رام الله والبيرة... من ’فيلّا أبو شوشة‘ إلى ضاحية الريحان

رام الله التحتا - مدينة رام الله | ABBAS MOMANI - AFP via Getty Images

 

منذ أواسط التسعينات، اختبر الحيّز الحضريّ لرام الله والبيرة العديد من التحوّلات والتغيّرات الاجتماعيّة - الاقتصاديّة، الّتي تزامنت مع تشكّل السلطة الفلسطينيّة، وأخذت أسعار الأراضي تشهد ارتفاعًا دراماتيكيًّا – وربّما بوتيرة أعلى من المدن الأخرى. كان لذلك أثر في  ظهور العديد من صور الفرز المكانيّ، والاختلاف الاجتماعيّ - الاقتصاديّ، وتبلور أنواع جديدة من الأحياء المطبوعة بالهويّة الاجتماعيّة، والفضاءات والأماكن الّتي يُشار إليها، باعتبارها مخصَّصة لطبقات وشرائح سكّانيّة محدّدة. إضافة إلى ظهور تقسيمات مكانيّة وفق مستويات وتصنيفات متفاوتة، تنذر بتأسيس خريطة تراتبيّة ذات بُعد طبقيّ.

فقد وُسِمَتْ بعض أحياء المدينتين بوصفها مناطق للطبقة الدنيا، وخيارًا للسكن الرخيص المتلائم وإمكانات الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، مثل منطقة أمّ الشرايط في البيرة. في ما اتّسمت أجزاء كثيرة من حيَّي الطيرة والماصيون في رام الله بسمعة نخبويّة، واتّصفت برفعة المكانة الاجتماعيّة - الاقتصاديّة؛ وهو ما لم يكن ملاحَظًا بوضوح قبل قيام السلطة الفلسطينيّة. إذ لم تشهد رام الله والبيرة وجود مناطق كاملة تتّسم، أو تصطبغ، بهويّة اجتماعيّة -اقتصاديّة معيّنة، بقدر ما كان هناك توزّع لأشخاص موسرين، وبعض مظاهر الثراء في مناطق مختلفة، دونما تركيز في فضاءات بعينها.

 

طبقات المدينة ’العليا‘ و’التحتا‘

قبل أكثر من ثلاثين عامًا، لم يكن يُنظر إلى «فيلّا أبو شوشة» - أحد أكثر المنازل شهرة وفخامة في ذلك الوقت، وقد بُنِيت فوق تلّة تطلّ على القدس، وبمحاذاة مخيّم الأمعري - على أنّها واقعة في منطقة فقيرة أو غير راقية. أمّا اليوم فقد باتت هذه ’الفيلّا‘ ترزح وسط غابة أسمنتيّة كثيفة من البنايات الممتدّة في أطراف حيّ أمّ الشرايط في مدينة البيرة - الّذي تتّسم أجزاء كبيرة منه بصفة الدونيّة الاجتماعيّة  - الاقتصاديّة، والعشوائيّة العمرانيّة، والفوضى والحرمان من الخدمات. ولم يعُد خافيًا على أحد السمعة السيّئة الّتي لحقت بالحيّ، أو أنّ مساكنه تحوّلت إلى مستوعبات ’سردين‘، وعشوائيّات عموديّة تفتقر إلى الخدمات العامّة والبنى التحتيّة، اتّفاقًا مع ما أورده هلال[1]. ذلك بعد أن ظلّت منطقة أمّ الشرايط تلّة فارغة حتّى أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي[2]؛ إذ بدأ خليط من اللاجئين والسكّان المقدسيّين المدفوعين بضغوط إسرائيليّة يعمّرونها[3]. من ناحية أخرى، فقد شهدت نفس الفترة عدم اضطلاع الطيرة والماصيون بنفس الصيت النخبويّ الّذي يحظيان بمثله اليوم، ويعكسانه على سكّانهما باعتبارهم يقطنون أحد أكثر الأحياء رقيًّا في مدينة رام الله.

ظلّت منطقة أمّ الشرايط تلّة فارغة حتّى أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي؛ إذ بدأ خليط من اللاجئين والسكّان المقدسيّين المدفوعين بضغوط إسرائيليّة يعمّرونها...

ليس بعيدًا عن حيّ الطيرة، تقع البلدة القديمة أو ما يُعْرَف اليوم برام الله التحتا. ورغم أنّ سكّانها اليوم ليسوا هم الأشدّ فقرًا، إلّا أنّها وُسِمت باعتبارها منطقة سكنيّة للطبقة الدنيا؛ لتكون بذلك أوّل منطقة يُطْلَق عليها هذا الوصف في رام الله[4]. وهو الأمر الّذي يمكن أن يُشار إليه باعتباره نواة للفرز المكانيّ بين سكّان المدينة على أسس طبقيّة، وقد أصبح المصطلحان ’تحت‘ و’فوق‘ دلالة، ليس فقط على الموقع الجغرافيّ وانخفاضه أو ارتفاعه، بقدر أنّها انعكاس لواقع السكّان، وفرزهم مكانيًّا في ضوء وضعهم وجهة انتمائهم.

يمكن إرجاع أولى علامات التمايز الاجتماعيّ - الاقتصاديّ، الّذي شهدته رام الله التحتا، وانعكاساته على الأنماط السكنيّة والسكّانيّة، إلى بدايات القرن الماضي، لا سيّما الفترة التالية للحرب العالميّة الأولى. إذ خرج الميسورون من سكّان المدينة الأصليّين من البلدة القديمة، الّتي كان نازحو منطقة الخليل قد بدؤوا بالاستقرار فيها قبل أن ينضمّ إليهم لاحقًا بعض لاجئي نكبة 1948[5]. حيث استقبلت رام الله نمطين من اللاجئين: لاجئين حضريّين من أبناء الطبقة الوسطى، اندمجوا ضمن نسيجها، وشكّلوا نواة لطبقة وسطى جديدة. ولاجئين فلّاحين انعزلوا في مخيّمات للاجئين، وشكّلوا أحد مكوّنات الطبقة الدنيا للحيّز الحضريّ، الّذي ظهرت فيه أشكال جديدة من أسس التمايز والانقسام الاجتماعيّ؛ لتصبح المدينة فضاء هجينًا يتمتّع بتركيبة سكّانيّة فريدة، ويشترك فيه سكّان أصليّون ولاجئون ومهاجرون داخليّون[6].

 

الماصيون... من الحيّ الراقي إلى منطقة مكتظّة

يُشار، في هذا السياق، إلى بروز العديد من المناطق ضمن الماصيون وبعض أجزاء الطيرة في رام الله، باعتبارها وجهات نخبويّة راقية، لا يصلها إلّا مَنْ يملك رأس المال الملائم مادّيًّا وثقافيًّا، ويستطيع دفع الفاتورة الاجتماعيّة - الاقتصاديّة لوجوده هناك. ورغم أهمّيّة حيّ الطيرة، الّذي وجدت له ذكرًا موثّقًا في مخطّط المدينة الهيكليّ، الّذي جرى ترسيمه سنة 1962 خلال العهد الأردنيّ، إلّا أنّه لم يتوسّع بوضوح إلّا بعد قيام السلطة الفلسطينيّة. كما أنّ ملامح الصورة الّتي بدأت تتبلور حوله بوصفه منطقة راقية، تعزّزت بعد انتهاء اجتياح الضفّة الغربيّة في عام 2002، وبدء ضخّ الاستثمارات في رام الله.

رغم أهمّيّة حيّ الطيرة (...) إلّا أنّه لم يتوسّع بوضوح إلّا بعد قيام السلطة الفلسطينيّة. كما أنّ ملامح الصورة الّتي بدأت تتبلور حوله بوصفه منطقة راقية، تعزّزت بعد انتهاء اجتياح الضفّة الغربيّة في عام 2002...

يظهر في تقرير مخطّط المدينة الهيكليّ الإضافيّ لسنة 2005 أنّ مبادرات أصحاب الأراضي، وقيامهم بتقسيم أراضيهم وبيع جزء منها، كانت المحرّك الأساسيّ الّذي حفّز البلديّة على إعداد هذا المخطّط، وتوسيع منطقة نفوذها؛ لاستيعاب الطفرة العمرانيّة، وزيادة عرض الأراضي في سوقها الفاعل. ونوّه التقرير أيضًا إلى أنّ ملكيّة الأراضي الّتي تميّزت بها فئة أهل رام الله الأصليّين أعطتهم تميّزًا اقتصاديًّا، وجعلتهم رديفًا للطبقة الغنيّة الناشئة من حيث المكانة الاجتماعيّة والتأثير السياسيّ. ورغم أنّ التقرير يشير إلى عدم وجود إحصائيّات اجتماعيّة دقيقة لتوزيع الفئات الاجتماعيّة في المدينة، إلّا أنّه ذكر أنّ خُمس السكّان ينتمون إلى الطبقة العليا، وثلاثة أخماسهم إلى الطبقة الوسطى، أمّا الخُمس الأخير فينتمي إلى الطبقة الّتي أسماها الفقيرة. ونوّه التقرير أيضًا إلى بدء ظهور أحياء أو إسكانات مفصولة، اعتمادًا على أساس الانتماء المهنيّ والثقافيّ، أو الاجتماعيّ والاقتصاديّ، في تلك الفترة.

وفي إطار متّصل، بيّنت سلمي[7] (2010) في دراستها حول الماصيون، أنّ لدى سكّان هذا الحيّ خوفًا من قدوم سكّان جدد مختلفين عنهم في أنماط حياتهم؛ وهذا قد يترتّب عليه حدوث اختراق للحدود الاجتماعيّة والثقافيّة والطبقيّة، ويتسبّب في خسارة المنطقة لمكانتها حيًّا راقيًا، وينزع عن سكّانها المكانة الاجتماعيّة الّتي بات يضفيها عليهم، بعد أن كانوا هم مَنْ يضفيها عليه في وقت سابق.

 

الهجرة نحو ’ماصيون‘ جديد 

يمكن القول إنّ ملامح التصوّر السابق قد أخذت تتبلور بالفعل؛ إذ أتاحت القروض، والإسكانات التجاريّة الّتي أخذت تغزو الماصيون، للعديد من منتمي الطبقات الاجتماعيّة، الأقلّ رقيًّا من منظور قدامى سكّان هذا الحيّ، الّذين أخذوا يتدفّقون إليه؛ في سياق رغبتهم في المكوث في منطقة ’راقية‘ تناسب تطلّعاتهم وتصوّراتهم. وقد ذكر لي أحدهم كيف وجد نفسه مضطرًّا، وأمام رغبته في أن يكون وسط البيئة الاجتماعيّة النخبويّة لهذا الحيّ، إلى أن يصبح أسيرًا لقرض سكنيّ لم يستطع الوفاء بمتطلّباته. وهناك إشارات، في ظلّ الاستقرار الّذي بدأ الحيّ يشهده؛ لوجود المكاتب، والأعمال التجاريّة، والفنادق والمقاهي الّتي أخذت تستقطب روّادًا وزوّارًا من خارج الحيّ، إشارات إلى بدء نزوح بعض سكّان الماصيون وخروجهم، تحديدًا من المنطقة المكتظّة في وسط الماصيون، وتوجّههم إلى مناطق أخرى أكثر نخبويّة، سواء في الحيّ نفسه مثل محيط «فندق جراند بارك»، والسفارات والهيئات الدبلوماسيّة المجاورة، أو إلى بعض الأجزاء الراقية في الطيرة، أو ضاحية الريحان، أو «إسكان ريف» قرب قرية أبو قشّ.

يناميكيّات التراتبيّة المكانيّة، والممارسات النخبويّة الّتي يشهدها حيّز رام الله، ترتبط بـ(...) سلوك نيوليبراليّ عابر للحدود الوطنيّة، وتشكّل امتدادًا لها...

كما يظهر أنّ البعض قد بدأ يتّجه إلى الاستثمار في القرى القريبة، مثل جفنا وغيرها من القرى؛ طمعًا في الحصول على منزل مستقلّ في ظلّ محدوديّة الأراضي في رام الله وارتفاع أسعارها. ويمكن القول إنّ ديناميكيّات التراتبيّة المكانيّة، والممارسات النخبويّة الّتي يشهدها حيّز رام الله، ترتبط بسياسة رأسماليّة عالميّة وسلوك نيوليبراليّ عابر للحدود الوطنيّة، وتشكّل امتدادًا لها، وكذلك استجابة - بصورة أو بأخرى - لضغوط الاستثمار الّذي استهدف الماصيون والطيرة وغيرهما من مناطق المدينة بصور مختلفة.

 

 


إحالات

[1] جميل هلال، رام الله المدينة والحكاية. في: جميل هلال وأباهر السقا، قراءة في بعض التغيّرات السوسيو حضريّة في رام الله وكفر عقب، (بير زيت: مركز دراسات التنمية – جامعة بير زيت، 2015)، ص 8-51.

[2] ليزا تراكي. رام الله – البيرة: مجتمعات وهويّات. في: رلى أبو دحو، لميس أبو نحلة، ليزا تراكي، بني جونسون، أميرة سلمي، وجميل هلال، أمكنة صغيرة وقضايا كبيرة، (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2010)، ص 11-44.

[3] Harker, Christopher, Shebeitah, Reema, & Sayyad, Dareen. Ghosts of Jerusalem: Ramallah’s Haunted Landscapes. Jerusalem Quarterly. (2014) 58(7), 7-12.

[4] ليزا تراكي. رام الله – البيرة: مجتمعات وهويّات، ص 11-44.

[5] انظر: ليزا تراكي. رام الله – البيرة: مجتمعات وهويّات، ص 11-44، نظمي الجعبة، وخلدون بشارة. رام الله: عمارة وتاريخ. (رام الله والقدس: رواق - مركز المعمار الشعبيّ، ومؤسّسة الدراسات المقدسيّة، 2002).

[6] انظر: ليزا تراكي. رام الله – البيرة: مجتمعات وهويّات، ص 11-44، ليزا تراكي، وريتا جقمان، إجهاض الحداثة وعودتها المتجدّدة. في ليزا تراكي (محرّر)، الحياة تحت الاحتلال في الضفّة والقطاع: الحراك الاجتماعيّ والكفاح من أجل البقاء، (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2008)، ص 25-80.

[7] أميرة سلمي. الماصيون: بين تغيّرات البنية العمرانيّة والخوف من فقدان المكان الاجتماعيّة. في: رلى أبو دحو، لميس أبو نحلة، ليزا تراكي، بني جونسون، أميرة سلمي، وجميل هلال، أمكنة صغيرة وقضايا كبيرة، (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2010)، ص 201-234).

 


 

سليم أبو ظاهر

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه في «العلوم الاجتماعيّة» من «جامعة بير زيت»، ويهتمّ بدراسات السكّان الأصلانيّين والتاريخ الاجتماعيّ الاقتصاديّ الحديث، والتفاعلات اليوميّة الزمانيّة المكانيّة.