الصحّة العامّة في القدس خلال الإدارة الأردنيّة

شارع الملك سليمان، القدس 1955 | Getty Images

 

أرشيف الصحّة العامّة

قدّم سكّان حيّ وادي الجوز، في في 19 آذار (مارس) 1957، شكوى إلى رئيس بلديّة القدس، حول مخاطر مياه الأمطار على حيّهم. في شكواهم أشاروا إلى جغرافيّة الحيّ، ودورها في تجمّع مياه الأمطار في الشوارع، إذ يشكّل خطر دخول المياه على البيوت احتمال التسبّب بضرر بالأبنية وبصحّة السكّان وحياتهم. لذلك، يطلبون من أعضاء البلديّة ورئيسها إيجاد حلّ يمنع تجمّع المياه قبل أن يفوت الأوان. من ناحيتها، وجّهت البلديّة الشكوى إلى مهندس المدينة من أجل فحصها وعمل اللازم[1].

مثل هذه الشكوى العديد من الشكايات والمداولات حول الصحّة العامّة، نجدها في ملفّات قسم الصحّة العامّة في أرشيف مدينة القدس الخاصّ بالفترة الأردنيّة. تثير الشكوى سلسلة من التساؤلات حول بلديّة القدس خلال الفترة المذكورة بعامّة، وحول البنية التحتيّة للصحّة العامّة في المدينة بخاصّة، ولا سيّما في جوانب مثل شبكات الصرف الصحّيّ، وتزويد مياه الشرب، ودور البلديّة أيضًا في المحافظة على نظافة المدينة، في سياق علاقة سكّان المدينة ببلديّتها.

 

شكوى سكّان وادي الجوز إلى بلديّة المدينة بتاريخ 19 آذار (مارس) 1957، أرشيف بلديّة القدس.

 

كما تثير هذه الشكوى، أيضًا، وتثري النقاش حول الصحّة العامّة في تلك الفترة المغيّبة من تاريخ المدينة. تحاول هذه السطور استكشاف المدينة في سياق الصحّة العامّة، سواء من جانب البلديّة أو من جانب السكّان، من أجل الإضاءة حول الحياة اليوميّة في القدس، ودور الصحّة العامّة في تشكيل العلاقة بين الحكّام والمحكومين فيها. 

 

القدس إبّان الحكم الأردنيّ 

في أعقاب نكبة عام 1948، قُسِّمت مدينة القدس إلى ما بات يُعْرَف ’شرقيّة‘ تحت الحكم الأردنيّ، و’غربيّة‘ أصبحت تحت الاستعمار الصهيونيّ، رغم أنّ التسميات لا تعبّر عن بُعْد جغرافيّ، بقدر ما تعبّر عن واقع فرضته نتائج العمليّات العسكريّة عام 1948. إلّا أنّها تسميات فارضة ذاتها على أذهاننا، مثلما فرضه الواقع الّذي عاشته المدينة عليها.

رغم قصر الفترة الأردنيّة في تاريخ مدينة القدس (1948-1967)، مقارنة بالفترات العربيّة والإسلاميّة الأخرى، إلّا أنّها تُعْتَبَر واحدة من الفترات المهمّة الّتي تركت أثرًا كبيرًا في المدينة وسكّانها، وفق ما أشار الباحث والمؤرّخ نظمي الجعبة. من المألوف في انتقال المدن من فترة إلى أخرى، استمرار وجود مؤسّسات المدينة، وفي حالة القدس، كانت غالبيّة مؤسّسات المدينة من فترة الاستعمار البريطانيّ في الجهة الغربيّة من المدينة؛ لذلك أسّست الإدارة الأردنيّة مؤسّسات لخدمة المدينة وسكّانها، وهو إنجاز مهمّ للحكومة الأردنيّة ورعاياها في القدس. بالرغم من ذلك كلّه إلّا أنّ الكتابة حول تلك الفترة لا تزال مغيّبة، وينقص وجود مؤلّفات خاصّة بها[2].  

 

مدينة القدس بداية الاستعمار البريطانيّ، 1920 | الجمعيّة الفلسطينيّة الأكاديميّة للشؤون الدوليّة. 

 

شملت القدس تحت الحكم الأردنيّ البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها، وصولًا إلى قرية شعفاط[3]. حتّى نيسان (أبريل) عام 1949 كانت المدينة تحت الحكم العسكريّ، قبل أن يتغيّر إلى الحكم المدنيّ. وقد عُيِّنَتْ في بداية الحكم الأردنيّ لجنة لإدارة المدينة، ترأّسها أنطون صافية، ومن ثَمّ عُيِّن أنور الخطيب رئيسًا لبلديّة المدينة.

كانت البلديّة مسؤولة عن إدارة المدينة، وقد شملت تلك الإدارة جمع الضرائب، وتزويد الخدمات للمدينة مثل التخطيط والتنظيم العمرانيّ، وتزويد خدمات الصحّة العامّة، والحفاظ على النظافة، والتزويد بمياه الشرب.

كما لا بدّ من الإشارة إلى أنّ وجود البلديّات في فلسطين يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر. وفي سياق الخدمات البلديّة، أشار الباحث محمود يزبك إلى أنّ بعض المدن في فلسطين شهد وجود الخدمات في المدن قبل إنشاء البلديّات، أو قبل الوجود الأوروبّيّ فيها[4]، الّذي عادة ما ينسب إليه إدخال الخدمات إلى المدن.

 

علاقات الجغرافيا والطوبوغرافيا

إنّ الأرشيفات بوصفها مصدرًا للتاريخ الاجتماعيّ، وخاصّة أرشيفات البلديّات مثل بلديّة القدس في الفترة الأردنيّة، تُعْتبَر من المصادر المهمّة الّتي يمكن من خلالها سماع صوت سكّان المدينة وشكاياتهم. كذلك التفاعلات بين السكّان والبلديّة كسلطة حكم محلّيّ؛ ففي حال شكوى سكّان وادي الجوز، كانت مياه الأمطار من أسباب قلقهم؛ فمياه الأمطار تشكّل خطرًا على ممتلكاتهم وحياتهم.

في سياق شكايات سكّان وادي الجوز أيضًا، يبدو أنّ الحيّ له تاريخ حافل في مواجهة آثار مياه فصل الشتاء في بيوته؛ ففي عام 1954 كتب أحد سكّان الحيّ أنّ مياه السيل تدخل إلى بيته في أعقاب أعمال البنية التحتيّة، الّتي قامت بها البلديّة قبل تاريخ شكواه بأعوام؛ وهو ما يسبّب فيضان مياه الصرف الصحّيّ المضرّة بالصحّة العامّة، وعلى مبنى بيته، فبعد أن نظّف مرّات عدّة آثار فيضان المياه، يطلب من البلديّة هذه المرّة أن تنظّفها هي على نفقتها. إثر الشكوى، أعطت البلديّة التوجيهات بإقامة قناة صرف صحّيّ خاصّة بالحيّ.

كتب أحد سكّان الحيّ في عام 1956 إلى دائرة البلديّة، يشكو من تضرّر منزله من مياه الشتاء، بالرغم من وجود جدار حول مجرى سيل المياه، ومع ذلك تضرّر بيته، ويطلب أن يُفْحَص الأمر، ويُبْنى جدار آخر يمنع تضرّر بيته مرّة أخرى.

لم يُرِدْ هؤلاء السكّان أن يحدث لهم ما شهده حيّ المغاربة في شتاء عام 1954، الّذي غمرت خلاله مياه الأمطار بيوت الحيّ الّتي تضرّرت إلى جانب ممتلكات السكّان ممّن فقد بعضهم المأوى. إنّ كلًّا من حالتَي وادي الجوز وحيّ المغاربة الّذي كان في المدينة حتّى عام 1967، يعرّفنا إلى الإشكاليّات الّتي واجهت سكّان أحياء المدينة، وبأشكال مختلفة. 

 

المصدر: أرشيف بلديّة القدس، ملفّ صيانة مجاري مياه الشتاء.

 

من خلال الأمثلة المذكورة أعلاه، يمكن ملاحظة أنّ آثار الشتاء بصفتها ظاهرة طبيعيّة كانت جزءًا من تشكيل العلاقات بين شقّي المدينة، وهي علاقة حكمتها الجغرافيا والطوبوغرافيا المنخفضة في كلٍّ من حيّ المغاربة ووادي الجوز، أو تلك المرتفعة مثل الجانب الغربيّ من المدينة، وسلوان المنخفضة في الجانب الشرقيّ، أو منطقة جبل المشارف.

ففي عام 1949، كانت مياه الأمطار الّتي نزلت من المدينة الغربيّة باتّجاه سلوان كفيلة بإنذار خطر وصول المياه القذرة إلى عيون مياه الشرب في سلوان؛ وهو ما أدّى إلى انعقاد اجتماع بين ممثّلين من شرقيّ المدينة وغربها، من الجانب الأردنيّ ومن الجانب الصهيونيّ، لإيجاد حلّ لمياه الشتاء الّتي تجري إلى سلوان. أمّا في حالة جبل المشارف ووادي الجوز، فقد تتسبّب مياه المجاري القادمة من جبل المشارف نحو وادي الجوز في غمر البيوت، والتسبّب في الأضرار والممتلكات، وهو ما استدعى سكّان الحيّ بالتوجّه إلى البلديّة لإيجاد حلول.     

 

تشكّل المؤسّسات

في حالات أخرى، يبدو دور البلديّة في الصحّة العامّة من أولويّاتها، من خلال الاهتمام بنظافة شوارع المدينة، وهو ما يظهر في المراسلات في عام 1956، بين مهندس الصحّة العامّة وأحد مراقبي البلديّة، الّتي أشارت إلى عدم نظافة زقاق المدينة، وقد أُلْقِي اللوم على سكّان المدينة في ذلك، وستُفْرَض مخالفات على كلّ مَنْ يسيء إلى نظافة شوارع المدينة. يُفْهَم من سياق المراسلة أنّ النقاش يدور حول شوارع المدينة القديمة، على اعتبار أنّها جزء من الفضاء العامّ الّذي يرتاده زوّارها؛ لذلك لا بدّ من بقائه نظيفًا لكيلا يسيء إلى شكل المدينة. كما من الجدير بالذكر أنّ المخالفات، بوصفها وسيلةَ منع، والّتي تدفع بالسكّان إلى الحفاظ على نظافة الفضاء العامّ، يكون التعامل معها على أنّها شكل من أشكال السيطرة وكبح سلوكيّات غير مرغوب فيها من السكّان، أو من مستخدمي الفضاء العامّ. لكنّها، في نفس الوقت، من الوسائل الّتي استخدمتها الإدارة المحلّيّة من أجل القيام بدورها ليكون الفضاء العامّ نظيفًا، ويمنع انتشار الأمراض الّتي قد تثقل كاهلها.

الملاحظة الأوّليّة حول القدس خلال الفترة الأردنيّة، أنّ تلك الفترة المغيّبة تشكّلت خلالها مؤسّسات المدينة، وأيضًا شبكة من العلاقات، سواء بين أطراف المدينة المقسّمة أو بين السكّان وبلديّتها، وهي علاقات حكمتها جغرافيا المدينة ومعايير الصحّة العامّة، الّتي شكّل فصل الشتاء تحدّيًا لها؛ فإدارة المدينة الّتي أسّست وطوّرت مؤسّسات المدينة، كان عليها أن توفّر بنية تحتيّة ملائمة. من جانب السكّان، ومن خلال الشكايات الّتي تُسْمِعُنا صوتهم، فإنّه من الواضح تبلور وعي حول الصحّة العامّة لديهم، وكذلك لجوؤهم إلى وسائل تمكّنهم من تحقيق مطالبهم.

 


إحالات

[1] أرشيف بلديّة القدس، دائر مهندس المدينة: صيانة مجاري مياه الشتاء، ملفّ رقم: هـ/ 53.

[2] نظمي الجعبة، القدس في الفترة الأردنيّة: حكايات مقدسيّة: https://akhbarelbalad.net/ar/1/2/1330/.

[3] Michael Dumper, The Politics of Jerusalem Since 1967 (Columbia University Press, 1997) .p.33

[4] Mahmoud Yazbak,” The Municipality of a Muslim Town: Nablus 1868-1914”, Archive Orientalni, Vol. 67, 1999.

 


 

أحمد محمود

 

 

 

طالب دكتوراة في «قسم الدراسات الإسلاميّة والشرق أوسطيّة» في «الجامعة العبريّة»، مهتمّ بالتاريخ الاجتماعيّ للمدينة الفلسطينيّة من منظور الصحّة العامّة.