مخيّم جنين... مِعْماريّة المقاومة

مخيّم جنين خلال العدوان الإسرائيليّ في تمّوز (يوليو) 2023 | Getty

 

إعمار خانق

تحاول هذه المقالة محاورة ما نعيشه اليوم مع المقاومين في جنين، ومَنْ أسمّيهم بـ ’المُزَعْزِعين‘، وذلك من خلال زعزعة ما نألفه بين المكان والزمن للّجوء والعودة في خضمّ الخنق الاستعماريّ، وإعادة التفكير في المفاهيم الكبيرة الّتي دَخَلَتْ على معجمنا بفعل الاستعمار، مثل ’النكبة‘، و’اللجوء‘، و’المقاومة‘.

تأتي إعادة التفكير هنا بعد زيارة مخيّم جنين، لرؤية عمليّة إعادة الإعمار الّتي أُسْقِطَت على المخيّم، مثل الصواريخ الّتي هدمته بعد عام 2002[1]. من قبل، كنت أتوه بين نظريّات الاقتصاد السياسيّ الّتي توضّح آليّات التمويل، والسياسات الليبراليّة والنيوليبراليّة الّتي تُسْتَحْضَر عند الحديث عن إعادة الإعمار. اليوم، أفكّر أكثر في الأنسجة؛ ما بين النسيج العضويّ الّذي يخلق محلّيّة معماريّة ومحلّيّة اجتماعيّة، وتنقلنا إلى حميميّة مساندة بين أهالي المخيّم، وبين نسيج آخر أكثر اتّساعًا، ولونه ’أصفر‘ كلون المباني الجديدة (اللّاعنيفة)، الّتي أُعيد إعمارها بعد عام 2002 في مخيّم جنين، وهو نسيج متخارج عن الأوّل، ويفهم فيه أهل المكان أنّ الاتّساع الجديد كان خناقًا ملوّنًا للمقاومين الّذين زعزعوا الاستعمار ومعدّاته المصفّحة.

المخيّم تَشكّل نتيجة لحالة حضريّة ’لا طبيعيّة‘ زمكانيًّا من خلال خلق حالة اللجوء استعماريًّا؛ فهو يشكّل فكرة المكان والزمان المؤقّت...

استوقفتني على مدى سنوات طويلة جملة قالها لي رجل يُدْعى ’أبو يزن‘ من مخيّم جنين، كانت عند سؤاله عن إعادة إعمار المخيّم بعد معركة عام 2002[2]، وهي الجملة الّتي أخذتني لفهم الأنسجة هنا، آنذاك قال لي: "صحيح لم يبقَ أيّ أثر من الهدم، لا في البيوت ولا في الشوارع، لكن اللّي في بطنه عظام بعرفش ينام، وإحنا مستحيل ننسى شو صار فينا، من 1948 حتّى اليوم".

قبل أيّام قليلة تجمّدنا طويلًا أمام صوت المآذن الصارخة بنكبة مخيّم جنين، وأمام صور أهله وأطفاله يركضون ويصرخون بحثًا عن أمان من استعمار مجرم وقاتل يحيط بهم من كلّ زاوية. يبدو أنّ المخيّم يحيلنا في كلّ مرّة إلى زمن النكبة المستمرّة، لكنّ الأهمّ أنّه يأخذنا دومًا نحو زمن العودة والتحرّر. قبل أيّام قليلة، احْتُفِل - فلسطينيًّا وعربيًّا - بتفجير معدّات عسكريّة صهيونيّة في مخيّم جنين، وبعدها تكاثفت التحليلات الصهيونيّة حول المقدرة الفلسطينيّة في تطوير أدواتها، إلى حدّ الوصف التبريريّ المألوف الّذي يبرّر دومًا العنف الاستعماريّ - للمستعمِرين أنفسهم طبعًا - وهي حجّة ’الإرهاب‘. الحكاية اليوم ليست حول أنّ "التاريخ يعيد نفسه" في مخيّم جنين، إنّما حول استعمار متغطرس وأعمى، لا يدرك كيف أنّ المقدرة على مقاومته لا تنام.

 

زمكان اللجوء

يختلف المخيّم بطبيعة تشكّله عن النماذج المعماريّة الأخرى، ذلك لأنّه تشكّل نتيجة لحالة حضريّة ’لا طبيعيّة‘ زمكانيًّا من خلال التسبّب بحالة اللجوء استعماريًّا؛ فهو يشكّل فكرة المكان والزمان المؤقّت - غير المنتظم لساكنيه - والأهمّ أنّه بنية تخلق مقاومة مستمرّة للاستعمار مؤكّدة على العودة والتحرّر. بذا، كان احتضان مخيّم جنين للمقاومة العسكريّة يشكّل أحد أهمّ مخاوف الاستعمار لعدم القدرة على السيطرة عليه، بفعل مشاركة أهل المخيّم حاضنةً جمعيّة معنويّة ومعماريّة لخدمة المقاومين. كان الهدف، ولا يزال، من وراء اجتياح القوّات الاستعماريّة للمخيّم، هو جعل اللجوء لساكنيه مكرّرًا، والقضاء على أيّ حاضنة للمقاومة فلسطينيًّا.

للمخيّم مورفولوجيا خاصّة؛ بفعل تراكم منازل اللجوء وتقاربها الشديد من بعضها بعضًا، وضيق الشوارع – ليس شارعًا بالمعنى المتعارف عليه - فشوارع المخيّم أقرب إلى فكرة الممرّات الّتي تصل بين أجزائه، أو بالأحرى إلى خطوط الحياة بين أجزائه. عليه؛ فإنّه بالرغم من أنّ تشكّل المخيّم نتيجة صارخة للسياسات الاستعماريّة بعد نكبة 1947-1948، إلّا أنّ التناقضات في الحالة الاستعماريّة تجعل المعدّات القتاليّة الّتي يملكها الاستعمار ضخمة جدًّا على التشوّه القاتل الّذي خلقه، أي المخيّم، وبالتالي، كان هناك صعوبة بالغة للماكينة القتاليّة الاستعماريّة من أن تدخل ممرّات المخيّم وأزقّته للقضاء على المقاومة.

اعتَمَدَتْ سياسة اجتياح مخيّم جنين في عام 2002 على تدمير ضخم شمل المنازل، وارتكز على عنف موجّه ضدّ البنية التحتيّة من استهداف الشوارع، والمستشفيات، وتمديدات الكهرباء، والهواتف، وكلّ ذلك حسب خرائط استعماريّة مسبقة. أحد الأهداف من وراء ذلك الوصول إلى قلب مخيّم جنين، وجعله مكشوفًا للقوّات الصهيونيّة لمنع أيّ ردّ مقاوم من قِبَل المقاومين الفلسطينيّين داخل المخيّم. إستراتيجيّة الهدم هذه لم تُسْتَخْدَم - للمرّة الأولى - عند اجتياح المخيّم في 2002، بل كانت إحدى الإستراتيجيّات الاستعماريّة الّتي تبنّاها شارون من خلال الربط لقوّة تشكيل الروابط الاجتماعيّة عند الفلسطينيّين بين المكان/ المنزل/ الأرض/ الجسد. وبالأحرى، فإنّ هذه السياسة الاستعماريّة لها جذور منذ الاستعمار البريطانيّ، واستخدامه آليّة هدم المنازل في يافا للقضاء على المقاومة في ثورة عام 1936[3].

 

مخيّم جنين، 12 نيسان (أبريل) 2002.

 

الاستعمار الصهيونيّ يكرّر مشهد قصف المخيّم وتجريفه من جديد في 2023، بالرغم من اختلاف بعض شكل الشوارع أو المنازل، بحيث غدت المعرفة المحلّيّة لأبناء المكان أقوى من كلّ المعدّات العسكريّة الّتي توسّع الحيّز للرصاص الصهيونيّ، وحتّى الآن لم تتمكّن من توسيع حيّز بسيط لرؤية وجوه المقاومين. تتّصل هذه المعرفة المحلّيّة في نسيج يعمّق الروابط الاجتماعيّة لزمكان المقاومة، ففي رسالة لسيّدة من سكّان المخيّم تركتها للمقاومين، دلّتهم فيها على باب خلفيّ في حال الانسحاب، وعلى مخبأ كنزها البسيط في الثلّاجة. إذن، وبالرغم من أيّ محاولة لإعادة إعمار توسيعيّة للمخيّم، إلّا أنّ هناك إعادة أخرى لخلق مخبأ جديد، وباب للخروج، لا يعلمه إلّا أبناء الحياة اليوميّة في هذا المكان.

 

الجسد والمِعْمار

يتحرّى النصّ مشهد المكان وتداخله في المعركة، من خلال نصّ متّصل مع الورقة، جزءًا من البناء المعرفيّ، وهو «معركة مخيّم جنين: التشكيل والأسطورة، نيسان 2002» (2012) للباحث جمال حويل. نقتنص هنا إشارات حويل عن تقاطع العمارة داخل معركة مخيّم جنين؛ فَمِنْ تتبّع أحداث المعركة كان الواضح أنّ الفلسطينيّين المقاومين، والمتمركزين في مخيّم جنين، على وعي ودراية كافية بأهمّيّة عمارة المكان ومعرفتهم بها، الّتي كانت تسمح لهم بإدماجها في خططهم العسكريّة ضدّ المستعمِر الصهيونيّ منذ لحظة التخطيط الأولى.

من خلال عمارة المخيّم خُلِقَت بنية تحتيّة للمقاومة احتواها المقاومون وشكّلت درعًا واقيًا. الإشارة هنا إلى أنّ العمارة ليست مطروحة على أنّها فقط جزء من ممارسة استعماريّة تتمثّل بالتدمير الحضريّ، وإنّما تُطْرَح على أنّها فضاء مقاوم بطبيعة حضريّة مختلفة، كطبيعة عمار المخيّم الضيّق ببيوته المتلاصقة. لذا فقد شارك العَمار في غرفة العمليّات المشتركة للمعركة، وتحوّل المخيّم كلّه إلى ميدان مقاومة. يصف ذلك حويل بما يلي: "اتُّفِق على أن يكون هناك مقرّان لغرفة العمليّات المشتركة، وفي حال دُمِّر أحدهما يُعْتَمَد الثاني. وكان المقرّ الأوّل بالقرب من بيت (أبو كمال) الطوباسي، والثاني في بيت بسّام المدمج، إلّا أنّه - ومع تقدّم أحداث المعركة - دُمِّر المقرّان، وأصبحت كلّ البيوت مقرّات"[4]. شمل هذا مشاركة جمعيّة لكلّ جدران منازل أهالي مخيّم جنين: "تقبّل الأهالي طلب تغيير واجهات منازلهم وشبابيكهم وأبواب بيوتهم، وتطبيق أجزاء من الخطّة العسكريّة عبر فتح ثغرات صغيرة في بعض الجدران لمرور المقاومين، أو تنفيذ بعض بنود الخطّة العسكريّة، أو ما اقتضته المواجهات والمعارك المختلفة؛ من فتح طاقات للقنص أو المراقبة، أو غير ذلك"[5].

تزامنت معركة العَمار الفلسطينيّ مع معركة الجسد منذ انطلاقة «انتفاضة القدس والأقصى» [المعروفة بالانتفاصة الثانية] في عام 2000، فالمعركة توسّطت الطرفين، الجسد والعَمار، داخل المناطق المأهولة بالسكّان والعَمار، وأحيانًا المتراكمة والفائضة بهما؛ لتصبح إحدى إستراتيجيّات الاستعمار وتقنيّاته في تغيير طبوغرافيّة المكان الفلسطينيّ، وخاصّة المخيّمات من خلال اختراق الأبنية، والمناورة بين جدران المنازل، والهدم المستمرّ بالبلدوزرات كحلّ جذريّ في خلق رؤية عسكريّة واضحة لاستهداف الفلسطينيّين[6]. وكما يصف حويل، تداخل المِعْمار والمعركة، واستغلّه المقاومون الفلسطينيّون: "اتُّخِذ قرار باعتماد خطّة مشابهة ومضادّة للخطّة الّتي استخدمتها قوّات الاحتلال [الإسرائيليّ] في اقتحام مخيّم بلاطة ’من بيت لبيت‘، وفتح المقاومون في مخيّم جنين ثغرات في الواجهات والحيطان وفي البيوت، حتّى يستطيع المقاومون العمل والسير بمرونة أكبر، فصارت حارات المخيّم - الّتي غدت ’محاور‘، الضيّقة أصلًا - بفعل عدم التخطيط المعماريّ للمخيّم، أشبه بمترو الأنفاق تحت الأرض؛ وهو ما سهّل اختباء المقاومين وحمايتهم نسبيًّا، ومباغتة العدوّ وضربه"[7].

 

الشهيد قائد معركة مخيّم جنين 2002، يوسف ريحان (أبو جندل) (1965 - 2002).

 

كان المستعمِر عاجزًا أمام تحكّم المقاومين بمعماريّة مكانهم، وبنسيج الترابط الاجتماعيّ، ولذلك لم يكتفِ باستخدام القنّاصة بين فتحات الجدران، أو باستخدام الدبّابات والقذائف الصاروخيّة، بل بدأ إحساس الهزيمة تجاه المكان، وصعوبة الوصول إلى المقاومين بعد أكثر من أسبوع في حصار المخيّم، وتحديدًا عندما اشتدّ النقم على المخيّم بعد قتل ثلاثة عشر جنديًّا صهيونيًّا. في تلك اللحظة، بدأ دمار الجرّافات يلحق بالمخيّم عَمارًا وناسًا، بل اشتدّت اللعبة بين عَمار المخيّم والمستعمِر إلى حدّ تدمير كلّ المخيّم ورصفه رمادًا. لقد انتهت هذه المعركة بخاتمة مؤلمة باستشهاد مجموعة كبيرة من المقاومين، ومن سكّان المخيّم. ومن الصور الّتي أرشفت حدث سقوط كلتا المقاومتين (الجسد/ العمارة)، صورة الشهيد (أبو جندل) قائد معركة جنين، فبعد أن قُتِل أبو جندل، رُمِيَت جثّته على كتلة من ركام جدران المخيّم، الّتي سقطت بذاتها في نفس المعركة.

 

عبث إعادة الإعمار

يأتي مشروع إعادة الإعمار أثرًا متواصلًا لعمليّات الهدم الّتي حصلت على مِعْماريّة المخيّم، مشعلًا جدلًا حول كيفيّة هندسة العَمار الجديد، ومنها اقتراح المهندس القائم على المشروع  إبقاء المساحات الّتي هدمها الاستعمار الصهيونيّ في مخيّم جنين كجزء من توسيع الطرق والممرّات داخل المخيّم، والّذي قُوبِلَ باعتراض الأهالي وأعضاء بعض الأحزاب، لكون الإبقاء هذه المساحات المفتوحة وتوسيع الطرق ما هو إلّا عمليّة تسهيل لدخول دبّابات الاستعمار في المرّات القادمة. مع تجاهل الاعتراضات حول إعادة الإعمار، تحوّل المخيّم إلى شكل هندسيّ عماريّ جديد منتظم، خلق عند بعض اللاجئين شعورًا مفروضًا بوضع تجذّر وهميّ مع المنزل الجديد[8]؛ ليضعهم في متاهة العمارة مُنْتَجًا اجتماعيًّا من حيث سؤاليها: أين نحن؟ ومَنْ نحن؟؛ لتدوس بذلك عمارة الزمن الكولونياليّ على المكان، ووعينا بالمكان[9]. عَمِلَ مخطّط توسيع شوارع مخيّم جنين ونقل أمكنة المنازل نحو الأطراف، كسياسة تعمل جاهدة على الحدّ من إمكانيّة عودة خطاب المقاومة العسكريّة الفلسطينيّة، وتهدف أيضًا إلى تقليص الوعي التحرّريّ، وحاضنة الجدران المخيّميّة الّتي تجلّت في مخيّم جنين.

يقول لنا أبو يزن: "كانت السلطة مفكّرة تعمل سور حول البيوت اللّي انهدمت، ويطلعوا السكّان من المخيّم، كلّ هذا علشان يلغوا مخيّم جنين، وفي قسم كبير بنوا بيوت الناس على أطراف المخيّم من أجل إنّه يوسّعوا على الناس، وخلّوا الإسرائيليّة يوخذوا راحتهم وينبسطوا لمّا يدخلوا المخيّم، وكلّ خمس بيوت بلفّها شارع عشان لمّا مقاوم يحاول يتخبّى، ما يعرف يتخبّى بأيّ زقّة".

تطرح الحوارات العديدة مع أهل المخيّم مجموعة من التصوّرات عن المكان الجديد، وكيف خُطِّط له، لكن لم تُخْفِ بقايا الوعي أو الاتّصال بماضي معارك المكان الّتي شهدها المخيّم، مع إشارتهم إلى وعيهم بالسياسة الاستعماريّة الّتي تريد إقصاء المكان بكامله، وسيطرة سلطة جديدة لتمويل المِعْمار على الوعي نحو ’لاعنف‘ المقاومة، و’لاعنف‘ المِعْمار.

يشير أهل المخيّم إلى وعيهم بالتواطؤ من أجل قولبة المخيّم، ومنع إعادة أيّ إنتاج عسكريّ داخل المخيّم، سواء من قِبَل المستعمِر أو مِنْ قِبَل السلطة الفلسطينيّة، أو حتّى بسياسة المعونات الّتي أصبحت تسيّر الوضع فلسطينيًّا. يتّضح ذلك من إجابات المشاركين عن سؤال: هل ثمّة إمكانيّة لحدوث معركة مقاومة جديدة كما حدث في 2002؟

يقول أبو بسّام: "ما في قانون في المخيّم، سيّارات مسروقة، و’فيسبات‘ ومخدّرات، الشرطة بتتدخّل لمّا بدها، ولمّا ما بدها تتدخّل بتحكي ’فخّار يكسّر بعضه‘، بِدْهُم الفوضى عشان يضلّوا مسيطرين على الحكم، فكيف رح تصير مقاومة جديدة؟".

يشير أهل المخيّم إلى وعيهم بالتواطؤ من أجل قولبة المخيّم، ومنع إعادة أيّ إنتاج عسكريّ داخل المخيّم، سواء من قِبَل المستعمِر أو من قبل السلطة الفلسطينيّة...

يقول أبو محمّد حواشين: "لا، ما بتوقّع إنّه ينقصف  المخيّم مرّة ثانية، وما فيه تجمّع للفصائل السياسيّة كأيّام أوّل، وبصراحة أهل المخيّم انقرصوا، يعني لا سمح الله مثال غزّة اليوم بخلّينا نفكّر إن كنّا محظوظين بإعادة إعمار المخيّم، بينما في غزّة بيوتهم بعدها مدمّرة".

ثمّة غضب في حديث المشاركين على السلطة الفلسطينيّة، وذلك في محاولة سكّان المخيّم القطع بين النخب الّتي تدّعي تملّك الحركة الوطنيّة، الّتي في رأيهم خذلتهم فترة الاجتياح، وحتّى اليوم الحاضر، مع تفاقم تهميش المخيّم، وعدم وضع سياسات وطنيّة تضمّ اللجوء والمقاومة وأبناء المقاومة[10]. بل ما ناله سكّان المخيّم هو مجموعة من الإشارات الّتي تنزعهم عن مكانهم وذاتهم، ليس فقط مِنْ قِبَل المستعمِر، بل مِنْ قِبَل خطاب اللاعنف، المرتكز على عدم إنبات جذر جديد بين مَنْ احتضنوا القرار العسكريّ في مواجهة المستعمِرين. لكن، كيف تزعزعت كلّ السياسات الاستعماريّة في هندسة الزمكان لمقدرة المقاومة؟

 

 "اللّي في بطنه عظام، بعرفش ينام"

شهدت السنوات الثلاث من 2021 إلى 2023، العديد من النوافذ لتفجّر المقاومة وتنفّسها في كلّ مناطق فلسطين من شمالها إلى جنوبها. من أبرز الأحداث ما شهدناه من هروب لستّة أسرى فلسطينيّين من جنين، من داخل «سجن جلبوع» الاستعماريّ، وتعالى صوت المخيّم للجوء إليه وأن يحتموا به[11]. بالرغم من أنّ عمليّة هرب الأسرى لم تكتمل، إلّا أنّ حاضنة المخيّم عادت لتقول إنّ الجدران والأجساد في المخيّم لا تتوانى عن أن تكون نفقًا يحمي الأسرى ويقاوم المستعمِر.

شهدنا، أيضًا، الحراك السياسيّ الّذي انطلق من حيّ الشيخ جرّاح في القدس [المعروف بهبّة أيّار أو الكرامة 2021]، وقَطَعَ الجغرافيا الاستعماريّة في فلسطين، وامتدّ من الشمال إلى الجنوب مطالبًا بالمقاومة والتحرّر. تمفصلت غزّة مع القدس في معركة «سيف القدس» خلال هذا الحدث، وحثّ ذلك على معركة متجدّدة في عام 2022 بعنوان «وحدة الساحات». ما بين المعركتين، برز لدينا في مخيّم جنين شابّ أُطْلِق عليه ’مجدّد الاشتباك‘، وهو جميل العموري، وعُرِف عنه استهداف الحواجز العسكريّة الصهيونيّة بالرصاص، وقد اغتاله الاستعمار في عام 2021. من بعد العمّوري احتضن المخيّم «كتيبة جنين» الّتي يُعْتبَر العمّوري مؤسّسها. رسَمَتْ هذه الكتيبة من جديد معالم المقاومة العنفيّة وغرفة العمليّات المشتركة، والاشتباك مع البنية الاستعماريّة من مستوطنات وحواجز. ومع أنّها صُنِّفَت كتيبةً تابعة لـ «الجهاد الإسلاميّ»، إلّا أنّها لاحقًا أصبحت عابرة للفصائل الفلسطينيّة جميعها. تمركزت الكتيبة في المخيّم، وأنتجت امتدادات للمقاومة من حوله مثل قباطية، ليظهر بعدها كلّ من «كتيبة بلاطة» و«عرين الأسود» في نابلس.

لم ينفصل نشوء الكتائب الجديدة عن سياق نوافذ المقاومة الأخرى، الّتي علت بصوت العنف الثوريّ المسلّح في كلّ فلسطين؛ حيث كانت مناطق الضفّة الغربيّة والقدس تُنْتِج يوميًّا، وبكثافة، منذ عام 2015، ما أُطْلِق عليه وصف ’العمليّات الفرديّة‘ [المعروفة أيضًا بعمليّات الذئب المنفرد] الّتي وُجِّهَت ضدّ المستعمِر، والّتي لم يكن مخيّم جنين منفصلًا عنها، أو مُدَجَّنًا، كما كان يُتَوَقَّع أن تؤدّي إليه إعادة إعماره، ومحاولة تصفية بنية المقاومة فيه.

أبرز العمليّات الفرديّة ضمن العام الماضي، 2022، من مخيّم جنين، كانت عمليّة المقاوم رعد حازم، الّذي وصل بطن الكتلة الاستعماريّة في تل أبيب، مفجّرًا عنفه الثوريّ في شوارعها، ومتنقّلًا بين مناطق أراضي 48 المستعمَرة لمدّة ثماني ساعات، مخترقًا فيها صرامة البنية العسكريّة والأمنيّة، الّتي يدّعي الاستعمار أنّه حصّن نفسه فيها ضدّ أيّ نفاذيّة للمقاومة.

رعد ابن مخيّم جنين، وابن شقيقة الشهيدين عثمان السعدي الّذي استشهد على أرض لبنان، والشهيد محمّد السعدي الّذي ارتقى بعد اشتباك مسلّح مع القوّات الصهيونيّة في انتفاضة الحجارة [المعروفة بالانتفاضة الأولى]. نفّذ رعد عمليّته في الذكرى العشرين لاقتحام مخيّم جنين 2002، وتزامنت عمليّته مع ذكرى الفخّ/ الكمين الّذي قتلت فيه المقاومة ثلاثة عشر جنديًّا صهيونيًّا في المخيّم. هذا الشهيد الّذي كان محاطًا بشهداء آخرين، وشهداء مؤجّلين يُفْقَدون يوميًّا في المعارك مع الاستعمار. استشهد رعد، ورفض والده وعائلته تسليم أنفسهم للاستعمار، ليستشهد أخوه بعده بفترة قصيرة، وتبقى جدران المخيّم تحمي أباه المطارَد، الّذي نراه مع التمظهر العسكريّ لـ «كتيبة جنين» عند استشهاد المقاومين من المخيّم والكتائب الأخرى.

 

عودة المخيّم 

يمكن القول إنّ جيش الاستعمار الصهيونيّ دائم التصريح بمخاوفه تجاه «كتيبة جنين» والكتائب الجديدة الأخرى. بالرغم من المحاولات العديدة لاغتيال المقاومين، إلّا أنّ معركة اجتياح جديدة للمخيّم كانت دومًا محلّ التخوّف الاستعماريّ؛ لأنّ هذا الزمن الطويل الّذي صمتت فيه "وحدة الفصائل العسكريّة"، لم يكن إلّا عودة التحام لنسيج المخيّم الّذي رمّم نفسه منذ معركة 2002، مع تفجير كلّ المعدّات الصهيونيّة الّتي حاولت الولوج إلى مخيّم جنين هذه المرّة؛ فعلى الرغم من ستائر إعادة الإعمار الّتي حاولت نزع طبيعة المخيّم المقاومة، إلّا أنّ المخيّم ولّد تيّار مقاومة مختلفًا، وروحًا جمعيّة متضامنة ومتجدّدة بين أركانه، ومع المخيّمات والمناطق الفلسطينيّة الأخرى، ويحاول إنتاج التنظيم الذاتيّ في خياطة نسيجه في كلّ مرّة يُمَزَّق فيها لمواجهة أيّ عامل يحاول الإطاحة به، وصدّ أيّ محاولة لاقتحام الجيش الاستعماريّ الّذي لم يمكث فيه 48 ساعة لإتمام حلم اغتيالاته في المخيّم.

الوجود الاستعماريّ نفسه، واستمرار عمليّات النهب، والاجتثاث للجسد والحجر بشكل متواصل، يصبح محفّزًا دائمًا لإعلاء مقدرة المقاومة بأنواعها المختلفة...

يحيلنا هذا كلّه إلى ردّ مستمرّ لفاعليّة المقاومة المسلّحة على خطابات المقاومة السلميّة/ اللاعنيفة، وعلى تجميل مكان اللجوء وتوسيعه، على أنّه مجرّد صمت مؤقّت، بانتظار إعادة رسم التكتيكات لزعزعة المستعمِر. وبعكس الخطّة الاستعماريّة الّتي حصرت مكان المقاومة داخل المخيّم نفسه، توسَّع المخيّم وانتشرت مقاومته وصوت عودته، عندما نفّذ عبد الوهّاب خلايلة عمليّة فرديّة في البطن الاستعماريّة تل أبيب، في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، في ذات الوقت الّذي كانت القوّات الصهيونيّة تلهث فيه داخل مخيّم جنين.

إنّ الوجود الاستعماريّ نفسه، واستمرار عمليّات النهب، والاجتثاث للجسد والحجر بشكل متواصل، يصبح محفّزًا دائمًا لإعلاء مقدرة المقاومة بأنواعها المختلفة. يمكن القول إنّه، وبالرغم من أزمة المشروع التحرّريّ الفلسطينيّ، وأزمة الأحزاب، وأزمة الخطابات الليبراليّة والنيوليبراليّة التمويليّة، إلّا أنّ ظهور مُزَعْزِعينَ جدد بأدوات جديدة من العنف الثوريّ، باتّصالهم أو انفصالهم عن الأحزاب والفصائل الفلسطينيّة، إلّا أنّهم يشكّلون حالة مختلفة من معركتنا المتواصلة مع الاستعمار. ومع كلّ تفصيل من تفاصيل الحياة المستلبة تحت الاستعمار تُولَد حياة أخرى تزعزع كلّ مفاهيمنا الكبيرة الّتي خنقنا بها الاستعمار.

في النهاية "اللّي في بطنه عظام بعرفش ينام"، والاستعمار ما هو إلّا العظم الدخيل الموضوع داخل نسيج رافض.

 


إحالات

[1] جاءت عمليّة اقتحام جنين في 2002 امتدادًا لعمليّة «السور الواقي»، الّتي شنّها الاستعمار الصهيونيّ على مدن وقرى الضفّة الغربيّة؛ بحجّة ’تطهيرها‘ من "إرهابيّي العمليّات الاستشهاديّة"، وكان اقتحام مخيّم جنين تبعًا لتمركز الفصائل العسكريّة الفلسطينيّة وتوحّدها داخل المخيّم. راجع، حويل جمال، معركة مخيّم جنين، التشكيل والأسطورة نيسان 2002، رسالة ماجستير منشورة، جامعة بير زيت، 2012. نُشِرت الرسالة مِنْ قِبَل مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2022.

[2] ياسمين قعدان. مواراة الموت في معماريّة الفضاء الاجتماعيّ الفلسطينيّ، رسالة ماجستير منشورة (رام الله: جامعة بير زيت، مؤسّسة مواطن، 2017).

[3] عادل غنيم. الحركة الوطنية الفلسطينية من ثورة 36 وحتّى الحرب العالمية الثانية، (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1980).

[4] جمال حويل، مرجع سابق، ص 62.

[5] مرجع سابق، ص 64.

[6] Eya Weizma, hollow land "Israel's architecture of occupation", (London: Verso, 2007), pp. 185-210.

 [7] جمال حويل، ص 67.

[8] Eya Weizma, hollow land "Israel's architecture of occupation".

 [9] رهيف فيّاض، العمارة ووعي المكان (بيروت: دار الفارابي، 2004)، ص 107.

[10] صايغ روزماري، تجسيدات الهويّة لدى مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين، رؤية جديدة للمحلّيّ والوطنيّ (بيت لحم: بديل/ المركز الفلسطينيّ لمصادر حقوق المواطنين واللاجئين، 2009)، ص 20.

[11] إبراهيم ربايعة. الهبّة والاشتباك: نموذج "التدجين" وسقوطه في جنين، شؤون فلسطينيّة، ع 287-288، ربيع وصيف 2022، ص 8-33.

 


 

ياسمين قعدان

 

 

مرشّحة الدكتوراه في العلوم الاجتماعيّة من «جامعة بير زيت»، تدرس أطروحتها الإيكولوجيا السياسيّة، معاني الأرض ومسارات الحياة اليوميّة في زمنيّة الفلّاح الفلسطينيّ.