الفلسطينيّ الممسوخ... من الصليبيّين إلى إسرائيل

مسخ في الضباب | Getty

 

ما المسخ؟

سقطت القدس في أيدي الإفرنج الصليبيّين في عام 1099. استباح الغزاة أحياء المدينة، وقتلوا كلّ مَنْ كان في طريقهم بدمويّة أذهلت مؤرّخي ذلك العصر وشهوده. مع بدء العهد الجديد، بدأ الصليبيّون بتحويل هويّة المدينة على نحو يناسب سرديّة الغالب المنتصر. كانت كنيسة القيامة – أهمّ كنيسة في العالم المسيحيّ آنذاك – من ضمن المعالم الأساسيّة الّتي حفر فيها الصليبيّون سرديّتهم، حرفيًّا؛ إذ زيّن الغزاة العتبة العلويّة من المدخل الجنوبيّ لكنيسة القيامة بمجسّمات حجريّة منقوشة تحت العَقدتين الرئيسيّتين مباشرة. في الجانب الغربيّ من الواجهة الجنوبيّة، نقش الصليبيّون صورًا تربط الغالب بالمدينة في إطار دينيّ-تاريخيّ؛ إذ تُظْهِر الرواية المنقوشة سلسلة مترابطة من الصور تبيّن محطّات من حياة المسيح في القدس، منها دخوله المدينة المقدّسة، وجلوسه في العشاء الأخير، بين محطّات أخرى. أمّا في الجانب الشرقيّ فحرص الصليبيّون على نقش صور لمخلوقات عجيبة، ومسوخ هجينيّة تجمع بين الإنسان والحيوان في جسد واحد، وأشكال متخيَّلة لأمم ’أخرى‘ دون إبراز أيّ سرديّة تسلسليّة (دينيّة أو تاريخيّة) واضحة كتلك الّتي يتميّز بها الجانب الغربيّ.

اعتبر بعض علماء الآثار والمؤرّخين، من أمثال هيمان وفيشهوف، أنّ الجانبين يكمّلان بعضهما بعضًا، ويرويان تاريخًا من منظور الغالب المنتصر؛ فبينما يتميّز الجانب الغربيّ بإبراز شرعيّة ارتباط المنتصر بالمدينة (دخول المسيح إلى القدس يعطي شرعيّة لدخول الإفرنج المسيحيّين إليها)، يتميّز الجانب الشرقيّ بإبراز صورة أعداء الإفرنج من المسلمين، وتصوير هزيمتهم وانقضاء ملكهم في القدس، وربط صور المسوخ الغريبة بالمسلمين عمومًا[1]. لكلٍّ إطار مفصول عن الآخر، يتجاوران ولا يختلطان.

 

مسوخ في العتبة الشرقيّة من كنيسة القيامة [2].

 

لم يكن الإفرنج استثناء في تصوير المسلمين مسوخًا في المفهوم الغربيّ، ولا في تصوّر حيّز المسلمين منفصلًا عن الحيّز المسيحيّ (الزمانيّ والمكانيّ والهويّاتيّ). كان توظيف المسوخ والمخلوقات العجيبة في الأدبيّات الغربيّة القروسطيّة من أبرز أدوات تصوير الآخر في الفكر الغربيّ الاستعماريّ عمومًا. لم يبدأ هذا الأمر في العهد الصليبيّ خصوصًا، لكنّه برز فيه، وخلق نواة مسخيّة في فلسطين ستبرز وتتطوّر في الأدبيّات الاستعماريّة الغربيّة في قرون لاحقة، مع غزاة ومستشرقين آخرين، وصولًا إلى صعود الفكر الصهيونيّ في القرن التاسع عشر، الّذي سيرث أدوات مَسْخَنَةِ المسلمين الّتي برزت في العصور الوسطى، وسيطبّقها بحذافيرها.

لكن ما الـ ’مسخ‘[3] (Monster) في الفكر الغربيّ؟ وكيف وُظِّف في إطار سياسيّ-دينيّ لشرعنة مشاريع استعماريّة أوروبّيّة في الشرق عمومًا، وفي فلسطين خصوصًا؟

ترصد هذه المقالة الجذور السياسيّة-الدينيّة لتوظيف المسخ في الفكر الغربيّ الاستعماريّ بوصفه أداةً لتصوير هويّة الآخر، وصناعتها والسيطرة عليها. أدّعي هنا أنّ تطوّر المسخ في الفكر الغربيّ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتجلّيات المسخ، وتوظيفه السياسيّ في الفكر الصهيونيّ المعاصر بوصفه فكرًا استعماريًّا غربيًّا-أوروبّيًّا، ورث أدوات الحركات الاستعماريّة الأوروبّيّة الّتي جاءت قبله وتبنّاها؛ لفرض سيطرته على الحيّز الّذي يحكمه اليوم. وعلى غرار الإفرنج قبله الّذين تصوّروا المسلمين مسوخًا في حيّز مسخيّ منفصل، سيحاول الفكر الصهيونيّ تطبيق تلك الفكرة حرفيًّا.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ توظيف المسخ ليس حكرًا على الحركة الصهيونيّة، ويمكن أن نجده بصيغ مختلفة في كلّ صراع بين أمم متحاربة، لكنّ تنوّع الغزاة في هذه البلاد وتعاقبهم، جعل المسخ ثيمة مشتركة تستحقّ البحث.

 

مسوخ من الشرق وأفريقيا

يُحيل المصطلح ’مسخ‘ (Monster) في الفكر الغربيّ القروسطيّ، من حيث تأصيله اللغويّ، إلى المصطلح اللاتينيّ (Monstrum) المرتبط بمفهومَي (Monstrare) بمعنى ’يُظْهِر‘ و’يُبَيِّن‘، و(Monere) بمعنى ’يُذَكِّر‘ و’يُحَذِّر‘. من هنا، كانت وظيفة المسوخ من الناحية الدينيّة إظهار عجائب المخلوقات الّتي صنعها الربّ، مبيّنة قدرته وإبداعه من جهة، والتحذير من غضبه وعقوبته والتذكير بنهاية الزمان ويوم الحساب من جهة أخرى.

كانت مسوخ القرون الوسطى الأوروبّيّة تظهر في أدبيّات المواعظ الدينيّة، والسجالات الخلافيّة، وفي أدب الرحلات، وعلم رسم الخرائط (الكارتوغرافيا)، ككائناتٍ غريبة الأشكال، هجينيّة في بعض الأحيان، مخيفة وجذّابة في الوقت نفسه. كما كانت تحتلّ حيّزًا يكون في العادة خارج الحيّز البشريّ، مثل الكهوف والمستنقعات ورؤوس الجبال والجزر النائية[4].

 

           مسوخ قروسطيّة غربيّة كما بيّنها الرحّالة جون ماندفيل في رحلته في القرن الرابع عشر.

 

كانت هذه الأماكن وما يشابهها تحيل إلى حيّز مسخيّ خالٍ من الناس؛ فمسوخ القرون الوسطى لا تقطن بين البشر، ولا تشاركهم حياتهم اليوميّة، ولا طعامهم ولا شرابهم ولا لغتهم ولا معتقدهم، ولا حتّى الهواء الّذي يتنفّسه صانعوها. المسوخ تعيش خارج أسوار المدينة لا داخلها. لذا، كانت المسوخ تُعْتَبَر تجسيدًا لمخاوف الناس وقلقها، ورغباتها البعيدة؛ فلا يصحّ أن تشاركهم حيّزهم، فإنّ ما يُعْتَبَر ’مسخًا‘ في سياق تاريخيّ ما، يعبّر عن مخاوف ذلك السياق ورغباته[5]

تعدّدت المسوخ وتنوّعت عبر الزمن؛ كان منها، مثلًا، أمم بلا رؤوس وجوهها في صدرها، وأمم بعَين واحدة، وأمم بساق واحدة وقدم ضخمة. من أبرز تلك المسوخ الكائنات الهجينيّة الّتي تدمج بين الإنسان والحيوان، ومنها أمم برأس كلب؛ أي لها جسد بشريّ برأس كلب، وهي المسوخ المعروفة في العالم اللاتينيّ باسم ساينوسيفالي (Cynocephali). جميع تلك المسوخ تشترك في أصل ومنشأ واحد: الشرق والقارّة الإفريقيّة.

 

صناعة هويّة العدوّ

كان لوجود كلّ تلك المسوخ خارج أسوار المدينة تداعيات ودلالات كثيرة تتعلّق بتعريف الحيّز، ومفهوم الحدّ الفاصل، وصياغة الهويّات؛ فالمسوخ الهجينيّة من أمثال الأمم برأس كلب، مثلًا، كانت تعيش بعيدًا عن أيّ مدينة مسيحيّة أوروبّيّة في حينه. بل إنّها لطالما كانت "تنتمي إلى أرض أخرى، تعيش تحت سماء أخرى، تحيا بموجب قوانين أخرى... وتتحدّث (أو تنبح) بألسنة أخرى"[6]. لم يكن غريبًا أن تُسْتَعْمَل هذه المسوخ في صناعة هويّة العدوّ خارج الأسوار، الّذي يختلف عن صانعيه في قوانينه ولغته؛ إذ كان المسخ المصوَّر على هيئة إنسان برأس كلب، مثلًا، مرتبطًا بتصوّر المسلمين عمومًا[7]. على أنّ المجتمعات الّتي تصوّرت المسلمين بأجساد بشريّة لها رأس كلب، لم تكن تخلق هويّة الآخر المسخيّ إلّا بالقدر الّذي كانت تنسج فيه هويّتها هي نفسها؛ فذاك الّذي يخلع صفة القبح على أعدائه، يرى في نفسه معيارًا للجمال، والّذي يضع العدوّ في غابة موحشة خالية من الناس، يرى في نفسه مثالًا للمدنيّة والحضارة والرقيّ. وإذا كان صانع المسخ يتكلّم لغة تحيل إلى سلطة العقل والمنطق وانسجام الأصوات، فلا بدّ من أن تكون لغة العدوّ ’نباحًا‘ لا يخضع لأيّ قوانين لغويّة أو منطقيّة.

وصورة الكلب تعبّر عن كائن يجمع بين الوحشيّ والمروَّض – ذاك المخلوق الخطر الّذي يحتاج إلى وصاية للسيطرة عليه وتطويعه لسلطة الإنسان، وإلّا فهو كائن بلا عقل يرشده.

المسخ هو غياب المنطق، وتسلُّط الجنون والفوضى. الحدّ الفاصل بين المسخ وصانعه، إذن، يتجاوز الحدّ الجغرافيّ ويدخل في حدود أخرى، مثل الحدّ الدينيّ والحدّ الهويّاتيّ والحدّ اللغويّ. المسخ يتمرّد على المنطق الطبيعيّ بهجينيّته غير – أو فوق – الطبيعيّة، وبذلك فإنّه ينتفي خارج إطار المجتمع البشريّ وقوانينه.

يحرج انتفاء المسخ خارج المجتمع البشريّ القانون نفسه: إذ كيف يتعامل القانون مع هذه الفئة الّتي لا تنتمي إلى البشر، ولا إلى عالم الحيوان؟ يجيب المفكّر الفرنسيّ ميشيل فوكو عن ذلك، بقوله إنّ القانون العاجز عن التعامل مع المسوخ الّتي صنعها، يتعيّن عليه أن يعيد فهم أسسه وممارساته، أو أن يحتكم إلى نظام مرجعيّ آخر[8]، الأمر الّذي يضطرّه إلى ابتداع فئة قانونيّة جديدة تلائم المسوخ الّتي صنعها. المسخ يربك الفئات القائمة، ويجبرها على خلق إطار جديد.

 

المسخ الصليبيّ

لم يكن غريبًا أنّ الإفرنج الصليبيّين، بعد أن أسّسوا مملكتهم في فلسطين، بدعوة من البابا أوربان الثاني، وبدؤوا بتحويل هويّة المكان، اعتمدوا قوانين أوروبّيّة غربيّة يحتكمون إليها في إطار ما يشبه المحكمة العليا اليوم. على أنّ النظام القانونيّ الصليبيّ حيّد المسلمين وهمّشهم وميّز ضدّهم؛ فليس من ’الطبيعيّ‘ أن يُشْمَلوا داخل القانون[9]؛ إذ كان القانون المسيحيّ الغربيّ ينظّم حياة الغزاة المسيحيّين الّذين يشملهم هم، ولم يكن المسلمون في ظلّ العهد الجديد مشمولين ضمن الجماعة المسيحيّة، بل كانوا تعبيرًا عن ’تلويث روحيّ‘[10] للجسد المسيحيّ، وتهديدًا دائمًا لا يتحقّق السلام إلّا بزواله[11]

القانون العاجز عن التعامل مع المسوخ الّتي صنعها، يتعيّن عليه أن يعيد فهم أسسه وممارساته، أو أن يحتكم إلى نظام مرجعيّ أخر...

فإذا دخل الصليبيّون مدينة، لم يكن قتل الناس فيها جريمة بموجب قانونهم الّذي يحكم بينهم هم، بل كان تلبية لوصيّة البابا ووعده لهم بغفران خطاياهم، وضمان الجنّة، وحفاظًا على الهويّة المسيحيّة الغربيّة للحيّز الجديد، إنْ هم نجحوا في إبادة المسلمين[12]. لذا، كانت شيطنة المسلمين بوصفهم جنس ’عابد للشياطين‘ و’قذر‘ في خطاب البابا أوربان الثاني، سببًا في شحن الروح الاستعماريّة الّتي تمثّلت في تجريد الحملة الصليبيّة الأولى؛ لترويض المسخ أو القضاء عليه قبل أن يتمدّد في الجسد المسيحيّ[13].

إنّ هذه النواة المسخيّة للهويّة، الّتي رسّختها الحملات الصليبيّة المتتابعة في الشرق على مدار مئتي عام تقريبًا، وتأثيرها في الحيّز، تركت أثرها في تصوّر سكّان البلاد وحيّزهم في عصور لاحقة، ضمن أدبيّات مختلفة كأدب الرحلات الّذي دوّنه مستشرقون في القرنين السابع عشر والثامن عشر. إذ كان تصوّر المسخ في الحيّز يحيل إلى خلاء البلاد من البشر.

في عام 1669، وصل رحّالة إنجليزيّ باسم تي. بي. (T. B.) إلى فلسطين، وفي الوصف الّذي يورده، يشير تي. بي. إلى البلاد بمصطلحات توراتيّة. يضع عدسة الباحث التوراتيّ، ويصف الجبال والوديان والأديرة والبنايات، وكلّ ما يمكن ربطه بذِكر أو إشارة وردت في الكتاب المقدّس، لكنّه لا يذكر الناس المحلّيّين من غير المسيحيّين. لا شيء تقريبًا عن قبّة الصخرة، ولا عن المسلمين، ولا عن العرب. كانت البلاد في وصفه فارغة أو تكاد[14]. على أنّ البلاد لم تكن فارغة حقًّا؛ إذ كان قد زار البلاد قبله بنحو ستّ سنوات رحّالة مغربيّ اسمه أبو سالم عبد الله العيّاشي، الّذي استفاض في ذكر أسماء السكّان الّذين قابلهم وشاركهم مناسباتهم، وذكر قبّة الصخرة وما حولها[15]. إنّ مَسْخَنَة الهويّة المحلّيّة تجعل الحيّز نفسه مسخيًّا؛ فالحيّز المسخيّ يعني بالضرورة غياب البشر بالنسبة إلى صانعي المسخ. العرب موجودون في رحلة تي. بي. مسوخًا فقط بوصفهم ’متوحّشين‘ و’أشرارًا‘[16]، يشوّشون على المنظر التوراتيّ للبلاد، لا مجموعات بشريّة لها سرديّة تاريخيّة تعيش في بلادها.

كان لا بدّ لهذا الحيّز من أن يخضع لحكم ’غير المتوحّشين‘ و’غير الأشرار‘ في آخر الأمر. كانت تلك مِنْ جملة الحجج الّتي ساقت الحملات الصليبيّة الأولى إلى البلاد، واستمرّت حتّى اليوم. في عام 1917، سقطت القدس، من جديد، في أيدي أحفاد الصليبيّين الأوائل، ولا أقول ذلك تهكّمًا؛ إذ أعاد الاستعمار البريطانيّ إحياء ذكرى الحملات الصليبيّة بكلّ تداعياتها ومخاوفها ورغباتها. يظهر ذلك جليًّا في الكمّ الهائل من الكتب الّتي نُشِرَت بين عامَي 1919 و1923 في بريطانيا، الّتي رأت في الاستعمار البريطانيّ في فلسطين صورة من صور الحملات الصليبيّة[17]. بل إنّ مجلّة «بانش» (Punch) البريطانيّة الشهيرة، نشرت في عام 1920 رسمة بعنوان «الحملة الصليبيّة الأخيرة»، يظهر فيها جنديّ بريطانيّ بهيئة ريتشارد قلب الأسد؛ القائد الصليبيّ الإنجليزيّ، مرتديًا زيّه الصليبيّ الكامل، ومشرفًا بنظره على القدس من جبل عالٍ، يقول فيها: "حلمي يتحقّق!"[18].

 

المَسْخ الصهيونيّ

تزامنت إعادة إحياء الفكر الصليبيّ بكلّ مخاوفه من المسلمين في القرن العشرين، مع صعود الفكر الصهيونيّ في القرنين التاسع عشر والعشرين. ذلك الفكر الّذي سيرث كلّ الحمولة الرمزيّة للحيّز المسخيّ، وسيعمل على توظيفها في سياساته أثناء تأسيس دولته في فلسطين وبعده. على غرار تي. بي. الّذي أزعجه وجود العرب، واعتبره تشويشًا على المنظر التوراتيّ للبلاد، تبنّى ثيودور هرتسل النظرة نفسها في كتابه «الدولة اليهوديّة» (1896)؛ إذ "تجاهل هرتسل وجود العرب في الدولة اليهوديّة العتيدة"[19]. يتحدّث هرتسل عن فلسطين كأنّها خالية من السكّان، ومنتظرة هجرة يهود أوروبّا إليها لتأسيس الدولة. وفي روايته «الأرض الجديدة القديمة» (1902)، يظهر العرب بصورة كائنات قذرة تعيش في حيّز تملؤه الرمال والمستنقعات.

تزامنت إعادة إحياء الفكر الصليبيّ بكلّ مخاوفه من المسلمين في القرن العشرين، مع صعود الفكر الصهيونيّ في القرنين التاسع عشر والعشرين...

كانت مَسْخَنَة العرب من آليّات تفريع المكان من البشر، وتحويلهم إلى مسوخ هائمة على وجهها، لا مكان لها في دولة بشريّة؛ فحضور المسخ، كما سبقت الإشارة، يعني غياب البشر، ويعني أيضًا منح الغزاة ذريعة للسيطرة على الحيّز الممسوخ هذا، وشرعنة منطقيّة غياب مجموعات سكّانيّة كاملة حتّى لو كانت موجودة أمامهم جسديًّا. بل إنّ هذا الغياب بدا واضحًا أكثر عندما عرض هرتسل رؤيته لمستقبل القدس؛ إذ يُظْهِر شخصيّتين أوروبّيّتين: يهوديًّا ومسيحيًّا، يشبكان ذراعيهما ويمشيان معًا باتّجاه القدس على ضوء القمر، وهما يستذكران معًا صورًا توراتيّة للمكان. هذه الصورة الرومانسيّة للبشريَّيْن اللذين يمشيان نحو القدس، تستثني العرب وتضعهم في مصافّ المسوخ الّتي لا مكان لها في الحلم الموصوف.

ستجمع الدولة اليهوديّة كلّ ذلك الإرث المسخيّ الثقيل، وستستعمله في تشويه الهويّة الفلسطينيّة، وستضيف عليه وتطوّره. ستخلق إسرائيل مسوخًا حديثة ذات أصل تاريخيّ يجمع صفات المسخ تمامًا، ويبرّر لها فرض سيطرتها عليها أو القضاء عليها إذا لزم الأمر، من غير أن يكون للعالم الغربيّ اعتراض جدّيّ على ذلك. لم نَعُد في حاجة إلى مسخ هجينيّ جسديّ يجمع بين جانبين متناقضين جسديًّا كالأمم برأس كلب.

ابتدعت إسرائيل فئات هجينيّة هويّاتيّة تجمع بين نقيضين، وتكون منطقيّة بالنسبة إليها في الوقت نفسه، مثل ’الغائبون-الحاضرون‘ و’العرب-الإسرائيليّون‘، وخلقت معها تسميات ممسوخة لقاطني البلاد، مثل ’العَرفايم‘، والـ ’فلَستينيم‘ الّذين لا يجتمعون مع مَنْ صوّرتهم مسوخًا، لا في اللغة ولا في الدين ولا في العادات.

وحتّى تكتمل صورة المسخ بكلّ تفاصيله، كان على هذا المسخ أن يُصَوَّر على أنّه جاهل (بلا عقل)، عنيف (بطبعه)، دمويّ يأكل جنسه إن لم يأكل عدوّه، وتهديد للإنسانيّة والحضارة. ولكي تكرّس الدولة اليهوديّة سرديّة المسخ وعلاقته بالحيّز؛ فرضت تسميات مسخيّة أيضًا على الأماكن الّتي يعيش فيها هؤلاء المسوخ؛ فمن الـ ’مِجزار‘ (الوسط)، مرورًا بالـ ’شطاحيم‘ (المناطق) والـ ’بزوراه‘ (الشتات)، ووصولًا إلى مجاز ’الفيلّا في الأدغال‘، كلّ تلك التسميات والصور تمسح فلسطين كيانًا ثقافيًّا وسياسيًّا في الرواية الصهيونيّة، وتحيلها إلى حيّز مسخيّ بلا هويّة واضحة، ولا سرديّة أو رواية متماسكة. حتّى لو وُجِدت فهي غير موجودة، إنّما هي حيّز لمخلوقات دمويّة ليست في عداد البشر، ولا في عداد الحيوانات، بل هم مسوخ طارئون على المشهد التوراتيّ، مهزومون في ظلّ حكم يستمدّ شرعيّته من وعد إلهيّ، هم نسل المسوخ الّتي نقشها الصليبيّون على مدخل كنيسة القيامة قبل نحو ألف عام.

أعادت إسرائيل توظيف جدار الفصل القروسطيّ للفصل بين فئة أخرى من المسوخ الّتي صنعتها والبشر الّذين تنتمي إليهم....

بل إنّ الدولة اليهوديّة الّتي تبنّت فكرًا قروسطيًّا في تعاملها مع الشعب الّذي احتلّته، استعملت أدوات ذلك العصر. إذ أعادت إسرائيل توظيف جدار الفصل القروسطيّ للفصل بين فئة أخرى من المسوخ الّتي صنعتها والبشر الّذين تنتمي إليهم. أصبح أولئك الّذين يعيشون خلف الجدار الّذي ’يحمي المدينة‘ مسوخًا متعطّشين للدماء البشريّة، وأولئك الّذين يعيشون في الحصار، هم الخطر الّذي يتعيّن على ’البشريّ/ العاقل‘ السيطرة عليه؛ حتّى لا يتمدّد إلى جسده ويهدّد كيانه.

كلّ ذلك يصوّر الفلسطينيّين بكلّ فئاتهم المسخيّة الهويّاتيّة والمكانيّة، مسوخًا في بلادهم. حتّى إذا لجأت الدولة إلى القتل أو الحبس أو التنكيل، فإنّها تفعل ذلك بمسوخ هجينيّة أو مكانيّة لا تدخل في إطار حقوق ’الإنسان‘. بل إنّ بعض الماسخين سيتبجّحون بعدد قتلاهم من المسوخ الّتي صنعوها.

كانت الأدوات الّتي ابتدعها الغرب في القرون الوسطى لمَسْخَنة صورة أعدائه، من ضمن الآليّات الّتي استعملتها الدولة اليهوديّة في خلق واقعها وبنائه، وفرض سلطتها، وإبراز إنسانيّتها، مقابل المسوخ الّتي صنعتها.

 

الفخّ

المَسْخَنَة، في النهاية، فخّ، يستعملها المستعمِر بالقدر الّذي يُبرّر من خلالها ’إنسانيّته‘ ويشرعنها. فإذا تمرّد المسخ على صانعيه مطالبًا بإنسانيّته، استغلّ الماسخ فعل التمرّد، ولسان حاله يقول: "ها هو مسخي هذا، عنيف، دمويّ، يطلب هلاكي، ففِعله هذا يؤكّد تصوّري عنه"؛ فيغرق المسخ في صفته بالنسبة إلى ماسخيه.

ليس غريبًا، إذن، أن يخاف الماسخ من رواية مَنْ مَسَخَه؛ إذ إنّ وجود رواية تاريخيّة وسياسيّة ودينيّة للمسخ تنفي عنه صفته الّتي فرضها عليه غزاته، وتقلب ظهر المجنّ على الفكر الّذي تصوّره بصفته تلك؛ فيتحرّر الممسوخ من تشويهه، وينتصب إنسانًا في وجه ماسخيه.

 


إحالات

[1] Heyman, A. (2015). Fulcher’s Bestiary at the Door of the Holy Sepulchre. Ad limina: revista de investigación del Camino de Santiago y las peregrinaciones, (6), 99-148; Fishhof, G. (2019). Centaurs in Contexts: The Eastern Lintel of the Church of the Holy Sepulchre, Crusading Spirituality, Agency and Society in the Latin Kingdom of Jerusalem. Mediaevistik, 32(1), 159-199.

[2] أُزيلت المجسّمات المنحوتة عام 1929 للحفاظ عليها من التلف، وأُودِعت متحف روكفيلار في القدس.

[3] هناك اختلافات بين مصطلح "مسخ" ومصطلح "Monster". على أنّني آثرت اعتماد مفردة "مسخ" عوضًا عن مصطلح "وحش"؛ إذ يُحيل المصطلح الأخير، لغةً، إلى حيوان البرّ والبرّيّة دون التطرّق إلى الأخرويّة بميزات عجائبيّة خارقة للطبيعة. أمّا "مسخ" فيشمل العجائبيّة من جهة، والعقوبة الإلهيّة من جهة أخرى، وهو الأقرب، في رأيي، إلى "Monster"، دون أن يكون مطابقًا له.

[4] Arjana, S. R. Muslims in the Western imagination. (Oxford University Press, USA, 2015), p. 21. 

[5] Cohen, J. J. (Ed.). Monster theory [electronic resource]: reading culture. (U of Minnesota Press; Henriksen, 1996) p. 4, L., Bülow, M. H., & Kvistad, E. Monstrous Encounters: Feminist Theory and the Monstrous. (Kvinder, Køn & Forskning, 2017, (2-3), p. 4.

[6] White, D. G. Myths of the Dog-man. (University of Chicago Press, 1991) p. 18.

[7] Cohen, J. J. Of giants: Sex, Monsters, and the Middle Ages (Vol. 17). (U of Minnesota Press, 1999), p 132.

[8] Foucault, M. Abnormal: Lectures at the Collège De France, 1974-1975, (2003), p. 64. 

[9] Zimo, A. E. How marginal is marginal?: Muslims in the Latin East. In Rethinking Medieval Margins and Marginality (pp. 167-185). (Routledge, 2020).

[10] مرجع سابق. 

[11] Gilchrist, J. The Papacy and War against the ‘Saracens’, 795–1216. The International History Review, 10(2), 174-197, (1988), p. 193. 

[12] Munro, D. C., Cheyney, E. P. Translations and Reprints From the Original Sources of European History: Series for 1894. (n.p.): (LEGARE STREET Press. 2021), pp. 4-5.

[13] مرجع سابق. 

[14] Matar, N. Two journeys to seventeenth-century Palestine. Journal of Palestine Studies, 29(4),(2000) pp. 37-50.

[15] أبو سالم عبدالله العيّاشي، الرحلة العيّاشيّة (دار السويدي: 2006)، ص 408-427. 

[16]  Matar, N. 37-50.

[17] يورد بار-يوسف مجموعة من الكتب الّتي نُشِرَت آنذاك مثل The Khaki Crusades (1919)، Temporary Crusades (1919)، The Modern Crusade (1920)، The Last Crusade (1920)، With Allenby’s (1923)، The Romance of the Last Crusade (1923).

[18] Bar-Yosef, E. The last crusade? British propaganda and the Palestine campaign, 1917–18. Journal of Contemporary History, 36(1), 87-109, (2001), p. 87. 

[19] من مقدّمة إسيروف لكتاب الدولة اليهوديّة (1946، ص. 3) الصادر عن دار نشر:  The American Zionist Emergency Council.

 


 

إياد معلوف

 

 

محاضر ومترجم مستقلّ من فلسطين، حاصل على ماجستير الأدب الإنجليزيّ من «جامعة حيفا»، وطالب دكتوراه في الأدب المقارَن في «جامعة تل أبيب».