حمار ابن رشد في معرض الكتاب

من «معرض الدوحة الدوليّ للكتاب» (2023) | Getty Images

 

يوتوبيا وهيتروتوبيا فوكو

يقترح المفكّر الفرنسيّ ميشيل فوكو في ورقة قصيرة عن الفضاء الاجتماعيّ وأنواعه[1]، أنّنا نعيش في فضاء غير متجانس، يتكوّن من مجموعة من العلاقات المتداخلة الّتي تحدّد المواقع الّتي لا يمكن أن تختصر بعضها بعضًا، ولا أن تتراكب فوق بعضها بعضًا، فهي مواقع مختلفة ومتداخلة، ويجمعها فضاء من العلاقات الّتي نعيش فيها. وبالرغم من إمكانيّة تصنيف هذه المواقع وفقًا لطبيعة العلاقات الّتي تجمعها؛ كأن نقول إنّها أماكن للتسلية أو أماكن مخصّصة للنقل أو غيرها، لكن ثمّة تصنيفان قادران على الارتباط بهذه المواقع جميعًا، وهما اليوتوبيا والهيتروتوبيا، حسب فوكو.

تشتمل اليوتوبيا على مواقع لأماكن غير حقيقيّة، أماكن تعكس المجتمع بحالته المثاليّة أو بحالة فوضى عارمة. لكن بجميع الأحوال، هي أماكن غير حقيقيّة[2]. على الجانب الآخر، يوجد أماكن حقيقيّة، قادرة على تقديم أماكن أخرى. هي أماكن خارجة عن المكان، حتّى لو استطعنا تحديد موقعها بالواقع، لكنّها أمكنة مختلفة عن الأماكن الّتي تعكسها ضمنها وتتحدّث عنها، وهي الهيتروتوبيا.

تشتمل اليوتوبيا على مواقع لأماكن غير حقيقيّة، أماكن تعكس المجتمع بحالته المثاليّة أو بحالة فوضى عارمة. لكن بجميع الأحوال، هي أماكن غير حقيقيّة...

يعطينا فوكو المرآة مثالًا لنفهم هذه الأماكن أكثر؛ فالمرآة تعكس الصورة الحقيقيّة للّذي يقف أمامها، ويتكوّن داخلها عالم غير حقيقيّ فيه شخص غير موجود وموجود في آن واحد. لكنّ المرآة في حدّ ذاتها موجودة في اللحظة نفسها في المكان ذاته. ومن هذا التعريف المختزل يمكننا التفكير في الهيتروتوبيا أو المكان المختلف عن الأماكن الّتي يعكسها من داخله، بأنّه المكان الّذي لا ينطبق على ذاته تمامًا - أستعير هذه الاستعارة من جاك دريدا. وقد وضع فوكو عددًا من المبادئ الّتي تحدّ ويشترط وجودها في الهيتروتوبيا، وقدّم أمثلة أخرى، مثل المدارس التأهيليّة الداخليّة، أو مصحّات المرضى، والمسرح، وأخيرًا المتحف، والمكتبة. وقد وصف الأخيرتين، بكونهما هيتروتوبيا الحضارة الغربيّة في القرن التاسع عشر. الأماكن الّتي تجمع وتؤرشف الماضي والحاضر، ومختلف الحقبات والأذواق والأنواع والمدارس، في مكان واحد؛ مكان موجود وغير موجود في آنٍ معًا[3]

 

معرض الكتاب... متحف للمؤلّفين 

من مثال المكتبة، يمكننا أن نفكّر في معرض الكتاب بوصفه فضاءً هيتروتوبيًّا قادرًا على توليد أماكن مختلفة في داخله وإنتاجها، لا يتجانس الزمان فيه، فيجمع الحقب ويؤرشف الماضي والحاضر. علاوة على أنّه مكان حقيقيّ موجود على خريطة المدينة - غالبًا ما يكون في المدن الكبرى في مساحة ثابتة مخصّصة للمعارض - وهو في ذات الوقت، مكان غير موجود في خريطة المدينة، في باقي أوقات السنة، أي خارج موسمه. بذلك يصبح المعرض مسرحًا ومرآة ومصحّة عقليّة، ومتحفًا للمؤلّفين الموتى والأحياء.

أعود في خيالي إلى معرض الكتاب الأوّل الّذي أستطيع تذكّره، في دمشق، أوائل الألفيّة الثانية، في «المكتبة الوطنيّة»، ’المكتبة الكبرى‘. أتذكّر أمّي تجرّني وأخي من يدينا لنقطع الشارع الصغير في «ساحة الأمويّين»، الّتي تزيّنت تعبيرًا عن هذه المناسبة والاحتفاليّة الكبيرة المقامة في باحة المكتبة. أتذكّر أيضًا كيف فُتِحَت أبواب أسوار المكتبة الخارجيّة للعامّة جميعًا، ورُكِّبَت أجنحة المعرض لتستضيف دور النشر المختلفة، فاختلف شكل الرصيف والشارع و«ساحة الأمويّين»، وقد لاحظت تدفّق الناس مشيًا في الساحة الّتي عادة يصعب المشي فيها لاتّساعها.

العيش في مدينة تخلو من بسطات بيع الكتب، والمكتبات الشعبيّة وغير الشعبيّة، فيعني أن يكون معرض الكتاب فرصة لا تُعَوَّض لشراء كتب العام بأكمله...

لكنّي كذلك أتذكّر معارض أخرى للكتب، معارض غير مبهرجة، لكنّها تشغل حيّزًا مكانيًّا واضحًا، يتحوّل بذاته إلى فضاء اجتماعيّ لجملة من العلاقات المتداخلة بتجانس أو بدون تجانس. وأعني هنا، المعارض الدائمة للكتاب، معارض أرصفة المدينة. ويمكنني الجزم بأنّي أتذكّر شرائي للكتب من شوارع دمشق، أكثر ما أتذكّر معرض الكتاب. فقد كانت بسطات الكتب الكثيرة تملأ الأرصفة الموجودة تحت جسر الرئيس، مثل بسطة أبو طلال وبسطات أخرى في الشارع المواجه لـ «جامعة دمشق»، وشارع الحلبوني، وغيرهما من الشوارع، حالهما حال شوارع أخرى في مدن عربيّة قديمة ومشابهة، مثل شارع المتنبّي والأزبكيّة وغيرهما.

أمّا العيش في مدينة تخلو من بسطات بيع الكتب، والمكتبات الشعبيّة وغير الشعبيّة، يعني أن يكون معرض الكتاب فرصة لا تُعَوَّض لشراء كتب العام بأكمله، ثمّ إنّ المعرض احتفاليّة ممتعة للناشرين والقرّاء والكتّاب على حدّ سواء؛ فالمشي في معرض الكتاب هو مشي تأمّليّ بدون هدف، مشي مُوحٍ يحفّز الخيال والعقل والأحلام، وهو كذلك مشي في أروقة خياليّة، غير موجودة في واقع المدينة اليوميّ. وعليه، يصبح المعرض متحفًا للخيال، ومدينة أخرى داخل المدينة بخواصّ هتروتوبيّة كما يريد فوكو، الأمر الّذي يمنح التجربة خصوصيّة لا تتجلّى في غيرها.

 

عصر الرواية 

لكلّ هذه الأسباب، قضيت الأيّام الفائتة في أرض «معرض الدوحة الدوليّ للكتاب» في الدوحة، متنقّلًا بين الدور، والمنشورات، من «بيت الحكمة» إلى «مدرسة فرانكفورت»، ومن القرن الرابع الهجريّ، إلى القرن العشرين الميلاديّ. أمشي بين رفوف من الكتب، وأتنقّل بين أسماء أعرفها ولا أعرفها، وعناوين تثير قلبي وأخرى تقلقني. وفي هذه الجولات في المعرض الضخم، تتكشّف النزعات الأدبيّة في السوق العربيّ، وتتكشّف ذائقة ’الجمهور‘، وكذلك تبدو اختلافات الناشرين في اختياراتهم وعلاقتهم بالسوق والأدب؛ فمثلًا وُضِعَت دور النشر في مناطق منقسمة وفقًا للانتماء الجغرافيّ لا وفقًا للاهتمامات، وقد كان للمسارح الصغيرة المتنقّلة المساحة الكبرى من المعرض؛ لاستضافة المحاورين والمتحدّثين، والطهاة، وصنّاع المحتوى، والشيوخ والأئمّة؛ فقد استضاف المعرض إلى الآن جميع الفئات السابقة، ولست أفهم تمامًا معنى أن يكون هنالك جلسات طهي مباشرة في معرض للكتاب.

تمتلئ دور النشر بالروايات؛ إنّه عصر الرواية كما يريد الجميع. وتختلف اهتمامات الناشرين بالدور الجماليّ لأغلفة الكتب؛ فمنهم مَنْ خلق هويّته البصريّة المميّزة، الّتي صارت حكرًا عليه، وبات نوع الخطّ المستخدم فيه علامة تجاريّة، ومنهم مَنْ يستخدم صورًا لا تحمل أيّ أبعاد ثقافيّة أو جماليّة أو أدبيّة على أيّ مستوًى، مهملين بذلك الدور الأساسيّ للعناصر التحريريّة أو الموازية للنصّ (الباراتكست – Paratext) كما يسمّيها جيرارد جينيت. كما تبدو بعض دور النشر حافظة لإرثها وتقاليدها بالنشر لأسماء دون أخرى، أو بنشر الأدب العالميّ المترجم باتّجاه واحد من الشمال إلى الجنوب، وإقصاء المحاولات العربيّة الشابّة. في حين تحاول دور أخرى أن تخلق سرديّتها الخاصّة، عبر اتّخاذ موقف سياسيّ ما، والسعي في نشر كلّ ما هو متناسب مع ذلك الموقف، دون أخذ القيمة الفنّيّة والجماليّة بعين الاعتبار، منتصرين بذلك لمدارس النقد الثقافيّ المسيطر.

على الجانب الآخر من المعرض، يمكن للزائر ملاحظة بعض الدور ’التاج محلّيّة‘ الباذخة في ديكورها، وأعداد موظّفيها؛ إذ توظّف هذه الدور النتفلكسيّة مجموعة من الشباب والصبايا المسوّقين ليبيعوا كتبًا وروايات لا يمكن تصنيفها بجدّيّة؛ ليرى الزوّار هؤلاء الموظّفين يتحدّثون عن بضاعتهم كما يفعل العطّارون والباعة في سوق القماش؛ "رواية لقصّة حبّ، فيها جريمة معقّدة"، أو "رواية عن حرب بين قبيلتين... من الإنس والجانّ"، أو "قصّة فيلم رومانسيّ"، أو غير ذلك من العناوين الغريبة، ووسائل التسويق الغريبة.

تختلف اهتمامات الناشرين بالدور الجماليّ لأغلفة الكتب؛ فمنهم مَنْ خلق هويّته البصريّة المميّزة (...) ومنهم مَنْ يستخدم صورًا لا تحمل أيّ أبعاد ثقافيّة أو جماليّة...

أمّا الشعر فهو الفقيد الدائم، فلا يمكن للزائر أن يجد دارًا واحدة تهتمّ اهتمامًا واضحًا بالشعر، ولا يستطيع الماشي رصد دواوين الشعر بسهولة، بل عليه أن يجلس القرفصاء، ويبحث بين حزم الكتب المكدّسة على أرض الجناح، بعيدًا، أو أن يذهب إلى الزوايا البعيدة في كلّ دار ليجد مجموعة أو اثنتين، تتكرّر سنويًّا الأسماء ذاتها، فكبار الشعراء (بمردودهم الاقتصاديّ) تُباع أعمالهم الكاملة، منقسمة بين عدد من الدور، ولذلك يسهل إيجاد أعمال أسماء كبيرة من الشعراء الموتى، كاملة أو في مختارات متفرّقة.

 

هذا الإمام وهذه أعماله 

في هذا الفضاء غير المتجانس، وبين تلال الكتب المكدّسة في أرض المعرض، وجموع المشاة والمتنزّهين، وفي هذه الفوضى الممتعة، فكّرت في الأيّام الماضية بالفيلسوف القرطبيّ ابن رشد (الفيلسوف الّذي يمكن إيجاد بعض مؤلّفاته في المعرض مرميّة هنا وهناك)، وتذكّرت مشهدًا رافق مخيّلتي في المعرض، وهو المشهد الّذي سيستعيده ابن عربيّ في «الفتوحات المكّيّة» أثناء الحديث عن قصّة موت الفيلسوف آفيروس (ابن رشد)، إذ سيعود جثمان ابن رشد محمولًا على حمار (دابّة)[4] من مرّاكش إلى قرطبة، حيث سيُدْفَن، ويخبرنا ابن عربيّ عن تلك اللحظة قائلًا: "ولمّا جُعِل التابوت الّذي فيه جسده على الدابّة، جُعِلَت تواليفه[5] تعادله من الجانب الآخر (...) وقلنا في ذلك: هذا الإمام وهذه أعماله... يا ليت شعري؛ هل أتت آماله؟".

 


إحالات

[1] Michel Foucault, “Des Espace Autres”, trans. Jay Miskowiec, (The French journal Architecture /Mouvement/ Continuité, 1984).

[2] Ibid, P. 3.

[3] Ibid, P. 7

[4] ابن عربيّ، الفتوحات المكّيّة، تحقيق وتقديم عثمان يحيى، تصدير ومراجعة إبراهيم مدكور، السفر الثاني (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، معهد الدراسات في السوربون، المكتبة العربيّة، 1985)، 373.

[5] تواليفه: مؤلّفاته.

 


 

موفّق الحجّار

 

 

شاعر وكاتب سوريّ، حاصل على ماجستير في الأدب المقارن من «معهد الدوحة للدراسات العليا».