العربيّة لمواجهة الأسرلة وبناء الجماعة

القدس، وكالة الأناضول | Getty Images

 

ترتبط اللغة العربيّة فلسطينيًّا بالسياق الإسرائيليّ، وتشكّل حالة خاصّة باعتبارها مركّبًا أساسيًّا من مركّبات الهويّة العربيّة-الفلسطينيّة المستعمَرة، وهذا ما رمى إليه الشاعر محمود درويش في قصيدته «قافية من أجل المعلّقات»، حين عبّر عن اتّحاده التامّ بلغته وعدم انفصاله عنها، باعتبارها جزءًا من هويّته الوطنيّة القوميّة والدينيّة؛ مؤكّدًا: "أنا لغتي أنا".

إنّ الحفاظ على اللغة العربيّة والنهوض بها في الأراضي المحتلّة عام 1948، يُعْتبَر شكلًا من أشكال الحفاظ على الهويّة الفرديّة والجماعيّة، من جهة، ويعيق هذا الحفاظ عمليّة الأسرلة، ويحول دون اندماج (Assimilation) الجماعة العربيّة-الفلسطينيّة الأصلانيّة في المجتمع الاستعماريّ الإسرائيليّ، من جهة أخرى.


اللغة ومكانة متحدّثيها

تتأثّر اللغة، أيًّا كانت، بوصفها نظامًا مفتوحًا (Open System) بأوضاع متحدّثيها وتؤثّر فيهم؛ تزدهر بازدهارهم وتضعف بتقهقرهم. هذا ما يشكّل تفسيرًا، ولو جزئيًّا، لتراجع مكانة اللغة العربيّة في الوقت الراهن، بعد أن وصلت إلى قمّة ازدهارها في عصور الخلافة الإسلاميّة، لا سيّما في الحقبة الذهبيّة من العصر العبّاسيّ، عندما كانت دولة الخلافة في أوج ازدهارها وتوسّعها. أمّا في الوقت الراهن، فإنّ الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة القاسية، في الدول الناطقة بالعربيّة عامّة، أثّرت سلبًا في مكانة العربيّة.

تتأثّر اللغة، أيًّا كانت، بوصفها نظامًا مفتوحًا بأوضاع متحدّثيها وتؤثّر فيهم؛ تزدهر بازدهارهم وتضعف بتقهقرهم...

 عانى أبناء الشعب الفلسطينيّ ظروفًا تاريخيّة قاسية وحادّة، ابتداءً من النكبة في عام 1948، ومرورًا بنكبات "ما بعد النكبة"، المتمثّلة بالاستعمار والتمييز العنصريّ ضدّ الجماعة العربيّة-الفلسطينيّة في أراضي 48 على مستوى مؤسّسات الدولة الاستعماريّة، حيث جرى تهميش اللغة العربيّة وإضعافها، ثمّ إلغاء مكانتها الرسميّة وفق «قانون القوميّة» عام 2018. إضافة إلى ما يعانيه المجتمع الفلسطينيّ في أراضي 48 من آفة العنف المتفاقمة والمدمّرة للنسيج المجتمعيّ وغياب حلول جدّيّة وجذريّة.

 

الأمن أوّلًا ثمّ الذات 

يمكن لنظريّة «هرم الاحتياجات الإنسانيّة» لماسلو[1] أن تقدّم تفسيرًا لحال اللغة العربيّة في أراضي 48؛ إذ تنصّ هذه النظريّة على أنّ الإنسان يتصرّف وفقًا لاحتياجاته المتدرّجة، من الأكثر أهمّيّة (ابتداء من الحاجات الفسيولوجيّة ثمّ حاجات الأمان)، وصولًا إلى الاحتياجات الأقلّ أهمّيّة وإلحاحًا (الحاجة إلى التقدير وتحقيق الذات). ورغم أنّ هذه النظريّة تتناول احتياجات الإنسان في المستوى الفرديّ، إلّا أنّها قادرة على تفسير الاحتياجات الجماعيّة أيضًا. وجود الجماعة العربيّة-الفلسطينيّة في أراضي 48 في وضع سياسيّ قانونيّ "أقلّياتيّ"، حيث تفتقد فيه أدنى مستويات الأمن والأمان، يؤدّي إلى إهمال قضايا ثقافيّة أو هويّاتيّة متعلّقة بتحقيق الذات الجماعيّة وتقديرها، مثل الحاجة إلى تعزيز الانتماء إلى الهويّة العربيّة-الفلسطينيّة بمركّباتها المختلفة.

تواجه اللغة العربيّة في أراضي 48 العديد من التحدّيات، أبرزها ما يمكن وصفه بتراخي الإحساس بالانتماء إلى اللغة والاعتزاز بها مركّبَ هويّة جماعيّة من قِبَل بعض متحدّثيها، والتعامل معها من منطلقات أدائيّة خدماتيّة، لا ثقافيّة رمزيّة عاطفيّة؛ وبما أنّ اللغة العبريّة هي المهيمنة في جميع مجالات الحياة في النظام الإسرائيليّ، فإنّ الدافعيّة لتعلّمها وإتقانها لدى العديد من الطلّاب الفلسطينيّين المستعمَرين كبيرة، تفوق في كثير من الأحيان دافعيّتهم لتعلّم لغتهم الأمّ وإتقانها.

تواجه اللغة العربيّة في أراضي الـ 48 العديد من التحدّيات، أبرزها ما يمكن وصفه بتراخي الإحساس بالانتماء إلى اللغة والاعتزاز بها مركّبَ هويّة جماعيّة...

يُضاف إلى ذلك إقصاء العربيّة في المشهد اللغويّ الاستعماريّ (Linguistic Landscape)، وفي المؤسّسات الاستعماريّة العامّة، والسياسات الاستعماريّة الممنهجة، لصالح تعزيز مكانة اللغة العبريّة على حساب العربيّة، وما ينتج عن ذلك من ظاهرة العبرنة، الّتي أنتجت لدى متحدّثي العربيّة مزيجًا لغويًّا هجينًا من العربيّة والعبريّة، علاوة على ظاهرة العولمة، وحضور اللغة الإنجليزيّة بقوّة في مجالات الحياة المختلفة، ولا سيّما في المجال التكنولوجيّ.

 

دور اللغة الأمّ في تعلّم اللغات 

في الجانب التعليميّ، من الملاحظ أنّ الطلّاب الفلسطينيّين تواجههم صعوبات كبيرة في إتقان اللغة العربيّة، وخير دليل على ذلك تحصيلهم المتدنّي في الامتحانات الدوليّة، مثل امتحان «بيرلز»، الّذي يقيس كفاءة الطلّاب في لغتهم الأمّ؛ فقد أظهرت نتائج هذا الامتحان تراجعًا في أداء الطلّاب الفلسطينيّين (461) مقارنةً بأدائهم في عام 2016 (454)، بالإضافة إلى الفجوة الكبيرة بين تحصيلهم مقارنةً بتحصيل الطلّاب الإسرائيليّين في مجال اللغة العبريّة (529). ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ ضعف الكفاءة اللغويّة في اللغة العربيّة موجود أيضًا عند المعلّمين الفلسطينيّين بنسب متفاوتة، من ضمنهم معلّمو العربيّة.

ومن الجدير ذكره في هذا المجال وجود خطط تربويّة وزاريّة، تهدف إلى تطوير كفاءة الطلّاب الفلسطينيّين باللغتين العبريّة والإنجليزيّة؛ بدافع ضمان اندماجهم الناجع في سوق العمل والتعليم الأكاديميّ الإسرائيليّ. أذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، برنامج «العبريّة في التسلسل» (עברית על הרצף) بمبادرة بينت (בנט)؛ وزير التربية والتعليم الإسرائيليّ سابقًا، الّذي ينصّ على زيادة ساعات تعليم العبريّة في المدارس العربيّة، والابتداء بتعليم العبريّة من الروضة.

تغفل هذه السياسات الاستعماريّة أنّ تعليم اللغات الأخرى في جيل مبكّر يؤثّر سلبًا في اكتساب اللغة الأمّ وإتقانها، وينتج عن ذلك ضعف الطلّاب في جميع المواضيع الأخرى، من ضمنها اللغات، وذلك لأنّ الإنسان يفكّر بلغته الأمّ، وفي حال ضعفه في هذه اللغة يضعف فكره. من هنا؛ فإنّ الكفاءة العالية بلغة الأمّ تقود إلى سلاسة اكتساب اللغات الأخرى. وفي حالة الطلّاب الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة عام 1948، يُضاف إلى ذلك تحدّي الازدواجيّة اللغويّة في اللغة العربيّة؛ أي وجود منظومتين لغويّتين مختلفتين: اللغة المحكيّة (Spoken Arabic)، الّتي يكتسبها الطفل في حياته اليوميّة وفي أعوامه الأولى، واللغة المعياريّة (Standard Arabic)، الّتي ينكشف عليها في الأعوام الأولى فقط من تعليمه الابتدائيّ؛ ممّا يشكّل صعوبة في إتقانها في هذه الأعوام الحرجة، فكم حريٌّ لو أضفنا إليها اللغتين العبريّة والإنجليزيّة! 

 

المسؤوليّة الجماعيّة

لا بدّ من الإشارة إلى حلول مقترحة لتعزيز مكانة العربيّة والنهوض بها في المجتمع الفلسطينيّ في أراضي 48، وأقتصر في تقديم الحلول على تلك المتعلّقة بدور أبناء المجتمع الفلسطينيّ في هذه النهضة، وبمسؤوليّتهم تجاه لغتهم. ورغم أنّ التغيير المجتمعيّ، أيًّا كان، يحتاج إلى خطّة شموليّة تسير في اتّجاهين في آنٍ واحد: من الأعلى إلى الأسفل (Top-Down)؛ أي من حكومة ما إلى الفرد، وبالعكس، من الأسفل إلى الأعلى (Bottom-Up)؛ فإنّ التغيير الأقوى والأكثر تأثيرًا هو الّذي يبدأ من الفرد (أو مجموعة الأفراد)، ولأنّ من غير الممكن التعويل على الأنظمة الاستعماريّة عمومًا، وفي حالتنا النظام الإسرائيليّ، حيث تتّجه إداراته بخطًى ثابتة نحو مزيد من اليمينيّة؛ فلا بدّ من توجيه هذه المقترحات إلى أبناء المجتمع الفلسطينيّ.

التغيير المجتمعيّ، أيًّا كان، يحتاج إلى خطّة شموليّة تسير في اتّجاهين في آنٍ واحد: من الأعلى إلى الأسفل (Top-Down)؛ أي من حكومة ما إلى الفرد، وبالعكس، من الأسفل إلى الأعلى (Bottom-Up)...

أمّا الحلول المقترحة، فهي، أوّلًا، بثّ الوعي بضرورة الحفاظ على اللغة العربيّة، وتحسين المواقف الإيجابيّة تجاهها، ويتضمّن ذلك الإحساس بالمسؤوليّة الفرديّة والجماعيّة تجاه اللغة، وضرورة الحفاظ عليها نقيّة (Pure Language)؛ للتخلّص من ظاهرة العبرنة الاستعماريّة. ثانيًا، تعزيز حضور العربيّة في المشهد اللغويّ، ووضع آليّات وإستراتيجيّات تعليميّة بيداغوجيّة وديداكتيكيّة لزيادة كفاءة الطلّاب والمعلّمين الفلسطينيّين باللغة العربيّة. ولبلوغ هذا الهدف، يجب أن تتضافر جميع الجهات والمؤسّسات الفلسطينيّة، ابتداء من المؤسّسة الأسريّة، فالمدرسيّة، ثمّ المجالس المحلّيّة، والكلّيّات العربيّة، والجمعيّات، وغيرها. 

كما لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة كفّ المدارس العربيّة عن إنتاج العلامات وتقييم الطالب بدرجات رقميّة، وفي المقابل عليها تعزيز البناء القيميّ، وتعزيز حضور الثقافة العربيّة-الفلسطينيّة، بمركّباتها المختلفة، وتعزيز الانتماء إليها، إلى جانب تعزيز شخصيّة الطالب ومهاراته الاجتماعيّة-العاطفيّة (SEL-Social Emotional Learning)، ومهارات التفكير العليا (HOTS-High Order Thinking Skills). وقد يشكّل هذا المقترح حلًّا، ولو جزئيًّا، لآفة العنف، إلى جانب تعزيز العربيّة.

ليس في هذه المقترحات دعوة إلى الانغلاق وعدم تعلّم اللغات الأخرى، على العكس، فمن الضروريّ تطوير الوعي للتعدّديّة اللغويّة والثقافيّة لدى الطلّاب، وحثّهم على إتقان اللغات الأخرى، شرط ألّا يكون ذلك على حساب إتقان اللغة الأمّ الأصليّة.

 


إحالات

[1] Maslow, A. H.  Motivation and personality. (New York: Harper and Row, 1954).

 


 

آثار حاجّ يحيى

       

 

باحثة، محاضرة ومرشدة تربويّة في «المعهد الأكاديميّ العربيّ - بيت بيرل»، ومركّزة التوظيف في سنة التخصّص (ستاج) في المعهد. نشرت العديد من المقالات والأبحاث الأكاديميّة الّتي تتمحور حول الأدب العربيّ الحديث، وتدريس اللغة العربيّة، وعلوم اللغة الاجتماعيّة.