تكيّة خاصكي سلطان: ملاذ ميسوري القدس وأغنيائها

الجزيرة الوثائقيّة

 

يكتب أحد المقادسة عن ذكريات الطفولة، ومدى تعلّقه بالعمارة العامرة في ستّينات القرن العشرين: "أذكر أيّام الطفولـة... كنّا نتنادى، أنا ورفاقي في الحيّ المجاور لـ «خاصكي ســــــلطان» في عقبة السرايا، في الصباح الباكر... كي نذهب لإحضار الشوربة المجّانيّة من مطبخ «خـاصــكي ســــــلطـان». أذكر طرافة أشــــكال الأوعية الّتي كنّا نجلب فيها الشــــوربة، وكيف أنّ البعض كان يصــــــحـب معـه وعـاء كبيرًا؛ أملًا في الحصــــــول على كمّيـّة أكثر من المغرفـة الّتي حـدّدتهـا الواقفة «خاصــكي ســلطان». كنّا ًنصــفّ’"طابورًا‘ بالدور، ننتظر أحيانًا نضج الشوربة، وأحيانًا كنّا ببراءة الأطفال الصغار وحذلقتهم، نتدافع ونتناصر لبعضـنا بعضًا... للحصـول على الشـوربة قبل نفاد الكمّيّة. ما زلت أتصوّر فرحة الأطفال الّذين كانوا يحصلون على الشوربة، لكن أتذكّر بصورة أقوى وأوضح خيبة الأمل والحسرة الّتي كانت تصيب الأطفال حين تنفد الكمّيّة. كان البعض يحسّ بأنّه فقد شيئًا ثمينًا، على الرغم من أنّها شوربة بسيطة"[1].     

 

«خاصكي سلطان»... الشرعيّة بالطعام

كانت، وما زالت، «تكيّة خاصكي سلطان» إحدى العمائر الضخمة الّتي تركت أثرها في مدينة القدس وروّادها، فبالرغم من ضياع الأملاك الّتي أُوقِفت عليها، إلّا أنّ أبوابها حتّى اليوم ما زالت مفتوحة لكلّ مَنْ يقصدها. يكفي المرور من طريق عقبة التكيّة، والنظر إلى أعلى للتمكّن من تأمّل ضخامة مجمع خاصكي سلطان، وجمال مدخله الّذي يزيّن شوارع المدينة القديمة. هو ذلك الجمال الّذي علق في ذاكرة أطفال المدينة، وركضهم نحو شوربة التكيّة المجّانيّة، الممزوجة ببركة المدينة وجمالها. عرفت فلسطين تكايا عديدة أبرزها «تكيّة سيّدنا إبراهيم الخليل» في مدينة الخليل، و«تكيّة خاصكي سلطان» الّتي تُعْتبَر الأهمّ في فلسطين. أمّا في الولايات التابعة للإمبراطوريّة العثمانيّة فقد وصل عدد التكايا إلى 83 تكيّة في عام 1530؛ ممّا قد يحمل دلالة إدراك العثمانيّين إلى الحصول على شرعيّة حكمهم من خلال إطعام الرعايا. 

تتبّع هذه المقالة علاقة سكّان المدينة بالتكيّة، ومدى استمرارها في خدمة فقراء المدينة، وكيف تبقى مثل هذه المؤسّسات تعمل في المدينة رغم تتابع النكبات عليها. بكلمات أخرى؛ كيفيّة استمرار الأعمال الخيريّة في أوقات غياب الدولة. رغم كلّ الدول الّتي مرّت على مدينة القدس.  

ترتبط التكيّة بتقديم الطعام المجّانيّ، أو على الأقلّ ذلك التعريف الدارج بين العامّة، وهو ما ربط الكلمة بالأمثال الشعبيّة في منطقة بلاد الشام، حول طلب كلّ ما هو مجّانيّ، ومنها القول: "هي تكيّة أبونا" أو "فاتحينها تكيّة". لعلّ ذلك يدلّ على مدى تأثير التكيّة، ودورها في الحياة اليوميّة لمجتمعات المنطقة.

«تكيّة خاصكي سلطان»، ومنذ بنائها خلال السنوات 1552-1556؛ مطبخًا لمساعدة الفقراء، وبقيت التكيّة مستمرّة في تقديمها الخدمات للفقراء، والدراويش، والمرابطين، والمسافرين، لمئات السنين، ولم تقتصر على الفقراء والدراويش فقط؛ إذ كان للمقتدرين نصيب من تلك الشوربة ذات المذاق المميّز.

 

Mostafa Alkharouf - Anadolu Agency via Getty Images

 

 

التكيّة في عهدها العثمانيّ الذهبيّ 

يقع مبنى «تكيّة خاصكي سلطان» على بُعد بضعة أمتار من المسجد الأقصى المبارك، وضمن مبنى «دار الأيتام الإسلاميّة الصناعيّة» حاليًّا، في منتصف العقبة المعروفة بعقبة التكيّة، من الجهة الجنوبيّة بين رباط بايرام جاويش من الشرق وسرايا الستّ طنشق من الغرب. كانت «تكيّة خاصكي سلطان» من أكبر المؤسّسات الخيريّة في فلسطين طيلة العهد العثمانيّ، واستمرّت في تقديمها الخدمات للفقراء والدراويش والمسافرين لمئات السنين، وكان ذلك بفضل مبنى التكيّة ووقفيّتها الّتي أوقفتها أثيرة السلطان سليمان القانونيّ وزوجته روكسلانه. ولكي تستمرّ التكيّة في العمل على مدار السنوات؛ أوقفت عليها قرًى عدّة في فلسطين وخارجها، مثل اللد، بيت إكسا، كفر عانا، بيت لقيا، بئر معين، السافريّة، وغيرها من القرى الّتي وصلت إلى 29 قرية. وشملت على قرًى في لواء طرابلس. كان الهدف منها سدّ احتياجات التكيّة ومصاريفها والعاملين عليها، وقد جرى تشغيل العاملين المهرة والموظّفين المختصّين.

يتكوّن مبنى التكيّة الحاليّ من قاعة مطبخ لإعداد الشوربة وأصناف الطعام الأخرى، والقاعة تتألّف من بهو مغطّى بأقبية متقاطعة، جزء منه مغطّى بقبو مروحيّ تتوسّطه قبّة صغيرة فيها نوافذ، وفي الجزء الجنوبيّ مغطّى بأشكال مخروطيّة لعمليّة التهوية، وفي الجهة الغربيّة موقدان من الحجر، عليهما قدران نحاسيّان كبيران، كانا في ما مضى مخصّصان لإعداد الشوربة، ويتبع هذه القاعة غرف تقع في الجهة الشرقيّة، تُسْتخدَم مستودعًا لتخزين الموادّ التموينيّة والحبوب، وفرن خبز يقع في الجهة الشماليّة المقابلة لقاعة المطبخ.

 

جانب من نصّ الوقفيّة – المصدر: سجلّات «محكمة القدس الشرعيّة» خلال الفترة العثمانيّة، سجلّ رقم 270،15  من ذي القعدة سنة 1202 هج إلى 30 ربيع الثاني سنة 1204 هج، ص19-120.

 

الاطّلاع على جانب من نصّ وقفيّة التكيّة، يُظْهر بوضوح للعيان الألقاب الّتي تعكس قوّة السلطان سليمان القانونيّ، مثل وصفه "سلطان العرب والعجم والروم سلطان المشرقين"، وهي ألقاب تتشابه مع تلك المنقوشة أعلى أبواب المدينة القديمة، أو سور المدينة، وغيرها من التعميرات الّتي ترك القانونيّ من خلالها أثره في مدينة القدس؛ ممّا يجعل التكيّة من المشاريع الّتي تُضاف إلى إسهامات الإمبراطوريّة في تطوير المدينة وازدهارها العمرانيّ.

 

التكيّة ما بعد النكبة 

من الجوانب المثيرة في تاريخ التكيّة، ما حلّ بها بعد انتهاء حكم العثمانيّين في القدس، أولى المحطّات حول ذلك تبرز في وصف دور التكيّة في مواجهة الفقر، خلال سنوات الحرب العالميّة الأولى الّتي يزوّدنا بها توفيق أبو السعود، كما يلي: "كان فقراء القدس يذهبون كلّ يوم، يصطفّون في الطابور أمامها، لم يكن هناك تفرقة في تقديم الشوربة بين العائلات المسلمة والعائلات المسيحيّة. كان الطابور يمتدّ من باب الناظر[2] حتّى التكيّة. هذا وقد ساوى الجوع أيّام الحرب العالميّة الأولى بين الطبقات في القدس، والتكيّة تعطي الناس في القدس مسلمين كانوا أو مسيحيّين، طعامًا يبقيهم أحياء، وعائلات كثيرة لم يتعدّ ما يدخل بطونهم من طعام سوى شوربة التكيّة، الّتي كانت توزّع الطعام مجّانًا يوميًّا. وفي عام 1915 تقلّص توزيع الحصص إلى مرّة كلّ يومين، وفي عام 1917 أصبح مرّتين في الأسبوع. كان مأمور التسجيل في التكيّة أيّام الحرب، كان يطلب من الّذين يسجّلون، ألّا يرسلوا جواريهم أو عبيدهم أو خدمهم لتَسلُّم حصصهم؛ لأنّ الجواري والعبيد والخدم يشربون نصف كمّيّة الشوربة في الطريق[3]".      

إنّ الوصف الّذي قدّمه أبو السعود من النصوص القليلة الّتي وصلتنا حول التكيّة خلال سنوات الحرب، الّتي تعكس جوانب عدّة عن التكيّة، وعن مجتمع المدينة؛ فالتكيّة كانت ملاذ مختلف فئات المجتمع. ويعرّفنا النصّ باستمرار وجود العبيد والجواري في المدينة خلال سنوات الحرب، فضلًا على دورها في تشكيل هويّة سكّان المدينة، حيث جمعتهم ظروف الحرب على باب التكيّة.

عادة ما تُذْكَرُ التكيّة خلال شهر رمضان، ويعود ذلك إلى مدى تزايد نشاطها خلال الشهر مقارنة بباقي شهور السنة

 خلال سنوات الحكم الاستعماريّ البريطانيّ، استمرّت التكيّة في خدمة المدينة، وفي نفس الوقت كانت جزءًا من صراعات الإدارة البريطانيّة مع إدارة الأوقاف. بعد ما شهدته فلسطين في حرب سنة 1948، فقدت التكيّة الكثير من مصادرها الوقفيّة الّتي صُودِرت. ومع ذلك استمرّت بالعمل حتّى اليوم، وتُدار من خلال «دائرة الأوقاف الإسلاميّة». من المثير للاهتمام أنّه عادة ما تُذْكَرُ التكيّة خلال شهر رمضان، ويعود ذلك إلى مدى تزايد نشاطها خلال الشهر مقارنة بباقي شهور السنة؛ ففي رمضان يقصد المسلمون مدينة القدس من مختلف الأماكن، وهو ما يجعل التكيّة مكانًا للالتقاء الاجتماعيّ العفويّ. وإذا كان طعام التكيّة لا يقتصر على الفقراء بما تحمله الكلمة من معنى الحاجة والفقر، فلا تخلو المدينة من المعوزين والفقراء. وقد مرّت 500 سنة على إنشاء التكيّة الّتي كان من المفترض أن تقضي على الفقر، لكنّ الفقر يتزايد، في ما التكيّة تكاد تختفي.        

 


إحالات

[1] يوسف سعيد النتشة. ذكرياتي مع مجمّع خاصكي سلطان المعماريّ: العمارة العامرة، حوليّات القدس، العدد3، ربيع 2005، ص 1102-103.  

[2]  أحد أبواب المسجد الأقصى، يقع في الرواق الغربيّ من المسجد. 

[3] ولاء حلمي الشيوخي. القدس خلال الحرب العالميّة الأولى 1914-1918. رسالة دكتوراة، جامعة الخليل، ص87.

 


 

أحمد محمود

 

 

 

طالب دكتوراة في «قسم الدراسات الإسلاميّة والشرق أوسطيّة» في «الجامعة العبريّة»، مهتمّ بالتاريخ الاجتماعيّ للمدينة الفلسطينيّة من منظور الصحّة العامّة.