الماضي الخرافيّ: التوراة والتاريخ

الماضي الخرافيّ، التوراة والتاريخ، لتوماس طومسون.

 

خلال مؤتمر «تاريخ وآثار فلسطين» الّذي دعا إليه «مركز الأبحاث» التابع لـ «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» في رام الله، في 19 و20 آذار (مارس) 2023، التقيت توماس طومسون، مؤلّف كتاب «الماضي الخرافيّ، التوارة والتاريخ» (2001)، عن «دار قدمس»، ترجمة عدنان حسن. ودار بيننا حديث قصير ومتقطّع لمرّات عدّة حول أهمّيّة الغوص حتّى الجذور في التاريخ والآثار؛ لكشف الحقيقة التاريخيّة الّتي تخصّ فلسطين، وذكرت أمامه كتابه المشار إليه أعلاه، وموضوع هذه المقالة، فاعتبره أحد أبرز طروحات النقاش في ما إذا كانت التوراة كتاب لاهوت أو تاريخ، وعليه؛ عدت إلى الكتاب سنوات طويلة بعد قراءته؛ لأعود وأتعمّق في بعض مفاصله، وقد اتّضحت الصورة أكثر وأكثر.  

 

’التوارة‘ بوصفها أدبًا

ساد الاعتقاد في أوساط علماء الآثار والمؤرّخين وعلماء الكتاب المقدّس، بأنّ نصوص الكتاب المقدّس هي تاريخيّة أيضًا، مثل الخليقة، وخروج بني إسرائيل من مصر، وقصّة داود والسبي. لكنّ تغييرات حدثت، ولا تزال، في فهْم خلفيّة الكتاب المقدّس تاريخيًّا ونصّيًّا.

ومن بين أبرز الدارسين بتعمّق لطبيعة الكتاب المقدّس ولجوهره النصّيّ توماس طومسون، الّذي يرى أنّ الكتاب المقدّس هو نصوص أدبيّة فلسفيّة وأخلاقيّة في أساسها، وهكذا علينا النظر إليها. ولا ينظر طومسون إلى الكتاب المقدّس بمعزل عن الرابط مع ثقافات وحضارات أخرى، كان لها دور مهمّ في الساحة الفكريّة والفلسفيّة آنذاك.

يرى توماس طومسون أنّ الكتاب المقدّس هو نصوص أدبيّة فلسفيّة وأخلاقيّة في أساسها، وهكذا علينا النظر إليها...

واعتُبِرت التوراة - بـ ’أل التعريف‘ - المصدر الرئيسيّ لكلّ باحث يرغب في دراسة تاريخ الشرق الأوسط القديم. وبقيت هذه الحال لقرون طويلة، إلى أن ظهر علم الآثار ليطرح أمام هؤلاء الباحثين حضارات لشعوب أخرى عاشت، وبعضها لا يزال يعيش في المنطقة، ومنهم السومريّون والبابليّون والكنعانيّون والمصريّون، وغيرهم.

أصبح واضحًا أنّ كَتَبة التوراة قد اقتبسوا حكايات وقصصًا وأساطير من البيئات الّتي عاشوا بين ظهرانيها، وخاصّة ما يفي بالغرض المطلوب لدعم قصصهم لغايات دينيّة واجتماعيّة. واكتشف العلماء، في مجال الحفريّات والتنقيبات الآثاريّة، أنّ حكماء من اليهود قد استعاروا حكايات وأساطير من تراث الشعوب القديمة، الّتي ذكرنا بعضًا منها. والاقتباس أو الاستعارة كان لخدمة نصوصهم التوراتيّة. حتّى أنّ أناشيد دينيّة وآلهة عبدتها شعوب في المنطقة، وعادات وتقاليد مارستها هذه الشعوب على مرّ العصور، أُخْضِعت لما يخدم توجّهات التوراة اليهوديّة. حتّى الإلهان ’إيل‘ و’يهوه‘ الواردان في التوراة، هما معبودان لدى شعوب المنطقة منذ عصور سابقة لظهور التوراة.

 

هل ثمّة تاريخ في التوارة؟

توماس طومسون، أمريكيّ الجنسيّة، أستاذ في علم الآثار، ومختصّ في الدراسات التوراتيّة (أو كما تُسَمّى ’الكتابيّة‘). درّس في جامعات أمريكيّة عالية، واضطرّ إلى ترك وظيفته الأكاديميّة جرّاء ضغط اللوبيّات اليهوديّة - الصهيونيّة، الّتي اعتبرت آراءه مسيئة للتوراة، إلى أنّ اضطرّ في فترة من الفترات إلى العمل في طلاء البيوت، لكن في ما بعد تمكّن من الحصول على وظيفة أكاديميّة في إحدى جامعات كوبنهاغن.

الإجابة المركزيّة الّتي يتطرّق إليها طومسون في كتاباته، هي أنّ التوراة كتاب أدب لا كتاب تاريخ، وأنّ القصص الّتي توردها التوراة هي قصص وليست تاريخًا، ولم تترك لنا المصادر والوثائق التاريخيّة للمنطقة أيّ ذكر للشخصيّات الإسرائيليّة في التوراة. يعتقد طومسون أنّه لا يمكن اعتماد كلّ قصّة توراتيّة حدثًا تاريخيًّا، بل يُعْتبَر اللجوء إلى هذا التوجّه فيه استهتار بعقل القارئ المهتمّ والمعنيّ بالدراسات من هذا النوع. فالسرديّات التوراتيّة لا أسس تاريخيّة لها في المنطقة، إنّما هي مندرجة تحت نصوص أسطوريّة وخرافيّة في كثير من الأحيان، أسوة بما هو وارد في خرافات وأساطير من الحضارات القديمة.

يثبت طومسون اعتماد المؤرّخين والآثاريّين على فكرة كون التوراة كتابًا تاريخيًّا؛ وهو ما خلق بلبلة في فهم الأحداث الّتي جرت في المنطقة، سواء ورد ذكر لها في التوراة أو لم يرد. وإذا اعتمد الباحثون على التوراة كتابًا تاريخيًّا فإنّه يقدّم لنا سردًا تاريخيًّا عن حضارات وشعوب أخرى بصورة غير منطقيّة، وبعيدة كلّيًّا عن العقلانيّة؛ فالتوراة في نظره لا توفّر لنا معلومات عن الشعوب الّتي عاشت هنا، إلّا من زاوية سيّئة وغير إنسانيّة بالمفهوم الإنسانيّ؛ أي أنّ النصوص التوراتيّة تبتعد عن أنسنة إنسان هذه الأرض؛ فالقصص التوراتيّة حسب طومسون هي صور مجازيّة لكثير من الشخصيّات والأحداث؛ بمعنًى آخر هي نصوص لاهوتيّة يمكن تأويلها بهذا الاتّجاه.

وهو يعتقد في كتابه هذا، وكتب أخرى من تأليفه تسير في نفس المسار، أنّ تراكميّة التعليم والقراءة الّتي كانت سائدة حول كون التوراة مرجعًا رئيسيًّا، قد قولبت فهْم الإنسان وإدراكه لحياة الماضي البعيد. وعمليّة إدماج الحكايات التوراتيّة مع المكتشفات الأثريّة في فلسطين، هو محض خطأ كبير؛ لأنّ ذلك لا يفي الحقيقة التاريخيّة حقّها، بأنّ شعوبًا أخرى غير ’الشعب المختار‘ كانت تعيش هنا. وهذا، كما أدركت من قراءة الكتاب، فيه نفي وإقصاء للآخر؛ فحكايات البطولات مستقاة من مخزون حضارات وثقافات أخرى قريبة من فلسطين أو بعيدة عنها، لا توفّر لنا، نحن المؤرّخين والباحثين، أيّة مادّة تاريخيّة خامّ لنتعامل معها، كما نتعامل مع موادّ خامّ أخرى لتواريخ شعوب وأحداث.

عمليّة إدماج الحكايات التوراتيّة مع المكتشفات الأثريّة في فلسطين، محض خطأ كبير؛ لأنّ ذلك لا يفي الحقيقة التاريخيّة حقّها، بأنّ شعوبًا أخرى غير ’الشعب المختار‘ كانت تعيش هنا...

وقد نجد معلومات تاريخيّة مكثّفة في لفائف تلّ العمارنة المصريّة، ونقوشًا على ألواح آجر بابليّة وكلدانيّة وأشوريّة وغيرها. أمّا في التوراة فما نجده من نصوص وإحالات توراتيّة قليل جدًّا. ويشير طومسون إلى أنّ التاريخ يميل إلى تبنّي البراهين، وفي حقيقة الأمر فإنّ الخيال هو الّذي يفرض المعقوليّة. ويشبه في كتابه هذا السرديّات بكونها عبارة عن لعبة «ليغو كوبنهاغن»، حيث تُرَكَّب الأحداث من قطع صغيرة تترابط في ما بينها، لكنّها قطع منفصلة في ما لو جرّدناها من علاقاتها المحيطة.

 

التوارة وقصص الشعوب الأخرى

يوجّه طومسون نقدًا لاذعًا إلى كلّ الّذين ما زالوا يتمسّكون بأنّ التوراة كتاب عقيدة وكتاب تاريخ معًا، من باب الاستيلاء على النصوص القديمة لأهداف تخدم توجّهات تقليديّة، دأبت على تصوير اليهود شعبًا مختارًا، ومختلفًا عن باقي الشعوب.

ويصف مسارات مؤرّخين وآثاريّين؛ بأنّهم اعتمدوا في شروحاتهم لنقوش حجريّة على التوراة، باعتبارها مصدرًا رئيسيًّا لفهم الفترات الّتي عاشتها. وثمّة أحداث ونقوش وصفتها التوراة بأنّها قصص، علمًا أنّها وقائع تاريخيّة تخصّ ثقافات أخرى. فهل هذا باب للتنافس بين الحضارات القديمة الّتي انتشرت في موازاة بعضها أو وراء بعضها بعضًا؟

تنقل إلينا التوراة صراعًا قاسيًا بين ’يهوه‘ و’إسرائيل‘ مولوده البكر، وأنّ إسرائيل هذا خان العهد، فندم يهوه على اختياره؛ فتولّد الغضب الإلهيّ؛ فما المسألة هنا؟ إنّها صراع بين الخير والشرّ، بين الحسن والسيّئ، وهو الصراع نفسه الّذي كان منتشرًا في ثقافات الشعوب القديمة ودياناتهم بالتوازي مع التوراة.

 

بين القصّة والدليل: فلسطين والتوراة 

يكرّر طومسون أنّ التوراة ليست كتاب تاريخ أبدًا، ولا أدلّة أو حتّى إشارات لوجوده في تاريخ فلسطين؛ فالتوراة هي نصوص فكريّة وأدبيّة وأسطوريّة. واستنادًا إلى مكوّنات التاريخ؛ فإنّ هذه النصوص هي أدب خلاصيّ، وهو باب من الأنواع الأدبيّة، إن جاز لنا التعبير عنها أو وصفها.

وإذا ولجنا كتاب «الماضي الخرافيّ» المشار إليه أعلاه، فإنّنا نقرأ في الجزء الأوّل مقدّمة للقضايا التاريخيّة العامّة: مشاكل الخلط بين القصص والأدلّة التاريخيّة، والطرق الّتي يتحدّث فيها الكتاب المقدّس عن الماضي، ومخاطر الخلط بين ذلك وبين المفاهيم الحديثة للتاريخ، واستخدام أساطير الأصل وتكرارها. يكتب طومسون: "إنّ تراثات مثل تراث الكتاب، الّتي أمدّت المجتمع القديم بماضٍ مشترك، تختلف جدًّا عن التواريخ النقديّة الّتي تؤدّي دورًا مركزيًّا في الحياة الفكريّة المعاصرة؛ فالاختلافات بين المنظورين، القديم والحديث، تعكس إدراكات مختلفة للواقع"[1].

الجزء الثاني هو تاريخ فلسطين والمنطقة المحيطة بها، من أوّل مستوطنة بشريّة إلى العصر الهلنستيّ، بناء على أحدث الأدلّة الأثريّة والتاريخيّة. على خلفيّة تغيّر المناخ على المدى الطويل، وأصل اللغات الساميّة، والأنماط الواسعة للتغيّر الثقافيّ والاستمراريّة؛ فإنّه يغطّي الزراعة وأنماط الاستيطان والشبكات التجاريّة والهياكل السياسيّة، من علاقة المدن بأراضيها النائية إلى الجغرافيا السياسيّة للإمبرياليّة المصريّة والأشوريّة. ثمّ إنّه يناقش "فكرة الشعب المختار الّذي اختاره بلا وطن أو إله. وهذا تفاعل مضطرب لهذا الإله المتوحّد، وهذا الشعب الشريد هو ذاته يقع في حبكة القصّة الكتابيّة"[2]

يريد طومسون الفصل بين النصّ التاريخيّ، وبين النصّ الكتابيّ القصصيّ الإنشائيّ الموجود فيها، وأن يُحَرَّر اللاهوت ممّا وقع له من خلل الميل إلى قراءة التوراة نصًّا تاريخيًّا...

على حين أنّ الجزء الثالث من هذا الكتاب يتطرّق إلى السياقات التاريخيّة الّتي كُتِب فيها النصّ، والّتي تكوّن فيها التراث؛ تلك هي السياقات الفكريّة والأدبيّة والاجتماعيّة الّتي أعطت الكتاب بنيته ولغته الخاصّتين. أمّا الفصل الختاميّ من الكتاب فيتطرّق إلى النظام الملكيّ، الّذي تشكّل مع داود (إن كانت هذه الشخصيّة موجودة أصلًا من وجهة النظر التاريخيّة)، وقصص النفي، والوعد بالعودة، وإعادة البناء والارتباط مع يهوه.

 

الفصل بين التاريخيّ والإنشائيّ

يريد طومسون الفصل بين النصّ التاريخيّ (غير الموجود في التوراة حسب وجهة نظره)، وبين النصّ الكتابيّ القصصيّ الإنشائيّ الموجود فيها، وأن يُحَرَّر اللاهوت ممّا وقع له من خلل الميل إلى قراءة التوراة نصًّا تاريخيًّا. ويختم كتابه بسلسلة من الاستنتاجات، من أبرزها أنّ "النصوص في حاجة إلى أن تُقْرَأ في سياقاتها؛ تلك السياقات تاريخيّة. وأحد مظاهر ذلك السياق التاريخيّ هو مكان النصّ ضمن العالم الفكريّ للأدب الّذي كُتِبت فيه"[3]

قد يكون من الصعب على القارئ العربيّ، خاصّة، قبول دراسات وتوجّهات نقديّة كهذه، بحكم أنّه محكوم لمنظومة دينيّة مهيمنة على مساحات واسعة من مربّعات الفكر والنقد فيها. لكن ستبقى طروحات طومسون مثيرة للجدل، ليس فقط في مساحات نشوئها في الغرب الّذي يبحث عن إيمانه بطريقة عقلانيّة، وحتّى بحثه عن علمانيّته بطريقة فكريّة وعقلانيّة، بل في أنحاء مختلفة من عالم مهتمّ بهذه المواضيع.

 


إحالات

[1] توماس طومسون. الماضي الخرافيّ، التوراة والتاريخ. ترجمة عدنان حسن. (دمشق: دار دقمس، 2001)، ص 46.

[2] مرجع سابق، ص47.

[3] مرجع سابق، ص583.

 


 

جوني منصور

 

 

 

مؤرّخ ومحاضر فلسطينيّ من حيفا، له إصدارات عديدة منها «شوارع حيفا العربيّة»، «الاستيطان الإسرائيليّ»، «مسافة بين دولتين»، «إسرائيل الأخرى»، و«الخطّ الحديديّ الحجازيّ».