تأخذ من المكان الّذي وُلِدت فيه، والناس الّذين يحملونها، في الوقت الّذي تخلق فيه واقعًا جديدًا، قد يكون هذا الواقع هو الآخر تاريخًا اجتماعيًّا، ينصهر في تواريخ اجتماعيّة سابقة ولاحقة عليه.

مجموعات المقاومة الّتي وُلِدت في الفترة الّتي سبقت «هبّة آيّار»، ومعركة «سيف القدس»، في عام 2021، في نابلس وجنين، واكتسبت تأثيرًا وانتشارًا وأبعادًا سياسيّة ومعنويّة ورمزيّة في الوعي العامّ الفلسطينيّ، لا يمكن فصلها عن الامتداد الاجتماعيّ الّذي تخلّقت فيه. المجتمع الّذي يتفاعل في مكان له خصائصه الّتي يأخذ بعضها من الناس الّذين كتبوا تاريخه، هو البذرة الأولى في أيّة حركة اجتماعيّة، والمقاومة بما لها من حاجات بشريّة ومعنويّة وقيميّة، فهي كما يعرّفها المختصّون في حرب العصابات كــ "السمكة الّتي تعيش في بحر الجماهير"، والجماهير ليست المتلقّي السلبيّ أو المتفاعل على طريقة حزب ’الكنبة‘، بل إنّ طيفًا واسعًا منها له مركزيّته في عمليّة توليد الفعل النضاليّ.

للأماكن ذاكرتها الجماعيّة الّتي تشكّل عامل ’إلهام‘ دائم للأجيال الّتي تُولَد فيها، وتسمع حكايات الثورات السابقة، وتدرج في الحياة على مرأًى من صور الشهداء الّتي تملأ كلّ زقاق...

وللأماكن ذاكرتها الجماعيّة الّتي تشكّل عامل ’إلهام‘ دائم للأجيال الّتي تُولَد فيها، وتسمع حكايات الثورات السابقة، وتدرج في الحياة على مرأًى من صور الشهداء الّتي تملأ كلّ زقاق. والشهادة في فلسطين لها أبعاد أكبر من سياسيّة؛ إذ هي محلّ رمزيّة تمنح شخص الشهيد وعائلته رمزيّة تصل حدّ القداسة، وفي الوقت ذاته ’نموذجًا‘ يمنح قوى المقاومة أو الرفض في المجتمع، قدرة على الحشد والتعبئة، خاصّة بين الجيل الشابّ الّذي يشكّل عصبًا مركزيًّا في الأجهزة التنظيميّة والعسكريّة في الفصائل الفلسطينيّة.

 

نابلس… التاريخ المقاتل

اكتسبت نابلس - المدينة وريفها أو جبلها - بمختلف الأسماء الّتي تقلّبت عليها، طوال تاريخها، مركزيّة في المجتمع الفلسطينيّ حتّى مراحل ما بعد الاستعمار، بما حمله من تحدّيات للشعب الفلسطينيّ، وبما له من ارتباطات أيضًا بمحيطه العربيّ والشاميّ منه تحديدًا.

منذ بدايات المشروع الاستعماريّ البريطانيّ الّذي حمل معه تهديدًا وجوديًّا هو ’المشروع الصهيونيّ‘ - الّذي بدأ يتنامى منذ القرن التاسع عشر بمحاولات السيطرة على الأراضي، ثمّ عمليّات نقل اليهود من أوروبّا بخاصّة، ومناطق أخرى في العالم، إلى فلسطين، واستفاد من الإدارة الاستعماريّة البريطانيّة في تقوية ذاته، وبناء المؤسّسات وعلى رأسها العسكريّة - حضرت نابلس بمختلف مستوياتها في الإجابة الّتي تنوّعت أشكالها على سؤال "ما العمل؟" لدفع مشروع الاستقلال والتحرّر، ومواجهة الخطر الّذي تنامى، حتّى النكبة الفلسطينيّة الّتي دمّرت الوجود الاجتماعيّ الفلسطينيّ، وحملت نابلس جانبًا من آثارها في مخيّمات بلاطة والعين وعسكر، الّتي نمت على أطرافها، إضافة إلى العائلات الّتي انضمّت إلى نسيجها الاجتماعيّ وشكّلت جانبًا من حكاية المدينة في مواجهة الاحتلال.

نابلس وقضاؤها الّذي ضاق في العقود الماضية، بعد أن كان يتّسع ليضمّ بلدات ومدنًا هي اليوم في نطاق جغرافيّ من رام الله إلى جنين، حملت تاريخيًّا اسم «جبل النار»، الّذي صار مرادفًا لتاريخها الموغل في مقاومة القوى الأجنبيّة، أو حتّى الهيئات الحاكمة الّتي تقلّبت على البلاد. وهو ما دفع المستشرق والدبلوماسيّ الروسيّ قسطنين بازيلي إلى وصف أهلها بأنّهم "أكثر القبائل السوريّة ضراوة ونزوعًا للقتال".

يؤكّد استعراض الوقائع التاريخيّة التتابع التاريخيّ، الّذي لا يكتمل في كلّ مرحلة حتّى يتجاوزها إلى مرحلة أخرى، وكأنّ كلّ مدينة تحمل معها بصمة وراثيّة تجعل التاريخ لا يتكرّر بالمعنى الحرفيّ، بل هو ولادة مستمرّة. وهذا في تاريخ نابلس وحاضرها مبثوث في سلوك أهلها، وإن كانت التجارب تتنوّع على وفق المرحلة وتقلّباتها.

يؤكّد استعراض الوقائع التاريخيّة التتابع التاريخيّ، الّذي لا يكتمل في كلّ مرحلة حتّى يتجاوزها إلى مرحلة أخرى، وكأنّ كلّ مدينة تحمل معها بصمة وراثيّة...

عرفت نابلس بدايات العمل السياسيّ الفلسطينيّ المنظَّم ضدّ الاستعمار البريطانيّ مع ظهور حزب «الكتلة الوطنيّة»، الّذي تأسّس في عام 1935 بمبادرة من عبد اللطيف صلاح وعبد الفتّاح طوقان. واستمرّت فاعلة في مسيرة النضال التحرّريّ حتّى بعد النكبة، وواجهت سقوط بقيّة فلسطين تحت الاستعمار الصهيونيّ في عام 1967، من خلال تفعيل خيار الكفاح المسلّح الّذي ضمّ شبّانًا وشابّات من أبنائها مع شادية أبو غزالة ورفاقها. لاحقًا، كان للمدينة دور في بدايات تشكّل الحركة الفدائيّة المعاصرة - فقد زار ياسر عرفات البلدة القديمة مرّات عدّة، خلال سنوات الثورة الفلسطينيّة - وفي مختلف مراحلها، وصولًا إلى «انتفاضة الحجارة» في عام 1987، وما تلاها من انتفاضات شعبيّة وعمل ثوريّ مسلّح.

 

إرث «انتفاضة الأقصى»

الحراك الثوريّ الحاليّ في المدينة، الّذي تمثّله مجموعات «عرين الأسود»، «كتيبة نابلس»، «كتيبة مخيّم بلاطة»، وغيرها، يمكن مقاربته مع «انتفاضة الأقصى»، وإن كان يفترق عنها في مفاصل متعدّدة. إلّا أنّ فكرة بناء مجموعات مقاتلة كبيرة تتمركز في البلدة القديمة من نابلس أو مخيّماتها، وتتركّز تكتيكاتها على استهداف الانتشار العسكريّ والاستيطانيّ الإسرائيليّ في محيط المدينة وريفها، والاشتباك مع قوّة الاحتلال خلال اقتحاماتها الشبه اليوميّة، وضمّ كوادر شابّة من المحيط الاجتماعيّ والبشريّ، هي سمات غلبت على المجموعات الّتي قاتلت الاستعمار خلال «انتفاضة الأقصى».

تميّزت نابلس وجنين مع مدن أخرى، في شمال الضفّة المحتلّة، خلال «انتفاضة الأقصى»، مقارنة بمناطق أخرى مثل الخليل، أو رام الله، بالاعتماد بشكل أكبر على أسلوب بناء مجموعات عسكريّة كبيرة نسبيًّا، لها انتشارها الظاهر، خاصّة في البلدة القديمة الّتي تحوّلت مع الوقت إلى ’بؤرة‘ إسناد ودعم واحتضان وساحة معركة. وهذا لا ينفي أنّ بقيّة المناطق عرفت هذا النوع من العمل العسكريّ، إلّا أنّ تجربة نابلس وجنين ومخيّماتهما كانت أبرز على هذا الصعيد.

وللجيل الجديد من المقاومين تجربته الذهنيّة الجديدة أيضًا، وهي التحرّر من تبعات «انتفاضة الأقصى» الّتي أثّرت في الجيل السابق، وما لحقها من مرحلة ’الانقسام الفلسطينيّ‘. إضافة إلى وعيه على مرحلة يفرض فيها الاستعمار الصهيونيّ على الواقع الفلسطينيّ  أشكالًا جديدة من التدمير والسيطرة، في ظلّ فقدان النخبة السياسيّة الفلسطينيّة لمعظم مبرّرات وجودها، والشرعيّات الّتي تبني عليها وجودها. ومع ذلك، تأثّرت هذه المجموعات بالتراث الهائل لتجارب المقاومة السابقة.

فالسير في البلدة القديمة في نابلس يكاد يكون ترحالًا بين عوالم الشهادة والمقاومة؛ ففي كلّ متر تقريبًا ثمّة صورة شهيد، أو نصب تذكاريّ لمجموعات المقاومة الّتي قاتلت بين هذه الأزقّة، وارتقى لها القادة والكوادر في الاشتباكات وعمليّات الاغتيال. حملت المرحلة الحاليّة من المقاومة معها صور شهداء جدد إلى حارات البلدة القديمة، وأحياء نابلس ومخيّماتها، لكنّ الجديد هو ولادة أخرى للقديم، في العائلات الّتي قد تكون شهادة أحد أفرادها تذكيرًا بشهادة والده أو شقيقه أو أحد أقاربه، أو غير فرد واحد منهم. وهكذا تصبح للشهادة حضورها في الولادة الجديدة المتكرّرة للحراك الثوريّ.

لكنّ الحضور الإرثيّ للمقاومة في سلوك المقاومين الجديد لا يتوقّف على الشكل التنظيميّ، بل يتعدّاه إلى أبعاد رمزيّة في لباس المقاومين، ومحاولتهم تقليد شهداء الانتفاضة الّذين وُلِد بعضهم بعد شهادة هؤلاء. هنا، تحضر مركزيّة ’الحكاية‘ الاجتماعيّة الّتي ترويها كلّ عائلة لأفرادها، عن أقاربهم أو محيطهم الاجتماعيّ والسكنيّ، وتنقل إليهم كلّ ما تريد أن تقوله عن استمراريّة المقاومة لتحرير الأرض والأقصى والقدس، ومختلف الرموز القيميّة الّتي تشكّل هويّة النضال الفلسطينيّ.

الحراك الثوريّ الحاليّ في المدينة، الّذي تمثّله مجموعات «عرين الأسود»، «كتيبة نابلس»، «كتيبة مخيّم بلاطة»، يمكن مقاربته مع «انتفاضة الأقصى»، وإن كان يفترق عنها في مفاصل متعدّدة...

وهذا المشهد المتنوّع، بين الرمزيّات التاريخيّة والإرث المستمرّ في الحياة على طريقة "الشهداء يعودون"، في الصور والحكايات وغيرها من وسائل الترميز الاجتماعيّ والدينيّ، يحضر في ما يقوله المقاومون عن أنفسهم، وما يحبّون أن يتّسموا به. ’أبو فتحي‘ كان اللقب الأحبّ لقلب الشهيد إبراهيم النابلسي، أحد قادة المرحلة الجديدة في حركة المقاومة الفلسطينيّة. حمل إبراهيم اللقب تيمّنًا بقائد سبقه في المسيرة، هو الشهيد نايف أبو شرخ، الّذي كان ’أبو فتحي‘ أيضًا، الّذي له مكانة مركزيّة في التاريخ النابلسيّ المقاوم، بعد أن أشرف مع رفاقه على تشكيل «كتائب شهداء الأقصى»، وقاد مسيرتها، متعرّصًا لعدّة محاولات اغتيال حتّى استشهاده مع مناضلين آخرين من مختلف الفصائل، بعد حصارهم في البلدة القديمة في 26 حزيران (يونيو) 2004.

 

البلدة القديمة… جغرافيّة معدّة للقتال

’القصبة‘ معلم مركزيّ في العمارة الإسلاميّة، ونابلس بوصفها بنت الحضارة العربيّة والإسلاميّة الّتي طوّرت عمارتها الخاصّة، بامتزاج الثقافات السابقة والمحلّيّة، والإبداعات الّتي وُلِدت من آثار الفكر التوحيديّ، لها ’قصبتها‘ الخاصّة الّتي ارتبطت بحركة المواجهة مع الاحتلال منذ عقود.

لقصبة نابلس، كما لبلدتها القديمة، لغتها المعماريّة الفريدة الّتي تتجاوز ما نعرفه عن معمار في مكان آخر. إذ تتكوّن بلدة نابلس القديمة الّتي تتوسّط جبالها من ستّ حارات رئيسيّة، هي: الحبلة، والقيساريّة، والياسمينة، والقريون، والغرب، والعقبة. وتضمّ هذه الحارات أزقّة وطرقًا ومنازل وأحواشًا سكنيّة وساحات رئيسيّة.

جغرافيّة البلدة القديمة في نابلس، الّتي تُتيح للثائرين اعتبارها ساحة خلفيّة للانسحاب من أمام القوّة المعادية، جعلتها طوال تاريخها مكانًا لمعارك وعمليّات عسكريّة نفّذها جيش الاستعمار؛ فخلال «انتفاضة الأقصى» شنّ جيش الاستعمار عمليّات عسكريّة عديدة على البلدة القديمة؛ في محاولة لاستئصال مجموعات المقاومة منها. كانت أبرز تلك العمليّات في نيسان (إبريل) 2002؛ إذ شهدت تنفيذ خطّة «الاختراق عبر الجدران»، الّتي روّجها رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، أفيف كوخافي، بوصفها من نجاحاته خلال خدمته العسكريّة، حين كان يشغل آنذاك منصب قائد لواء المظلّيّين، وأشرف على تطبيق خطّة الدخول في منازل حيّ القصبة ومخيّم بلاطة، عبر فتح ممرّات في جدران المنازل.

ولم تتوقّف البلدة القديمة عن أن تشكّل ملجأً للمطارَدين والمشتبكين من مجموعات المقاومة الجديدة. فتقول شقيقة مقاوم استُشهد قبل شهور إنّ كوادر المقاومة يشعرون بالطمأنينة في البلدة القديمة، وتجعلهم شبكة العلاقات الاجتماعيّة الّتي تتكوّن من حولهم يفضّلون الانتشار في الأزقّة الّتي توفّر لهم سهولة حركة أكثر من الخارج.

صعود المقاومة، وظهور مجموعات جديدة لها من بينها «عرين الأسود»، المتمركز في البلدة القديمة والمنطلق منها، أعادا ترميم علاقات الناس بالمقاومة...

أعاد الحراك الثوريّ في المدينة، الّذي انطلق من العام الماضي، ترميم العلاقات الاجتماعيّة الّتي ’ضعفت‘ إلى حدّ بعيد في السنوات الماضية. فتؤكّد شقيقة الشهيد ذلك، وهي تشير إلى الزيارات الّتي لم تنقطع عن منزلها، بعد شهور من شهادة شقيقها، وتتذكّر كيف كانت العائلات تسعى لتأمين الطعام للمطارَدين والمأوى.

في أحد الاشتباكات مع المقاومين خارج حدود البلدة القديمة، كان الأهالي يتساءلون: "لماذا لم يحضروا إلى البلدة؟". قالت شقيقة الشهيد وهي تؤكّد الاستعداد الجماعيّ في البلدة القديمة لاحتضان كلّ المطارَدين، وهو فعل تاريخيّ متوارث في الحيّز الجغرافيّ الّذي شكّلت الشهادة والمطاردة والمقاومة ’هويّة جماعيّة‘ له، بقيت تُجَدَّد رغم سنوات من السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الممارَسة عليه. لكنّ صعود المقاومة، وظهور مجموعات جديدة لها من بينها «عرين الأسود»، المتمركز في البلدة القديمة والمنطلق منها، أعادا ترميم علاقات الناس بالمقاومة.

 


 

أحمد العاروري

 

 

 

صحافيّ وكاتب فلسطينيّ. دَرَس في «جامعة القدس»، مهتمّ بتاريخ المقاومة الفلسطينيّة وحروب الاستعمار الصهيونيّ، وقضايا فلسفة الحروب.