’صناعة المحتوى‘... المعرفة الّتي فقدناها في المعلومات

Christoph Hetzmannseder | Getty Images

 

ما إن وقع مصطلح ’صناعة المحتوى‘ تحت مقصلة الاستهلاك حتّى أصبح منتشرًا في كلّ جسم الإنترنت، وفي منصّات التواصل الاجتماعيّ، وقد اقتحم سوق العمل، وظهر لدى شركات ريادة الأعمال والمنصّات التجاريّة ومصمّمي الجرافيك. لم تكتفِ حمّى المحتوى بالظهور لدى الشركات الربحيّة، بل امتدّت للتغلغل في الإعلانات الشاغرة للمؤسّسات غير الربحيّة، حتّى أصبح هناك وظيفة كاملة تحت مسمّى «صانع محتوًى»، أمّا الأسوأ من ذلك فظهور مسابقات وجوائز تحتفي بـ ’أفضل صانع محتوًى‘.

تسلّلت متلازمة المحتوى إلى الحقل الثقافيّ أكثر فأكثر، حيث تذوّت المصطلح لدى أصحاب المجلّات والمنابر والمنصّات الإلكترونيّة، فأصبح اللهاث للبحث عن أشخاص يقدّمون معلوماتهم الثقافيّة بأسلوب ماتع وخلّاق من أهمّ مساعيهم البارزة، فأصبحنا نرى منصّات ومنابر تنفجر في ضخّ مقالات ومنشورات وفيديوهات عشوائيًّا، في وتيرة أسرع مِنْ أن يستوعبها ويتوقّف عندها العقل البشريّ.

 

طفيليّة تمتصّ بلاغة اللغة

تكفي طباعة عبارة ’صناعة محتوًى‘ على متصفّح البحث «جوجل»، حتّى تظهر عشرات النتائج عن ’كيفيّة‘ صناعة المحتوى، ثمّ إنّ العديد من النتائج تقدّم ’تسويق المحتوى‘ إلى جانب عبارة ’صناعة محتوًى‘ ضمن قائمة النتائج الأولى الّتي تظهر أمامك، لكنّ الأهمّ من ذلك أن لا أحد يجيب عن السؤال: "ما المحتوى؟"، أو "لماذا يجب أن نصنعه؟".

ما زال استخدام كلمة ’محتوًى‘ فضفاضًا، بل غامضًا، حيث يمكن لكلَّ شيء أن يدلّل على المحتوى، لكن في نفس الوقت لا نعرف ما المحتوى...

فما زال استخدام كلمة ’محتوًى‘ فضفاضًا، بل غامضًا، حيث يمكن لكلّ شيء أن يدلّل على المحتوى، لكن في نفس الوقت لا نعرف ما المحتوى؛ إذ يُسْتَخْدَم المحتوى للدلالة على المعلومة، أو التعليق على المعلومة أو الأغنية أو المقال الثقافيّ أو المسرحيّة؛ فحتّى في الوسط الثقافيّ والمعرفيّ أصبح استخدامها منتشرًا بشكل لم يَعُد مفهومًا ما المقصود فيها بالتحديد؛ بالتالي، إذا ما تساوى فيديو عن طريقة عقد ربطة العنق، أو نكتة عابرة، أو معلومة عن مرض معيّن، أو تفاعل شخص ما على مقولة أو شعور ما، أو أكلة معيّنة، تحت مسمّى ’محتوًى‘، إذن، لماذا لا نتوقّف عن قول الكلمة ونقول ما نودّ قوله مباشرة، وعندما نريد أن نطلب شيئًا ما، نحدّد الأشياء بمسمّياتها المباشرة كأن ندعو بشكل مباشر إلى كتابة مقال، أو تصوير فيديو، أو إنتاج بودكاست ما، على سبيل المثال؟

وعندما شاع محتوى تافه نتيجة للاستهلاك الهائل لهذه الكلمة، بِتْنا نلاحظ إضافة خفيفة إلى الاصطلاح، وهي طلب ’صناعة محتوًى هادف‘، لكن في الحين الّذي أوجبت فيه الضرورة تحديد أنّ المحتوى يأتي بنوع هادف ونوع غير هادف، يعود السؤال: "ما المحتوى؟". أمّا إذا أردنا التأمّل قليلًا في كلمة ’صناعة‘ فإنّها تقدّم مدلولًا على مادّة معيّنة تمرّ بعمليّات محدّدة، حتّى تتحوّل من حالتها الخامّ إلى أن تصبح مادّة ذات استخدام، وكذلك الحال بالنسبة إلى حرفة معيّنة لها مجالها وقواعدها التخصّصيّة وأساليب عملها، مثل الحدادة والنجارة، تمامًا مثل الخيميائيّ الّذي ينهمك في تحويل الذهب من الحالة الخامّ إلى ذهب.

إذن، يفترض استخدام مصطلح ’صناعة المحتوى‘ تبعًا لهذا المنطق عمليّة تحويل المعلومة، من معلومة خامّ لا فائدة منها إلى معرفة يُسْتَفاد منها، وبالتالي فإنّ الصناعة أيضًا تفترض التخصّصيّة في إتقان وظيفة ما، لكن عندما يكون المستخدِم غير متخصّص في صناعة المحتوى، ويتحوّل معظم مستخدمي الإنترنت إلى صانعي محتوًى، يتوجّب، إذن، التوقّف عند هذه الصناعة وانتقادها، ومساءلة نوع المعرفة الّتي تقدّمها.  

 

أزمة محتوًى

إذا كنتُ قد حاولت الإجابة عن المقصود في سؤال "ما المحتوى؟"، يفرض السؤال الثاني نفسه بشكل واضح: "لماذا يجب أن نصنع المحتوى؟".

منذ أن انفجرت المعلومات من الكتب، وتهجّرت الحضارات من رفوف المكتبات، ودُسَّت إلى الشاشات، ومنذ أن أصبح السفر وتعرّف الثقافات والأكلات التراثيّة هي نزعة المحتوى الجديد، انتقل هوس ضرورة خلق المحتوى إلى الشركات والأفراد سواء، وراحت عيون المديرين والرياديّين تلهث وراء صناعة محتوًى ’خلّاق وهادف‘ لجذب الجماهير. إنّ هذا الإلحاح بضرورة صناعة المحتوى، إلى درجة تصبح فيه الاستماتة إلى صناعة المحتوى مرضًا ينتشر في معظم خلايا الشبكة، يفرض تساؤلًا ملحًّا أيضًا: "هل أصبح عقلنا فارغًا إلى درجة تستدعي حشوه بمحتوًى؟".

يفترض هذا الضغط بوجوب صناعة المحتوى استخفافًا في عقل الفرد، وينتزع الشرعيّة من قدرة الإنسان على التفكير من أجل نفسه، وتحديد ما يستحقّ أن يعتبره محتوًى أو لا...

يفترض هذا الضغط بوجوب صناعة المحتوى استخفافًا في عقل الفرد، وينتزع الشرعيّة من قدرة الإنسان على التفكير من أجل نفسه، وتحديد ما يستحقّ أن يعتبره محتوًى أو لا، ثمّ إنّ المحاولات الحثيثة لإدخال مصطلحات إضافيّة مثل ’محتوًى هادف‘، أو ’محتوًى خلّاق‘ داخل لغة صناعة المحتوى، سريعًا ما دخلت تحت دائرة الاستهلاك، ولم تفلح في الكثير من الأحيان من إنتاج محتوًى خلّاق أو هادف بالفعل، فإدخالها لم يلغِ منطق اصطلاح ’صناعة المحتوى‘، بل على العكس أكّد عدم جدواه.

بالتالي، إنّ المحتوى الّذي يجب أن يُقَدَّم على وسائل التواصل الاجتماعيّ، من شأنه إضافة شيء جديد إلى المعرفة والفكر، وإن كان قد طُلِب من الأدباء والروائيّين والكتّاب صناعة كتبهم فلا أعتقد أنّهم سيُلبّون النداء، فهل ناشد يومًا محمود درويش دور النشر واستحلفهم لينشروا كتبه، أو شكسبير وجين أوستن لكي تُنْشَر موادّها؟ فإذا لم يوجد لدى ’الصانع‘ شيء ليقوله فلا داعي إلى قوله ببساطة؛ فصناعة المحتوى تصبح آنذاك بلا معنًى.

 

هل نصنع المحتوى على أيّ حال؟

إنّ التعمّق في فهم انتشار ظاهرة صناعة المحتوى، يستدعي فهم الأدوات الّتي ساهمت في نشرها، أي منصّات التواصل الاجتماعيّ ومنطقها الرأسماليّ، وبالتالي لا يمكن فهم انتشار مصطلح ’صناعة المحتوى‘ بمعزل عن الاقتصاد السياسيّ لمنصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ، بوصفها منافذ جديدة للرأسماليّة، ومنصّات مصمّمة للربح لا لنشر المعرفة. تخدم ممارسة اللغة التسويقيّة  غايات الرأسماليّة من هذه المنصّات، وفي هذا الشأن، من المهمّ فهم البنية التحتيّة لمنصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ لفهم كيفيّة عملها. 

إذا ما كانت الدراسة التقليديّة للإعلام تركّز على دراسة النصوص بمرحلتها النهائيّة، فإنّ الاقتصاد السياسيّ للإعلام جاء حقلًا أوسع لدراسة الإعلام من منظور شموليّ أكثر؛ ليتعمّق في دراسة العمليّة الكاملة للإنتاج الإعلاميّ، الّتي تشمل عمليّة الإنتاج والنشر والاستهلاك، بطريقة تركّز على علاقات القوّة الّتي تتحكّم في هذه العمليّات. يؤكّد ذلك فينسنت موسكو، أحد أهمّ منظّري هذا التوجّه، في كتابه «الاقتصاد السياسيّ للإعلام» (2009)[1]، فيقول إنّ "مَنْ يمتلك وسائل الإعلام يستطيع التحكّم في الأيديولوجيا الّتي يريد أن يصدّرها للمستهلك؛ وبالتالي التحكّم في المحتوى الّذي سيُسْتَهْلَك".

إذن، يدرس هذا الحقل مسار تدفّق المعلومات، بدءًا من الجهة المنتجة للمعلومات، وصولًا إلى كيفيّة تنظيمها، ونوع المحتوى الّذي تتحكّم هذه الجهات في أن يصل أو أن يُحْجَب عن الجمهور، وبالتالي إذا ما كانت العقليّة الاستهلاكيّة هي الّتي تتحكّم في شركات الإعلام الكبرى، يصبح الاستهلاك هو المبتغى النهائيّ لسوق الإعلام، بغضّ النظر عن المحتوى الّذي يُنْتَج.  

يتقاطع ذلك مع ما يطرحه المفكّر والمنظّر في حقل الإعلام الجماهيريّ مارشال ماكلوان، في مقولته الشهيرة "الوسيط هو الرسالة" (The Medium is the Message)، حيث يَخلص ماكلوان في كتاباته إلى أنّ المحتوى الّذي يُقَدَّم من خلال أيّ وسيط إعلاميّ محكوم بطبيعة شكل هذا الوسيط. يشرح ماكلوان في محاضرة له على قناة التلفزيون الأستراليّ -ABC National Network  - في عام 1977، أنّ بيئة الوسيط هي الّتي تُحَتّم محتوى الرسالة الّتي تُقَدَّم للجمهور المتلقّي؛ فيضرب مثلًا في الهاتف قائلًا إنّ البيئة الّتي تقدّمها خدمة الهاتف، تُحَتِّم نوع الرسالة المقدّمة، الّتي تختلف عن نوع الرسالة الّتي ستُقَدَّم من خلال أيّ وسيط آخر، حيث إنّ الرسائل الّتي يمكن تمريرها عبر وسيط الهاتف، لا يمكن مناقشتها عبر وسيط آخر مثل وسائل التواصل الاجتماعيّ على سبيل المثال، فالملامح الّتي تسمح بها منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ، مثل التعليق والإعجاب والمنشور السريع والفيديو والصور المحدودة، منوطة بنوع محتوًى مرتبط بهذا الوسيط.

 

 

في هذا الشأن، يَخلص ماكلوان إلى أنّ البيئة الخدماتيّة المحيطة بالوسيط، هي الّتي تتحكّم في نوع المحتوى الّذي يُقَدَّم، وبالتالي لا تُعَدّ من المهمّ ماهيّة المحتوى المقدَّم من خلال هذا الوسيط، بقدر ما يصبح الوسيط في حدّ ذاته هو المهمّ. إنّ هذا الشرح يجعلنا نفهم لماذا يخرج الكثير من المحتوى بلا معنًى على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وذلك لأنّ البيئة الخدماتيّة المحيطة بهذا المحتوى ترغب في تقديم وعي جديد للمستهلك، ألا وهي نشر عقليّة الاستهلاك، وليس المساهمة في إنتاج المعرفة.

بنفس هذا المنطق، لو عدنا بضعة قرون في التاريخ؛ أي إلى بدايات تطوّر الوسائط التكنولوجيّة في عصر التنوير، وإدخال تكنولوجيا المطابع على عالم المكتبات، لوجدنا أنّ دخول وسيط المطبعة على المكتبة أثّر في نوع المحتوى المقدَّم في الكتب والمعرفة المستهلكة بطبيعة الحال. كتب الراهب الإيطاليّ فيليبو دي ستراتا في عام 1474 بيانًا احتجاجيًّا ضدّ إدخال تكنولوجيا النشر إلى مدينة البندقيّة، وهي أوّل سنة يتعرّف فيها العامّة على تكنولوجيا النشر. يقول دي ستراتا في اقتباس لبيانه "الكتابة، الّتي تقدّم لنا الذهب، يجب أن تُحْتَرَم، وأن تُعْلى بمراتب أسمى من جميع الصالحات، إلّا إذا قُلِّل من شأنها في حانات دور النشر".

عارض دي ستراتا إدخال تكنولوجيا الطباعة والنشر إلى المدينة، لاعتقاده أنّ إتاحة المعرفة لدى العامّة ستؤثّر في جودة المعرفة الّتي ستُقَدَّم. يكشف دي ستراتا أنّ الطباعة تجعل المعرفة، الّتي تتطلّب الكثير من الجهد والوقت، متاحة بسهولة لجميع الناس، ممّا يؤدّي إلى الكسل في السعي وراء المعلومة، حيث تأتي المعرفة للمواطن على عتبة داره، بدلًا من أن يصقل ملَكته ويساهم هو أيضًا في إنتاج المعرفة.

يعلّق دي ستراتا ساخرًا على إدخال هذه التكنولوجيا الهجينة إلى مدينته: "أيّها المواطن الصالح، ابتهج، مدينتك محشوّة بالكتب، فهناك مجموعة صغيرة من الرجال قرّرت أن تصبح طبيبًا في ثلاث سنوات، وذلك بفضل المطابع"، لكنّني أقدّم لك أغنية مختلفة: "دور النشر تقدّم لنا مدينة من غير مال ومن غير قلب، وإذا كنت من الأشخاص الّذين يتوقّعون أن يأتيهم نور من العتمة، إذن، فسيأتيك هذا النور من الكتب المطبوعة". رأى دي ستراتا في الكتب المطبوعة بداية لاختزال المعرفة، فضرب مثلًا في علم الطبّ، وتعجّب من اختصار المعرفة اللازمة للبراعة في هذا المجال إلى سنوات قليلة، وارتأى دي ستراتا أنّ الكتب المطبوعة هي بداية الطريق لنشر العتمة، وليس التنوير والبحث في المعرفة الواسعة والعميقة، فبدلًا من أن تُبْنى معرفة الكتاب إثر ليالٍ من البحث؛ لتتشكّل صفحات الكتاب معلومة فوق معلومة، ويُحْبَك الكتاب خيطًا فوق خيط؛ ليقدّم النور إلى العالم، سيصبح الكتاب متوفّرًا لدى الجميع".

ربّما ننظر الآن بعد قرون عدّة باستهجان إلى ردّة فعل دي ستراتا، فنحن نحصل على معرفتنا اليوم من الكتب المطبوعة في دور النشر، إلّا أنّ موقف دي ستراتا يطرح تساؤلًا مشروعًا: هل إذا ما توافرت الأداة، أي مطابع دور النشر، تتقدّم المعرفة؟ وفي مقاربة لهذا السؤال، يمكننا أيضًا السؤال: هل إذا ما توافرت الأداة، أي المنصّة، تتقدّم المعرفة؟ هل إذا أعطتنا المنصّة حائطًا لنكتب عليه، نتقيّأ كلّ المعلومات لمجرّد ملء الحائط؟ قد لا توجد إجابة حتميّة لهذه الأسئلة، إلّا أنّها أسئلة مشروعة إذا ما نظرنا إلى كمّيّة الكتب الّتي تُنْشَر في سياق وفرة دور النشر الّتي تبيح منطق استسهال المعرفة، ونشر أيّ شيء، وإذا ما نظرنا في منطق موازٍ إلى كمّيّة المحتوى الّذي من شأنه أن يعيش على منصّات الإعلام الرقميّ.

 

ماذا نفعل بكلّ هذا المحتوى؟

نحن نستهلك الكثير من المعلومات في وقت قصير، فوفقًا لمقال نُشِر في المنصّة البحثيّة الشهيرة «فرونتير» في عام 2017؛ فإنّ عقل الإنسان العاديّ يستهلك 74 جيجا بايت من المعلومات في اليوم الواحد، وهو ما يعادل 16 فيلمًا سينمائيًّا، بحيث يتزايد هذا المعدّل بنسبة 5% في كلّ عام، ويُعْتَبَر هذا المعدّل - أي 74 جيجا بايت - ما استهلكه الإنسان العاديّ قبل 500 عام، طوال فترة حياته، وليس في اليوم الواحد فقط.

يطرح هذا الانكشاف اللامتناهي من المعلومات تساؤلًا ملحًّا: هل إذا ما زدنا كمّيّة المعلومات الّتي نتعرّض لها في وقت أقلّ تزيد نسبة المعرفة لدينا؟

يتناول الكاتب رائد وحش في مقال له على موقع «ألترا صوت» موضوع ضخّ المعلومات الكثيف على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ويردّ على هذا السؤال بقوله: "لا يمكن بناء المعرفة بالمعلومات فحسب، بل بالأفكار في سياق عقلانيّ. المعلومات نثار وشظايا، لا يمكن أن تتّخذ معنًى دون سياق، وهذا بالضبط ما نسمّيه الفكر". يَخلص وحش إلى الضرورة الملحّة للسياق من أجل فهم الأمور والتوصّل إلى المعرفة؛ إذ إنّنا نعيش في معارف منعزلة ومجزَّأة، حيث تُخَزَّن شظايا المعلومات في قنوات منصّات تواصل منعزلة، تخلو من السياقات أو الأطر المعرفيّة، فلا تفهم شيئًا منها.

يعرف تلميذ المعرفة في قرارة نفسه أنّ انفجار «صندوق باندورا» بالمعارف، لا يجعل الوصول إلى المعرفة أقرب...

تعيش المعرفة عبر الزمن وتُبْنَى في التطوّر المعرفيّ التراكميّ في السياقات التاريخيّة، بحيث لا تجد المعرفة طريقًا مختصرًا لها، ولا يمكن التحايل عليها حتّى مع تقدّم عصرنا وتطوّر أدواتنا. يذكّر ذلك بما أسلف الراهب دي ستراتا، حيث لا يوجد قدرة لعقلنا بأن يختصر الطبابة في ثلاث سنوات، أو أن يختزل العلوم في مخازن السرعة، وبالتالي يتوجّب علينا أن نسلك في مسار خطى أسلافنا، وأن نخوض طريق المعرفة الصعب والشاقّ؛ لكي نتوصّل إلى سبل المعرفة الحقّة.

يعرف تلميذ المعرفة في قرارة نفسه أنّ انفجار «صندوق باندورا» بالمعارف، لا يجعل الوصول إلى المعرفة أقرب، وأن ليس كلّ دورة لتطوير الذات أو تعلّم مهارة جديدة هي طريق لمعرفة جديدة؛ فهو يعرف أنّ منجم المعرفة يحتاج إلى الكثير من النحت للوصول إلى زبدة المعرفة.

 

المعرفة الّتي فقدناها

على اللغة أن تكون مرنة ومتكيّفة مع المتغيّرات المحيطة بها، والأهمّ من ذلك يجب أن تكون متجدّدة، فحينما تُسْتَهْلَك كلمة ما إلى حدّ أن تفقد معناها، ربّما يحين الوقت إلى أن تعود إلى سباتها في القاموس؛ لكي تفسح المجال لإنتاج معانٍ جديدة، بل الأهمّ خطاب معرفيّ وتحرّريّ من الخطاب القائم؛ فالإشكال لا يتوقّف عند كونه لغويًّا؛ إذ إنّ استهلاك هذا المصطلح حتّى في كلّ السياقات الثقافيّة المعرفيّة والمؤتمرات العلميّة، يطرح تساؤلًا ملحًّا حول إذا ما كان هذا التداول اللامتناهي من المصطلح يساهم في إنتاج منطق جديد، أو أيديولوجيا معرفيّة جديدة في حدّ ذاتها.

في كتابه «نقد الاقتصاد السياسيّ للإشارة» (1972)، يَخلص الفيلسوف جان بودريار إلى أنّ ‘فِتِشْ‘ الاستهلاك ليس مرتبطًا باستهلاك السلعة، بقدر ما هو مرتبط باستهلاك النظام المحيط بالسلعة. في تحليله لارتباط ‘الفِتِشْ‘ بالأيديولوجيا، يصف بودريار ’الفِتِشْ‘ قائلًا: "الفِتِشْ هو لعبة الإشارات"[2]، بحيث تمارس السلع حالة ‘الفِتِشْ‘ من خلال عملها في منظومة الاستهلاك رموزًا وإشارات تسبّب الدهشة، وليس أشياء تحمل قيمة وظيفيّة ما، فمثلًا تمارس ’السيّارة‘ حالة ’الفِتِشْ‘ من خلال الدهشة الّتي تسبّبها سلعةً متداولة في السوق، وليس من خلال وظيفتها مركبة نقل. بالتالي؛ لا يأخذ ’الفِتِشْ‘ معناه من القيمة الوظيفيّة المشار إليها في الشيء، بل من دلالته الرمزيّة، وعلى حدّ تعبير بودريار "إنّه الشغف نحو الشيفرة، الّذي يتجلّى في ممارسة ’الفِتِشْ‘ وليس الشغف للشيء نفسه".  

يَخلص بودريار إلى أنّه بمجرّد استهلاكنا للشيفرة نعيد إنتاج النظام، وبالتالي فإنّ استهلاك ’الفِتِشْ‘ اللغويّ يؤدّي إلى إعادة إنتاج النظام الرأسماليّ وتكريسه، وفي الوقت الّذي فيه يكون استهلاك مصطلح ’صناعة المحتوى‘ إلى حدّ دخل فيها إلى دائرة ’الفِتِشْ‘، يصبح المستهلَك ليس فقط مصطلح ’صناعة المحتوى‘، بل منطق المصطلح؛ المنطق الّذي يدّعي أنّ ثمّة حاجة إلى الصناعة حتّى تستمرّ عجلة الاستهلاك. إنّ الأخطر في دائرة الاستهلاك هذه هو التغلغل؛ فقد تغلغل المصطلح عميقًا في الطبقة الأولى من الوعي، حيث تعدّى ممارسة اللفظ سياق الإعلام الرقميّ ليخترق الحقول المهنيّة، حتّى الحقول الأكاديميّة والثقافيّة ليتسلّل إلى لغة المثقّف أيضًا، ويؤثّر في مبناها.

إنّ استهلاك المصطلح لا يخدم فقط أيديولوجيا الرأسماليّة ويكرّس لها، بل يوحي بإنتاج معرفيّ زائف، حيث يتوجّب على اللغة أوّلًا أن تكون نقديّة وتحرّريّة لتبني معرفة وفكرًا حقيقيًّا، ولها القدرة على مجابهة الأيديولوجيّة المهيمنة، لا أن تصنع أيديولوجيّة استهلاكيّة تعمل بمنزلة ظلّ وامتداد للأيديولوجيّة القائمة - أي الرأسماليّة - ولا تساهم في تمييع المعرفة، واختزال الإنتاج المعرفيّ في معرفة سطحيّة لا تساهم في إنتاج مذاهب فكريّة ذات قيمة عالية. لقد أصبح لدينا ما يوحي بالمعرفة لا المعرفة في حدّ ذاتها، إن صحّ التعبير.

استهلاك المصطلح لا يخدم فقط أيديولوجيا الرأسماليّة ويكرّس لها، بل يوحي بإنتاج معرفيّ زائف، حيث يتوجّب على اللغة أوّلًا أن تكون نقديّة وتحرّريّة لتبني معرفة وفكرًا حقيقيًّا...

في مسرحيّة «الصخرة»، من أعمال الشاعر الأسكتلنديّ تي إس إليوت في عام 1934، يضع إليوت إصبعه على جوهر المشكلة حينما يسأل "أين الحكمة الّتي فقدناها في المعرفة؟ أين المعرفة الّتي فقدناها في المعلومات؟". يطرح الشاعر تساؤلًا عميقًا عن أثر الثورة التكنولوجيّة في نوعيّة الحياة الّتي يعيشها الناس، وخاصّة عن انزياح الناس عن المعرفة. يدّعي إليوت أنّ معرفتنا اليوم هي كشف عن معارف السطح لا العمق، فيقول "أصبح لدينا معرفة بالحركة وليس الثبات؛ معرفة بالكلام وليس في الصمت؛ معرفة بالكلمات وجهل في الكلمة".

يفضي هذا الادّعاء إلى الانزياح عن الضرورة، والتوجّه نحو القشور في تدرّج سؤال "الحكمة – المعرفة – المعلومات"، حينما يسأل "أين الحكمة الّتي فقدناها في المعرفة؟"، وذلك للدلالة على انغماسنا في البحث عن المعرفة، والابتعاد عن المعنى الموجود في الحكمة. يكمل إليوت تساؤله حينما يعاود السؤال "أين المعرفة الّتي فقدناها في المعلومات؟"، وذلك للدلالة على التراجع حتّى في سعيِنا إلى الوصول إلى المعرفة، فأصبحنا نهتمّ بالوصول إلى العنصر الأصغر؛ ألا وهو المعلومة.

يطرح إليوت أنّنا في إبحارنا في رحلة التطوّر الصناعيّ والتكنولوجيّ، انشغلنا في تكبير الصورة الّتي تقدّمها الحكمة، ورحنا ننغمس في الحَفر في تفاصيل المعرفة، ولمّا لم يعد ذلك مجديًا، حفرنا أعمق في الصورة، ورحنا إلى أصغر عناصر الحكمة، حتّى وصلنا إلى المعلومات، حيث أصبح الغبش سيّد الصورة، وفقدنا بصيرتنا نحو الحكمة.

 


 

[1] Mosco, V. The Political Economy of Communication. (Los Angeles: SAGE, 2009).

[2] Baudrillard, J. For a critique of the political economy of the sign. (London: Verso, 2019).

 


 

ريم شريدة

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة، حاصلة على الماجستير في الإعلام، مهتمّة بالبحث في أثر وسائل التواصل الاجتماعيّ في السلوك الإنسانيّ، وفي الثقافة الفلسطينيّة.